مهدي شاكر العبيدي : الطارئون على الحياة الأدبية

mehdi 6* أوستن – تكساس

ثمَّة ظاهرة ٌتكررَتْ غيرَ مرَّةٍ في حياتنا الاجتماعيَّة والأدبيَّة ندر أنْ التفتَ إليها أحدٌ أو وقف عندها متأملا ً أو داعيا ً لتفاديها ووقاء بعض أفراد الجيل الطالع من إغرائها وفتنتها وتحفيزه على أنْ يلتمس من السُّبل غيرها للتدليل على جدارته بالحياة ، ورصيده من الموهبة الأدبيَّة والفنيَّة ، يوحي بها للناس أنـَّه صنع شيئا ً يلزم إثابته وتقديره عليه ، بمثل ما كان أسلافنا في العصور الأولى يحيون الأفراح والابتهاجات حين يلمع من بينهم شاعر يغدو مناط الفخر والتيه والازدهاء بالنسبة لأهله ولداته .

فما أنْ يُشرف الناشئ الفتيُّ على عتبات المراهقة النفسية والوجدانية والبدنية إذا ساغتْ مثل هذه التوصيفات والتشخيصات ويرادف ذلك شيء من النتاج العقلي ، خاصة إذا أنصَتَ بكليته إلى مدرِّس الأدب والنصوص مستطردا ً عبر حديثه المُشوِّق العذب إلى دوره ـ أي الأدب ـ في نهضة المجتمع ورقيِِّه وما يوليه ويدين بهِ من فضل ومأثرة لبعض الأعلام من شعراء وكـُتـَّاب ، وكيف انـَّهم غالبوا المعوِّقات والصُّعوبات في تدارس روائع الأدب العربي أو استوعبوا ثقافات بعض الأمم وأدركوا بفطنتهم أنَّ الأدب الحقيقيَّ ليس زخرفا ً لفظيا ً إنـَّما هو إبداع وتعبير فني واستيحاء لما في النفس من عاطفة ووجدان , واستلهام من الأنظار الفكرية التي ينظر بها الأديب إلى العالم ومعها استجاباته ومواقفه وانطباعاته عن مجريات الحياة في مجتمعه , فإنْ راض سليقته على الصِّدق والإخلاص غدَتْ مسألة الألفاظ اللغوية ومواتاتها وتطويعها لحاجته تأتي في الدَّرجة الثانية من عناصر استيفائه وحيازته لمواصفات الإبداع والابتكار وأدوات التعبير والصِّياغة , إنْ لمْ يَرْبُ في حسن ِاستخدامها وتميَّز نتاجه بالترسُّل والإشراق والعفوية على كثيرينَ قتلوا العمر في حفظ النصوص الجامدة العادمة لأيِّ ملمح من رواء وخلابة فنية ، إنـَّما هي رصفٌ لغرائب المفردات وتجميع لما عفا عليه الزَّمن منها ، وحمل للنفس على ما لا قِبَلَ لها به من الحذلقة والتصنع .

قدْ يندفِعُ مدرِّس الأدب في المرحلة الثانوية إنْ كانَ مواكبا ً للتحولات الأدبية والثقافية فيرصد من وقته ما يستنفده في قراءة الصَّفحات الأدبية في الصُّحف أو الدِّراسات الرَّصينة في المجلات ، دون أنْ تمسكه عنها تعلات في القيام بشؤون الأولاد ومداراة متطلبات الحياة الزوجية ، نقول قد يندفع هذا المربِّي في البوح بمثل هذه الخطرات والآراء عن أهمية الأدب وقيمته الجمالية وحظوظ الأدباء من الاعتداد ونظرة الناس حيالهم بالتوقير والكرامة ، مخفيا ً عن طلبته أنَّ الأدباء المُجاوزينَ لطور البداية والتمرُّن أو الذين أجمع الآخرونَ على تألقهم وتمرُّسهم يتأسَّوْنَ بهذا النظر المنصف الذي يثيبهم بهِ سواد الناس عمَّا يواجهونه في الوسط الأدبي من آن ٍ لآن من منافساتٍ دونها في التخرُّص والافتئات نظيرتها المشروعة التي تشيع في السُّوق التجاري .

ولله كمْ جنى ذاك على رعيل من فتياننا إبَّان سنوات بعيدة وجرَّهم إلى الحمق والجهل ، وصرفهم عن التفكير بما يلزم مستقبلا ً من حياة مستقرَّة لا يفي بأسبابها غير العمل الوظيفي الذي يشترط مؤهلا ً دراسيا ً معينا ً ، وغيره ممَّا نصطلح عليه من حرفة أو مهنة أو ( صنعة ) بلغة العموم تستدعي لدوامها ونمائها رصيدا ً ناجما ً عن الكدِّ والتعب ، وتكون محظوظا ً لو تأتـَّى لك ذلك عن ميراث .

وكذا شُغِلَ غير واحدٍ في ماض ٍ بعيد بآثار جبران والمنفلوطي عن مكوناتِ المنهاج الدِّراسي ، أمَّا لماذا شُغِلَ بهذين دون غيرهما من الأعلام المشهورين ؟ ، فلأنَّ ذلك هو النهج المألوف في تدريب السَّليقة وصقل الموهبة الأدبيَّة ، ولأنَّ المسافة بينَ غيابهما والزَّمن الذي درج فيه أولاء المخيبون لمْ تتسعْ بعد كما صرنا اليوم ننظر لمناسبة هذا الغياب والتواري بوصفهما تاريخا ً بعيدا ً أو لأنـَّهما يملكان من الحضور في الحياة الأدبية العربية ، وتلقى معطياتهما من الاستهواء والإعجاب وتكريس اتسامهما بالعمق والنضج والخصوبة , غير ما تـُجزَى به الآن من لدن البعض على أنـَّها قرينة السَّطحية والكلام العادي واللفظيَّة الجوفاء الخاوية .

أمَّا ما عُنِيَ بهِ هواة الأدب في عقدِ السِّتينيات من القرن الماضي وفرَّطوا بما تنيطه المدرسة بهم من احترام لنظامها وعمل بتوجيهها وسوغ لما هو مقررٌ تلقينه من مادة علمية ، فلا يتعدَّى أدبيات الهلوسة والتعتيم من كتابات يتبجَّح ذووها بارتباطهم بروح العصر وتعبيرهم عنها ، وكذا يغدو في حسبانهم هذا اللغو أروع في نسجه وأبدع في صياغته وأدلَّ على فنيته وصدقه من مأثورات الأدباء الأصلاء المطبوعينَ الذين يرميهم أولاء بضعف لغتهم وقصور أدواتهم التعبيرية وسَرَفهم في التقليد ومحاكاة النماذج السَّابقة ، لنقرأ :ـ
ظلي على خصْري
كجَرَّةِ المياه في الطريق
وطوِّلي شعرَك يا حبيبة
لأنـَّني نعسان
طوِّليهِ يا حبيبة
مهما كان

********
والعنكبوتُ يدورُ في الرَّأس الحليق
طينٌ عتيق

********

تعضُّني أمِّي التي أثدائها حجارة

********

وللقارئ أنْ يمنحَنا ثقتهُ أو لا يمنحَنا ، ويُصدِّقَ أو لا يصدِّق ، أنـَّنا ننقلُ هذا الكلام الذي ملؤُهُ الهذيان والثرثرة الفجَّة والادعاء العقيم عن مجلات لبنانية مشهورة على أنـَّه شعر متجدِّدٌ ومراع ٍ لسُنـَّةِ التطور , وتقول ما أدراك بدراية هذا النفر وحسن استعماله للمقاييس الأدبية ومعرفته بعناصر العمل الفني ومكوناته وقدرته على التفسير والتحليل والتمييز بين الأساليب ، حتى تضفي عليه من الأهمية ما لا يسعها حجمه المحدود ويضيق عنها ، فلو كان حقا ً على هذا القدر من النضج والذكاء والفطنة ـ وهي من جملة خصائص الناقد المتذوق ـ لعُدَّ الطموح الأدبي رغبة له مؤجلة لحين انتهائه من التحصيل المدرسي ويعدوه إلى أنـَّه أغزر فهما ً وأكمل ثقافة من بعض مدرِّسيه لأنـَّه استوعب عددا ًمن مجلة ( شعر ) ، أو وقف على بعض نتاجات أدباء الغرب ومؤلفاتهم ؟ .

وجواب ذلك نلفيه في تقليد مرادف للنشأة الأدبية غالبا ً ، منه تـُتخَذ القدوة سيئة أو حسنة ، فقد يلقى الدَّارج الفتي في بداية عهده بالقراءة واختبار قابليته الكتابية أناسا ً يخالهم أدباء كبارا ً ويُحسِنُ ظنا ً بأحكامهم ونظراتهم , ويبلغ به الإعجاب والتعلق حدا ً يستحيل معه وجدانه ونفسه وضميره صدىً مُردِدَا ً ومرآة عاكسة في حال من التخلي عمَّا يجمل بالإنسان من اعتداد واحتراز من محاباة هذا ومجافاة ذاك في الخصومات والمعارك الأدبية .

والغريب أنْ شهد الواقع الأدبي في مصر إبَّان العقود الماضية ظهور مثل هذه السَّلائق البشرية يماثل ذووها في خيبتهم وإخفاقهم وإيَّابهم بقبض الرِّيح في تحصيل مدرسي أو حضور أدبي ما ظهر عندنا غير مرَّةٍ من عينات وأصناف في مدَّعياتهم وسفاسفهم عن تخلف أدبنا وحاجته إلى التلاقح وآداب الأمم الحية ، بعد أنْ يمهِّد لذلك بنبذ الثقافة القديمة ، فقد أفاض عبد العزيز الدّسوقي في رسالته العلمية عن ( جماعة أبولو ودورها في الشِّعر الحديث ) عن خصومات أحمد زكي أبي شادي وخلافاته مع المقلدينَ المستكثرينَ عليه اهتماماته العلمية والأدبية المتنوعة ، وجهوده في توحيد الأدباء وانضمامهم إلى مدرسته ، حتى تشكى غير مرَّةٍ من تأليبهم عليه الرَّاسبينَ في الامتحاناتِ والفاشلينَ في الأدب .

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

حــصــــرياً بـمـوقـعــنــــا
| أحمد خيري : الكتابة وفضيلة أن نكون اجتماعيين “قراءة في كتاب اعترافات بلا كمامات” .

قد يكرّس المثقّف موهبته لحملِ رسالةٍ ما، أو تمثيلِ وجهة نظرٍ ما، أو موقفٍ ما، …

| عبد الرضا حمد جاسم : الاحتلال الأمريكي للخليج و الجزيرة العربية 1/4 .

مقدمـــــــــــــــــــة: ونحن في أيام ذكرى الهجمة الامريكية الصهيونية العربية لتدمير العراق و من ثم احتلاله …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *