ناطق خلوصي : هموم المرأة الشرقية في رواية ” خمس نساء “

natek 4تستعير الروائية حنان المسعودي لغة السينما فتوظفها في تشكيل البناء السردي لروايتها ” خمس نساء ” الصادرة عن دار ضفاف في العام 2014، حيث يعتمد هذا البناء على توالي المشاهد القصيرة والتنقل السريع والمتواتر في الزمان والمكان ، وإن كان هذا التنقل يجري في مساحة مكانية محدودة ، مع حضور نسبي للاسترجاع ، فيخيل للمرء ان الروائية تستخدم عدسة كاميرا  حتى لتبدو كأن روايتها مشروع سيناريو فيلم سينمائي ، أو حتى مسلسل تلفزويوني .

تقع الرواية في 193 صفحة من القطع المتوسط ، تتوزع على ثلاثة وأربعين فصلا ً يحمل كل منها رقما ً ، وهي بالأحرى مقاطع أكثر من كونها فصولا ً .

تنتقي الروائية ( وهي طبيبة ) شخصياتها النسائية من وسط اجتماعي واحد ومن مستويات ثقافية متماثلة ، وقد حصلن على تعليم جامعي باختصاصات مختلفة ، وبالتالي فإن عنصر الصراع ظل محدودا ً بسبب غياب الاختلاف  في الانتماء الاجتماعي ، فاقتصر على الصراع الثانوي ، وربما الهامشي  : الصراع داخل النفس أو داخل الأسرة الواحدة ( بين الزوج والزوجة في الغالب ) وهو من نوع الصراعات المألوفة في كل مجتمع ، وبالتالي فإن الرواية رواية شخصيات أكثر من كونها رواية أحداث . خمس نساء يظهرن كأنهن بلا هموم وهن ينفتحن على الحياة ، لكن كلا ً منهن تخفي هما ً خاصا ًبها يشكّل جزءا ً من الهموم العامة التي تعاني منها المرأة في المجتمعات الشرقية . كانت علاقة الصداقة الحميمة بينهما قد بدأت منذ الطفولة وتواصلت وهن يجتزن المراحل الدراسية المختلفة الواحدة تلو الأخرى حتى أكملن تحصيلهن الجامعي ، لتستمرهذه العلاقة بينهن حتى بعد أن توزعن  زوجات ( أو كادت احداهن أن تكون ذلك ) وقد تجاوزن الأربعين ، أي انهن في مرحلة النضج ، عندما تبدأ الرواية .

hanan almasodiتكرّس الروائية الصفحات الأولى لروايتها للتعريف بشخصيانها واحدة بعد الأخرى معتمدة الوصف من الخارج بشكل خاص ، قبل أن تتوغل في دخيلة نفس كل منهن ، فتقدم صورة لكل شخصية : واضحة ومتوافقة خارجيا ً وداخليا ً ، وتضع رجلا ً أو أكثر في مقابل كل واحدة وإن بدا دور الرجل ثانويا ً أو هامشيا ً ، مما يشي بانحياز الروائية الى بنات جنسها والانتصار لهن .

تبدأ الرواية بشخصية رنين ( وتنتهي بها أيضا ً ولكن بنهاية مغايرة ) . ورنين هذ ه فنانة تشكيلية تقول عنها الروائية انها تبدو كأنها عارضة أزياء متمرسة وليست امرأة في خريف العمر ، وهي متزوجة من أياد منذ احدى عشرة سنة ، عقدتها انها لم تنجب ، وقد دأب زوجها على اثارة مواجعها لهذا السبب على الرغم من علمه بأنها ” راجعت أفضل الأطباء المختصين في هذا المجال وأجمع كلهم أن لا خطب فيها مطلقا ً ” ( ص 51 ) ، لذلك نراها حزينة ونسمعها تقول ” أنا محتاجة جدا ً لميناء سلام ، وأنا متعبة من قصص الحب وأخبار الغرام … أنا يائسة حقا ً ووحيدة ، أحتاج أن أشكو همومي الى صديق من جنس مغاير ، يكون لي ظلا ً أستفيء به .. ليسمعني ولا ينظر اليّ كأنثى ” ( ص 53 ) ، بمعنى انها كانت تبحث عما يعوضها عن تجاهل زوجها وعدم اهتمامه برغبتها في الرسم الناشئة عن رغبة في التعويض هي الأخرى ، مثلما تحاول التعويض عن حرمانها من الاحساس  بالأمومة باهتمامها بأطفال صديقاتها . وقد ظنت رنين انها وجدت ميناء السلام المنشود حين تعرفت على نبيل مراد ، وهو فنان تشكيلي كبير ،  ما تلبث أن تكشف حقيقة نواياه من وراء اعجابه الشديد بأعمالها ، واذا به يلاحقها بحبه مع علمه بأنها متزوجة . ولأن لعنصر المصادفة حضوراّ  واضحا ً في الرواية ، فإن رنين تنساق وراء رغبة نبيل للانفراد بها في مكان عام فتصحبه الى مطعم تشاء المصادفة أن تذهب اليه صديقتها زيتب ( وهي احدى النساء الخمس ) بصحبة زوجها رياض ، ويقع بصرهما عليها وهي تجالس رجلا ً غير زوجها ويسيئان الظن بها فيزداد احساسها بالمأساة التي تبلغ ذروتها حين يتبين انها مصابة بورم في الدماغ ، ولا تخفي الروائية تعاطفها مع شخصيتها هذه  : ” وحلقت رنين كطائر نوس فوق المحيط  …. تحف بها عيون صديقاتها ودعواتهن ” ” ( ص 193 ) وكأنها تومىء الى رحيلها ،  مثلما تومىء باجتماع صديقاتها من جديد الى ان الحياة تتواصل رغم كل شيء .

أما زينب ، فهي ثاني الصديقات ، أكملت دراستها في قسم اللغة الفرنسية في كلية الآداب ، لكنها تزوجت من رياض غازي وهو محام ِ مغرور فكرست حياتها له ولأطفالها منه ولبيتها ، وكانت قد نشأت في عائلة محافظة وظلت ملتزمة دينيا ً بخلاف صديقاتها الأربع رغم انها لم تنقطع عن صديقاتها  وكانت تختلف عنهن في كونها ضعيفة الى حد الاستخذاء أمام زوجها ، و ” كانت تمثل هزيمة المرأة في الصراع الأزلي بين كينونتها وسطوة الرجل ” ( ص 11 ) ، وطلت مهزومة ومأزومة نفسيا ً ، ترزح تحت وطأة سطوة زوجها  زمنا ً وقد كان يعاملها باستعلاء وبحاول منعها عن التواصل مع صديقاتها ، بل انه حمّلها مسؤولية فشله في الدفاع  عن أحد المتهمين في المحكمة ولم يتورع من الاعتداء عليها بالضرب وبدت خانعة ، مستسلمة رغم انها كانت ترى ان زواجها منه انما هو زواج من طرف واحد . كانت منغلقة ومتزمتة دينيا ً وتتشبث بالحفاظ على الفضيلة ، وقد دفعها ذلك الى أن تصفع رنين التي كانت قد ذهبت اليها لتوضح لها حقيقة انفرادها بنبيل في المطعم ، محكومة بتأثير زوجها عليها ، لكنها وجدت فرصتها في التمرد حين رأت زوجها يتحرش بصديقتها رنين . غير ان مصادفة عودتها الى زوجها تبدو مصطنعة بعض الشيء .

kh hanan almasodiوحرصت الروائية على أن تقدم نموذجا ً للتعايش والتسامح بين مكونات المجتمع العراقي من خلال شخصية منال  التي تختلف دينيا ً عن صديقاتها الأربع ولكنها تبدو واحدة منهن ، فهي مسيحية ، قوية الشخصية حتى ان صديقاتها كن يطلقن عليها تسمية هتلر لهذا السبب.  وكانت تقدم صورة مغايرة لرنين وزينب  فقد تميزت بالصرامة ، وبخلافهما ،هي التي أهملت زوجها مهندس الديكور سعد متعللة بانشغالها في العمل وكان هو الذي يبحث عن بديل يعوضه عن احساسه باهمال زوجته له ، وكاد يجد هذا البديل متمثلا ً في شخصية مدام مريم التي يمكن اضافتها للتساء الخمس ليصبح عددهن ستا ً . ومدام مريم هذه أرملة كانت متغربة مع زوجها الذي رحل هناك فوجدت ان من المناسب عودتها الى الوطن مع طفليها ، وهي عودة لها دلالتها ، لترمم بيت العائلة  وتقوم بتجديده . وتقودها المصادفة الى التعرف على مهندس الديكور سعد بفعل حاجتها الى خبرته . ولأن سعد كان يبحث عن البديل الذي يعوضه عن اهمال زوجته له فانه صار في ظنه انه وجد هذا البديل  لدى مريم فعرض حبه عليها ، لكنها ” لم تعد تحتمل محاولاته اليائسة للتقرب منها بحجة الصداقة  ” ( ص 126 ) . وفي لحظة يقظة ضمير ، أو ربما كرد فعل لموقف مريم منه ، وجد نفسه يعترف لزوجته بعلاقته بهذه المرأة ، فتسبب ذلك في تدهور العلاقة مع زوجته ، لكنها ما تلبث أن تعود وكأن كلا ً منها تلقى درسا ً أعاد اليه صوابه .

وللدكتورة هديل ، رابعة الصديقات ، حكايتها هي الأخرى . فهي طبيبة أطفال ناجحة ، انتهت علاقة زواجها بالفشل بعد أن خرجت منها بطفلتين صارتا بعهدتها . كان زوجها طبيبا ً هو الآخر لكنه” لم يصل الى مستوى نجاحها مما سبب شرخا ً في علاقتهما الزوجية دفعه شعوره بالنقص الى العديد من العلاقات العشوائية ” ( ص 15 ) .  وكانت رغم نجاحها في عملها ، قلقة مترددة وحائرة ، كشكل من أشكال الضعف حتى انها أوشكت أن تستجيب لالحاح زوجها السابق ومحاولة اغرائه لها بالموافقة للعودة الى عصمته من جديد وشعرت بأنها توقفت عن كرهه بل غفرت له اساءته : ” نحن لا نتحرر فعليا ً الا بمسامحة من أساءوا الينا ” ( ص 91 ) ، تقول هذا مع نفسها وهي في حالة ضعف ” أنا اسامحك وأداوي بعفوك هذا كل جروح الماضي ” ( ص 91 ) . لكنها تراجعت في آخر لحظة لأنها تذكرت خيانته لها ووجدته لم يتغير .   ، ثم صارت موضع اهتمام زميلها الدكتور أشرف  الذي عرض عليها الزواج وأوشكت أن توافق تحت الحاح أمها وبتأثير نظرة المجتمع اليها كمطلقة ، قبل أن يصارحها بأنه ليس مستعدا ً لعيش طفلتيها معه . وعوضها الله عن ذلك بوائل صاحب مذخر الأدوية فتوافق على الزواج منه مع انه يعترف لها بأن طيف زوجته السابق التي رحلت بفعل سرطان الثدي ما زال يعيش معه . ولا تخرج موافقتها عن الرغبة في أن تكون بمنأى عن نظرة المجتمع للمرأة المطلقة .

أما آخر النساء الخمس فهي سحر . مهنسة ناجحة في عملها ” ملكة متوحدة على عرش نجاحها ” ( ص7 ) ، لكنها الوحيدة التي  لم تعش تجربة زواج رغم انها تجاوززت الأربعين ، أذهلت الجميع حين قررت ارتداء الحجاب ، وكانت أمها قد عانت الأمرين في تدبير لقمة العيش لأولادها الأربعة بعد استشهاد زوجها في الحرب العراقية ــ الايرانية  . وسحر قوية ، واثقة ، تحسب حسابا ً لكل شيء . وتلعب المصادفة دورها هنا أيضا ً فتلتقي في عملها  بالمهندس الشاب فراس الذي يصغرها بخمس عشرة سنة ويقع في حبها من النظرة الأولى  . وحين فاتحها بحبه لها ” كان قلبها يخفق مثل مراهقة استلمت للتو أول خطاب حب في حياتها ” ( ص 79 ) . وكانت على وشك أن تقبل الزواج منه ، لكنها استسلمت للضعف  ، برغم قوتها وثقتها بالنفس ، حين سمعت من معها يتقولون عليها بأنها وفراس ” عجوز متصابية ومراهق طموح ” ( ص  13ز ، فلم تشفع لها قوتها وآثرت الاستسلام للضعف .

لقد قدمت الرواية من خلال شخصياتها صورة بانورامية لواقع شريحة اجتماعية يفترض انها متنورة  ومتفتحة ، حرصت على انتقائها بعناية  لتزيح ، الغطاء عن المخفي لدى هذه الشريحة وتنظر اليها وفق رؤيتها الخاصة التي تستمدها من موقعها الاجتماعي  وموقفها منه . لقد استلت شخصياتها من الواقع ، واقعها الخاص ، ولا يشي زمن الرواية بانتمائه الى الحاضر الراهن إلا من خلال الاشارة العابرة الى  التفجيرات .

سألت الدكتورة حنان المسعودي هل انها تجد نفسها في احدى شخصيات روايتها ( الدكتورة هديل مثلا ً ) ام انها تعرفهن شخصيا ً واكتفت بدور الشاهد والسارد معا ً فقالت : ” الحقيقة اني صديقتهن ، وكنا نجلس معا ً ونناقش مشاكلهن ، ثم اقترحت احداهن أن أكتب تلك القصة ، لكني بالطبع أضفت على كل شخصية شيئا ً من روحي ” . ونرى ان رواية ” خمس نساء ”  تؤكد ذلك بفعل استلهامها للواقع وحميمية ما يرد فيها من تفاصيل!

 

 

 

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| مهند النابلسي : سينما ارتجالية وشهرة مجانية وشخصيات سطحية:وصف دقيق لتحفة ترفو”الليلة الأمريكية”-1973/الفيلم الفائز باوسكار أفضل فيلم أجنبي لعام:1974 .

*يلعب Truffaut نفسه دور مخرج سينمائي يُدعى Ferrand ، الذي يكافح ضد كل الصعاب لمحاولة …

| عبدالمجيب رحمون : كيف نتواصل بالحكي؟ أو الرواية والحياة عن رواية “عقد المانوليا”

لماذا نقرأ؟ وكيف نقرأ؟ هذان السؤالان الإشكاليان اللذان طرحهما الناقد الأمريكي “هارولد بلوم” لم يكن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *