مهدي شاكر العبيدي : نظرات في شعر طالب الحيدري

mehdi 3اوستن – تكساس
في متناولي أربعة دواوين شعرية صدرت لشاعر بعينه هو السيد طالب الحيدري في غضون عام 2011م ، هي على التوالي : المرايا ، شموع الدموع أو ديوان المراثي ، و الرحلة و المعلقات ، و مجموع صفحاتها كلها و بضمنها الفهارس المشتملة عنوانات القصائد و نظيرتها المختصة بقوافيها ، دون الألف و الخمسمئة صفحة بقليل ، و سبقها ديوانه الألواح في عام 2008م محتفياَ بعيد ميلاده وقد جاز مرحلة الثمانين التي قطعها مشتبكاً ملتحماً في صراع و مناجزة حيال مكامن الشر و الإيذاء و الرجس و التعدي كل آن و بلا موجب و داعٍ ، سوى أن أنفاراً من الناس جبلوا على الإضرار بالصالح العام بوحي من غريزتهم التي تسوقهم سوقاً لحمل غيرهم على ارتضاء ما ينزلونه بهم من ذل و امتهان ، وذي هي بلوى البشرية منذ أدهار سحيقة شهدت اصطراع الحق و الأهواء ، و حفيت بصدام الكيد و الغطرسة و العتو مقابل سليقة البساطة واليسر و التجرد من كل سلاح وعتاد غير المناداة بالانتصاف للحقوق المهضومة، و مكاشفة ذوي الشأن بأن يشفقوا على ذواتهم على الأقل ، ويتخففوا من هذا الحرص على نيل الأوطار و الرغائب ، من وراء تماديهم في انتهاج خطة العسف و الإجحاف و الغبن حيال مَن شاءت أقدارهم و حظوظهم أن يتسيد أولاء الجبابرة عليهم ، و ذلك قبل أن يدركهم السأم و تعتريهم الملالة من طول تداولهم المناصب وحملهم الأوزار .
وفي نفس التاريخ الأخير وتلوه عام 2009 راجت في السوق الأدبية سلسلته الشعرية (من وحي إلى وحي) في أربعة أجزاء هي ملحمة كربلاء و الحيدريات والباقيات الصالحات ثم الحجازيات ، وهذه المجاميع أقر بعدم اطلاعي عليها وتفرسي فيها لأجتلاء ميزاتها وخصائصها الفنية ، وفي زمن غابر مولي عقب انبثاق حركة 14 تموز كان ديوانه (نضال) المحتوي لقصائده الثورية المتفجرة بالسخط على الأوضاع السيئة السائدة قبلها بقدر ما تحمل البشارة بها وتمني الجمهور بمستقبل زاهر لحياته وذلك تساوقاً و تصديقاً لأوعادها ، قلت كان الديوان ذاك من أنفس ما رفدت به المطابع الحديثة الوسط الأدبي من روائع الأشعار التي استمع الجمهور العراقي لبعضها تلقى في المحافل بصوت الشاعر نفسه أو منشورة في الصحف إبان أويقات تمتعها بالحرية النسبية والسماح بإطلاق القول على لذعه وقدحه بسياسة الحكم وتحرشه بأربابه على شاكلة تبدو في السنين التي تلتها غير معقولة ولا مقبولة ، إذ أمعنا نظراً و تأملاً فيما عمنا وساد حياتنا طوال العهود الجمهورية من صنوف الخسف والإذلال والحجر على العقول ، taleb alhaidari 2فمن محتوياته ثمة قصائد سائدة في الأوساط الشعبية كقصيدة (إنجيل الثورة) ويعدوها إلى الانفتاح على ما يستجد في الدول الجارة والبعيدة و الأشقاء معهم من تحولات ومتغيرات لها تأثيرها وصداها في تحرك الملأ في هذه الربوع حيال من يتولى الزمام فيها ويتحكم بمصيرها ، وكذا تعاطف مع مبادرة الدكتور محمد مصدق لتأميم نفط بلاده إيران وبارك لمصر إقدام حكومتها الوطنية على تأميم قناة السويس عين الوقت الذي أوغل فيه حكامنا بالتهوين من شأن هذا الانجاز واصطفوا بجانب أعدائه من ساسة الغرب ، كما هلل لثورة الجزائر وندد بشعره بوسائل القمع والتنكيل الذي آلى أحرارها على تحمله ثقة منهم بوشك تجاوزه وانتصار ثورتهم. كما لم يخل المجموع هذا من بعض الشعر الوجداني المصور لعواطف النفوس ونوازعها في إفحام من ينظر لنفسه بغير حجمها الحقيقي ، فيكابر ويتخرص بذوي الفضل والمنزلة وبعد الهمة ، مما يحوجهم أو يضطرهم ــ من باب الدفع والتصون من الشنأ والحقد ــ لا لجامه بالبينات والردود الدامغة بحيث يعدونها إلى اللجاجة في المباهاة والتفاخر أحياناً.
فأما بداياته فتتمثل بثلاثة إصدارات متواضعة هي على التوالي : ( ألوان شتى ) ، وقد استهلت بتقديم الشيخ محمد رضا الشبيبي بكلمة يشوم فيها النبوغ والألمعية و التألق على رأس شعراء العربية على الإطلاق مما يتوقع أن يكتب له فيحوز الأوفر من هذه العناصر والخصائص الفنية لصدقه وجديته في الإعراب عن دخائله وتصوير عواطفه وعنايته بلغته من خلال إيثاره للطلي من الألفاظ وجنفه عما يتسم بالجفاوة والخشونة منها ، وقدر لهذا المطبوع البدوة تجواب بعض المواطن العربية , فيقع في عداد ما ينبري طه حسين من آن لآن لتمحيصه وتسليط نظرته له وتحكيم ذوقه فيجتلي ما إذا كان المحتوى شعراً متكلفاً وناضباً من الشعور والإحساس أو هو نتاج عقلي خصب حري بمن يلتمسون تجسيد المفردات اللغوية ونهوضها بما طُوَعَت لتأديته من معانٍ ومقاصد ، أن يتحضنوه ويوالوا الإعجاب بملكة صاحبه ، وكذا اكتنه عميد الأدب العربي استعداده للتفوق في قول الشعر واقترانه بقدر من التجويد لو صح عزمه على صقل موهبته في غير توقف وانقطاع عن التحصيل ، وماثله الأخطل الصغير بنفس امتداحه شاعريته وتوقعه أن تجود من العطاء الشعري بما يرهف مشاعرنا ويذكي إحساساتنا , ويشيع في حياتنا الجافة المصوحة بعض مخايل الفتنة وصور الجمال ، وهو ــ أي بشارة الخوري ــ شاعر الفتون والجمال ، ويلي قصائد الألوان الشتى ترجمته لرباعيات الخيام لتنضاف إلى ركام المجهودات المتنوعة والمضنية التي سبقتها والتي أتت بعدها وتفاوت أربابها في نظرتهم لفلسفة الخيام وما إذا كان يتعاطى شرب الخمرة أو كان مصدوفاً عنها ومترفعاً بنفسه عن غشيان مجالسها مع براعته وبداعته في وصفها وليصوغ من خلال ذلك ما يستوحيه من أفكار وتأملات في عجائب الكون ودواهي الوجود وتصاريف الحياة الإنسانية ، ثم تصدر بعدها في مطالع عام 1951م رباعيات الحيدري وهو عمل يبين فيه بعض التعجل فما عهد من قبل عن شبيبة الأدباء وفي عمر ثلاثة وعشرين عاماً ، أن يجازفوا و يجربوا مكنتهم من نسيج الرباعيات المودعة فيها عصارة تجاربهم في الحياة من خلال ألفتهم وخلطتهم بالناس و ما استقوه منها من فادح الوجد و الألم و آبوا به من لاعج الشوق و المسرة ، مع مراس أطباعهم و مياسمهم، والرباعيات في الآداب العالمية من و جهة نظر عمر فاخوري لا يقبل عليها مهرة الشعراء إلا بعد طول اختبار و تجريب ، و يتطلب من شاعرها أن يتوسل إلى المعاني المعمقة و الآراء الحصيفة التي تقوى على الكمون في الألباب و الأذهان و شريطة أن تجيء مبتدعة وغير مسبوقة ، و ليس على شاكلة ما ترامى إليه ، الزهاوي من الإسفاف و الابتذال في إفراع بعض خواطره و أفكاره العادية بقالب الرباعيات، فأنحى عليه – أي عمر فاخوري ــ بما وسعه من التبكيت و التعييب و الزراية المستهوية لذائقة غير قارئ لكتابه ( الباب المرصود ) .
وينبي الشاعر الحيدري قراء شعره أو يعدهم على وجه أصح من خلال تقديماته المبتسرة لدواوينه الضافية والصادرة أخيراً ((أنه يعكف الآن على إعداد عدد من الدواوين تقع في عدة مجلدات ضخمة لطبعها ونشرها )) .
ومثل هذا الكلام ينطوي على أحد معنيين ، إما انه فرغ من زمن من نسج قصائده و عنّ له الآن تجميعها و ترتيبها وتنسيقها و إيداعها دواوين تنبسط في المجلدات الضخام على ما يبتغيه الشاعر ويتمناه لنتاجه الشعري من أوعية تحتويه ، وإما اِنه مستغرق في نظم جديد الشعر المواكب للأوضاع المتغيرة و ما يعصف بحياة المجتمع بين آن و آخر ، من تقلبات في سياسة الحكم ، يترتب عليها تلون في أطباع الناس و ميولهم و يجنح بطبيعة الحال لاستيحائها و استقاء معانيه و مضامين شعره منها .
واستخلص من تعدادي و استذكاري دواوين شعره حصيلة مفادها انه غزير الإنتاج و ذو اقتدار و مكنة من نظم المطولات أو صوغها و رصفها على وفق ما يُستنبط أو توحي به اللفظتان الأخيرتان من اكتناز شعره بالعاطفة المجنحة المشبوبة بدلاً من أن يَعني النظم عنده مجرد الإتيان بقولٍ خالٍ من سمة التأثير في الوجدان الإنساني و التصرف بالإحساسات و العواطف متى شاء الإنسان ذلك ، واعدو هذه الميزات و المواصفات إلى انه لا يكل و لا يمل عن إشباع ما يخالجه من معنى أو يراوده من حسٍ و شعورٍ لغاية ما يتفرع عنه ويستدل به من موحيات و معان لم تكن هي بالأصل من الأساسيات وفي المحل الأول ، على غرار ما توفق له صنوه ( ابن الرومي ) في القديم الدابر ، سوى أن ريم الشاعر العباسي باستحالة بعض شعره إلى كلام نثري ، ولم يشتط واحدٌ من معاصرينا فيدمغه بهذا الوصف ويلصق به هذه السمة ، بل أشاد غالبيتهم باقتداره البياني و ثرارته اللغوية ، و سهولة تطويعه المفردات المناسبة لتجسيد ما يحتوشه من عواطف محتدمة و مشاعر جياشة . على أن كلا الشاعرين يستوي في الإسراف و الإكثار من نسج القصائد و التطويل و الإسهاب في معظمها ، وقد يبذ الشاعر المعاصر و يرجح على قرينه في مقادير شعره و على أي حال .
وطالب الحيدري بعد جدير بالاحترام و إعلاء مكانه و تشخيص الطابع المميز له عن البقية من أترابه اللاهين أو المعنيين بالقضايا الأدبية ، فقد درج منذ مستهل حياته و لما يتخط من العمر مقدار ربع قرن ، على الكفاح في زحام مجتمعه وانصرف إلى العمل التجاري و تمتين أواصره حتى بمن لا يشاكلونه في اهتماماته الفكرية و يبارونه في الهم السياسي من أغمار الملأ وسط السوق ، فكان مفتتحاً أو ممتلكاً لمكتب تجاري في الشورجة لاستحصال قوته وزاد عياله و اقتناص المال الموفي بحاجاته و أسبابه . ولك أن تعجب من نزوله على ما يتطلبه ذلك منه من الارتباط و التعامل مع شتائت الناس و أوزاعهم ، لا أتحشم من الإيماء لمن اتسم منهم بالجشع و فرط الحرص بحيث لا يعف عن الختل و التدليس في معاملاته و شؤونه ، وذا هو المعروف المذموم من أخلاق السوق على وجه العموم ، وقلة من أصفيائه و عشرائه في العمل تعهد من ذواتها إلاً وذمة وتراعي أحكام الشرع وتماثله في إحساسه الوطني ، ومع ذلك كان أحوج إلى الحذر و التصون وعرفانه بزكاء نفسه عند تشابك علائقه مع هذين الصنفين من بني آدم .
على أن هذا الحال جعله وصيره في غنىً عن الارتماء على عتبات مسؤول يتصرف بشؤون مواطنيه وبيده مناط الأمر ولمشيئته قد يذعن حتى مَن يشوم فيه الملأ بعض الصلادة ويتناهى في احترام نفسه .
وقد باين في تدرعه بهذه الخصلة سائر أودائه من الأدباء في إيثار العزلة و تحاشي الخلطة كي لا يند عنه من سفساف الكلام ما يندم عليه ، و لا يتدنى إلى ما يشغلون عقولهم به من النهش و الاغتياب ، و يربي عليهم فيما يهرفون به من اللغو و الافتراء و قول الباطل ، على أن لهذا النفر من مدعي الإبداع و المتشدقين بتساميهم فوق كل معرة، وسائلهم و أحابيلهم و أفانينهم التي لا يهتدي إليها المتكسب في السوق ، في وأدِ أو إخماد صوت من يشتكي صادقاً شيوع المكر و الخداع و الاستئثار بالجدى و الهبات و المكرمات و الترشيحات لشهود المواسم الأدبية .
وما دمنا بصدد الحديث عما يشيع في الأسواق التجارية من نصب و احتيال أحياناً للاستيلاء على يمتلكه أصفياء السرائر من حطام مخيلين لذواتهم ان الآخرين يحاكونهم في طيبة نفوسهم و أمانتهم ، فتصدمهم الأيام بأنهم كانوا على خطأ وضلال و أنهم وضعوا ثقتهم في غير محلها ، و من هذا الواقع المرير استلهم بعض شعره نادباً خيبته و ضياع ثروته في بعض الأحيان ليغالب اليأس و يجري في سبيل تعويض نفسه عنها و استردادها ، ففي هامش الصفحة 24 من ديوان المراثي و في أسفل قصيدته (لله أنت) يزجي ما يلي بخصوصها ، ” ألقيت في حفلة تأبينه المقامة في قاعة سينما غازي ، وكان جعفر حمندي سياسياً مغموراً استطاع الشاعر أن يجعله في الواجهة ، لكنه جوزي من أبنائه جزاء سنمار ، فالكبير ، وكان الشاعر قد وثق به وجعله أميناً على أموال تشكل ثروة كبيرة – خان الأمانة في عملية نصب واحتيال يندى لها جبين من لديه ذرة شرف ، وبعدم اعتراض من أخويه ، وكأنهما كانا معه على اتفاق”.
والوصلة الأخيرة من تلك القصيدة الباذخة وقوامها ثلاثون بيتاً شعرياً ، تكون إما أنها مضافة إليها وألحقت بها بعد انقضاء المناسبة بسنين، مفرغاً في ديباجتها كل ما يصطخب به وجدانه من ألم وتبريح وتحسس بالهضيمة ، وإما أنها نسجت لوقتها وتحرج الشاعر من إلقائها ، وفطن إلى انه ليس من المستساغ صدم جمهور حفل تأبيني بذلك التقريع القاسي ووصم أنجال المرثي بما يخزيهم وتأنف منه مروءة الرجال ، ودليلي على ذلك أن القصيدة سبق له أن أدرجها ضمن محتويات ديوانه الأول ( نضال ) الصادر عام 1958م ، بدون أن ينهيها ويختمها بالأبيات الثلاثين .
ثم إني أسجل شهودي ذلك التجمع الحزين في يوم 29شباط في قاعة سينما غازي بالباب الشرقي، والتي غشيها صبيحة ذلك اليوم مَن يترددون أو يحجمون عن دخولها بحكم التزاماتهم الدينية كما تقتضي العادات والأعراف المألوفة ، وأدار الحفل المحامي حسين جميل وخطب فيه عالم الاجتماع علي الوردي والصحافي توفيق السمعاني والسياسي الحقوقي عبد الوهاب محمود وسكرتير تحرير مجلة المعلم الجديد والمحامي فيما بعد صبري الزبيدي والشيخ عبد العزيز من أعيان لواء الديوانية ، وشهدت لأول مرة الشاعرين الكبيرين الحاج عبد الحسين الازري والشيخ محمد علي اليعقوبي ، ووقفت على طريقتيهما في الترنم والإنشاد النادب ضيعة المكارم الخلقية واختلال المقاييس وافتقاد التجرد والإيثار والنزاهة ، مما جبل عليه شخص المرثي مفارق الدنيا وناسها ، كما هو ديدن أهل العراق في إرسال شكاواهم المتواصلة والإعراب عن برمهم بحالهم منذ ذلك التاريخ البعيد وقبله ، ولم يسع الأزري أن يمضي في حدائه ، فقد أدركه التعب فتسلَم القصيدة من يده فؤاد عباس واستأنف إلقاءها ، واستطرد اليعقوبي في رائعته إلى التعريض بما يبيته الحاكمون لبلداننا من مكايد لربطها بالأحلاف الاستعمارية ، وما أذكر اليوم استنفاد طالب الحيدري وقتاً أطول من المناسب لإلقاء خريدته عدا الوصلة الأخيرة منها .
فنشاز وأي نشاز أن يباغت شاعر ما حشود الحفل بالزراية بأخلاق بعض بني النوع الذين تنادوا لندبه وتأبينه، كنت يومها في سن دون العقدين بقليل وفي أول مباشرتي الحياة الأدبية التي تحملت جراءها ما تحملت من الألسنة القذرة والذوات الحُوَّل القُلّب ما شاءت مكارمها كيله بالصغير والكبير من الكلام الهراء .
ولنقرأ أشتاتاً من هذا القدح الجارح ونقطع من بعد بعدم مناسبته (للمقام ) كما يقولون :
أبصرت نـــارك حيةً لكنها في ولدك انطفأت ككف رماد
ياليتهم ورثوا الرجولة والندى وتقى الضمير وعفة الزهاد
هل فـي الحليب تحلبوه مدنساً ما قادهم للغي شــــــر مقاد
لو كنت تعلم بالذي جاءوا به لخرجت من بين القبور تنادي
يا أيها القوم اشهدوا ببراءتي من كل أولادي ومن أحفادي
عجبي وأنت أبٌ أمين طيـبٌ كيف اُبتليت بأخبثِ الأولادِ
وما علق بذهني منها بيت مؤثر ويشتمل على مضمون يستقطب تاريخ الوطن العراقي بنوازله وحوادثه المفجعة :
ما مات حجاج العراق ولم تزلْ مشروعةً همجيةُ ابن زيادِ
ومع حظوته باحتفاء وزارة الثقافة في العراق الجديد وتكريمها دوره الريادي في النهوض الثقافي العراقي ، بعد طول عفاء ونسيان متعمد ومقصود من لدن الإعلام الرسمي في السنوات السابقة ، فإنه لا يحتسب أي شأن وخطورة للشخوص المتربعين على دست الحكم اليوم أو لا يعول أصلاً على درايتهم بمشكلات البلد ووقوفهم على حقائق تاريخه وما واجهه أسلافهم من صراعات وتقاطعات واحترابات نشبت بين طوائفه وعناصره واجناسه المتنوعي المذاهب والأديان ، مما أحوج غير مرة إلى رهط من المسؤولين والحكام موسومين بالمرونة وحسن التعامل مع أفراد شعبهم بحيث يؤثرون الاحتكام إلى ذممهم وضمائرهم دون تغليب نحائزهم عند الفصل في المنازعات مثلاً أو عند تدوير الأحكام أو عند الشروع بإعمام الإصلاحات وتحاشي قصرها على رجأ بعينه وكذلك عند التعيين والتوظيف واسناد المهمات إلا بعد الأخذ بمقياس الكفاءة والأهلية والاستحقاق ، وجعل الحساسيات العرقية والمذهبية آخر ما يستأهل النظر له والنزول عليه ، قلت أكان حكام اليوم أكفاء وجديرين بتبوئهم المراتب والمناصب أم رقوا إليها بعامل المصادفة ، وابتسام الحظ ، فإن الشاعر لا يتأمل منهم أن يستتم اصلاح ما لمرفق من المرافق على يدهم ، وساعة يتدبر القارئ فحاوى تقديماته القصيرة لقصائد ديوانه المعلقات ، يراع من عدم خشيته بشكل متناه من جهره بتجرد بعضهم من النزاهة ، ويلفي نفرٌ منهم انخراطهم في العملية السياسية ، فرصةً يلزمهم اهتبالها لتقريب الأداني وتعديل أوضاعهم وازادة منازلهم مهابة ورفعة في عيون سواد الناس المقيمين اللابثين على نفس حالهم المتدنية والمحفوفة بالفقر والإملاق والمسكنة ، وليس أدل على هذا الإسفار الفاضح الصريح من تسفيهه ، شروعُ أعضاء المجلس النيابي في دورته الأولى أو الثانية في نهاية مدتها الموشكة على الانتهاء باتخاذ قرار (أن يكون لكل نائب ولأفراد عائلته جواز مميز ومخصصات مدى الحياة تثقل كاهل الدولة وتزيد في مظلومية الشعب وحرمانه ، والملفت للنظر أن النواب يتفقون لتحقيق مصالحهم الشخصية ويحسمونها على عجل ، ويختلقون في كل ما يتعلق بمصالح الشعب ويسوفون بل ويقفون ضدها ، فهل يذهب الشعب إلى صناديق الإقتراع مرة أخرى ! متى يا سماء يفور التنور ويعود نوح ليطهر هذه الأرض من جديد).
ذلك ما كتبه في مقدمته المبتسرة لقصيدته المعنونة اسراب الجراد النيابية :
وطن يكتوي وشعبٌ يصابُ بســــــهام رماتها النوابُ
فرقتنا التكتلاتُ وجاءتْ بالذي لا يُصَدق الأحزابُ
جمعتهم مصالحٌ لـــــم تُحَدد بــحــدودٍ ،وألفتّهم رغابُ
وعجيبٌ أنْ ليس فيهم حكيمٌ لــــم يخادعْه مظهرٌ كذابُ
فرص لاغتنامها يتبارون وللمال في الجميع انجذابُ
الملايين راتباً لم تعد تكفي وللنهب تطرق الأبوابُ
والملايين في الجيوب وفي الشرق
جياع ، والماء ملحٌ وصابُ
ويقول :
سقطوا للحضيض سرباً فسرباً وتراهم يمشون في استعلاء
وإلى أين يا ضحايا الصراعات ضحايا المناصب الجوفاء؟
يتلهـــون بالحطام رخيصاَ وبزهو الألقاب والأسماء
(عبلة ) هذه و ( عنتر ) هذا كالمرايا يخادعون الرائي
أججوا فتنةَ المذاهب والعرق وكان العراق كبشَ الفداء
أسفاه على بلاد الحضارات أحيلت إلـــــى كهوفِ فناء
فإن اتسم هذا البوح بالقدح والتقريع والتبكيت للمنتفعين والمجتنين عوائدهم من المال الطائل وفي حال من ترقيد الكثرة الكاثرة وتنويمها على زبد الوعود الكاذبة بأن ينعشوا وجودها ، فيخيل لي أنه ما برح كسابق عهده كلفاً بتحدي ما ينافي القيم من السوءات التي يجترحها ذوو الشأن ، وأن فلسفته في الحياة ارتكنت إلى التحدي واستندت إليه ، وكأنه بارى سلفه ( دعبل الخزاعي ) في صياله وتقريعه كل طاغٍ عنيد ، ولم يبق إلا أن يدله على الخشبة التي يصلب عليها ، فعنده أبداً أن كل صنيعة يأتينا بها الأجنبي لا يرتجى منها خير ولا تعنينا بحال ، وتظل ديناً مستحقاً ونبقى معه أسراء دالته ورهناء مشيئته ، وقد تناول هذا القصد عبر أكثر من قصيدة ، وصوره محذراً وراشداً في غير موضع من دواوينه، مبايناً في هذا التوجه بعض مَنْ لا يعهدون من سليقتهم وخليقتهم المهل والانتظار – في استهلالة حياتهم الأدبية ــ بعد أن نالهم شيء طفيف من الحيف زمن النظام السابق ، فتكشفت أطواؤهم وأساريرهم عن التهليل والاغتباط، وساورتهم فُكَيرات تشي بالمرح والخفة وفقدان الاتزان ، وبعد وقت صدموا بأن بينهم وبين الاطلالة على يوتوبيا توماس مور ، ومشارفة مدينة الفارابي الفاضلة مسافة أشواط يحف بها الرهق والاجهاد والعناء ، فمالوا في وقت متأخر لذم الاحتلال حيث لا يصغي لهم مصغٍ ، ويمتثل بوحيهم متصنتٌ ، حتى لو قرعوا سمعه بالقصائد الرنانة والخطب العنترية .
وما أوغل فيه من التشهير أو التنديد ونزع القناع وكشف حقيقة المتاجرين بالأديان والمذاهب ، أخال أن لا أحد سواه يجازف في هذا الغمار ، تحاشياً للتهم الجاهزة التي يليح بها الرجعيون بإزاء رادة الوعي والاستنارة ، فيؤثرون السكوت مقسورين لا مفحمين ملجمين ، أما الأمر بالنسبة للشاعر طالب الحيدري ففي غير حاجة للاستئناءِ والتحفظ ، ولا يماري أحد انه سليل الفادين في موقعة الشعيبة لصون الدين من الانتهاك والاستباحة ، وللذياد عن الوطن مقابل غائلة الاحتلال والتعدي .
غربةٌ إلــــــى مـــتى غرباء في ضياع لا تعرفون انتماءَ
إلى مَ ارتماؤكم في احضان رمـتـكــــم أجنةً لقطاءَ
لم تكونوا ولن تكونوا لمعنى مــن معاني رموزها أكفاءَ
واخلعوا هذه العباءات اني مـا أراكم إلا أتيتم رداءَ
ما ادعى أنه المسيحُ سوى الدجال
إذ كان يُتقنُ الادعاءَ

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| عبدالمجيب رحمون : كيف نتواصل بالحكي؟ أو الرواية والحياة عن رواية “عقد المانوليا”

لماذا نقرأ؟ وكيف نقرأ؟ هذان السؤالان الإشكاليان اللذان طرحهما الناقد الأمريكي “هارولد بلوم” لم يكن …

| د. شعبان عبد الحكيم محمد : النص الطازج والقصة القصيرة الشعر قراءة فى مجموعة ” حواس زهرة نائمة ” لسامية غشير.

صدر للدكتورة سامية غشير أول مجموعاتها القصصية ” حواس زهرة نائمة ” عن دار النشر …

تعليق واحد

  1. عبدالمنعم ناصر العيساوي

    السيد طالب الحيدري شاعر مجيد لكنه للأسف لم تسلط عليه الأضواء ، ولي الشرف اني اول من كتب رسالة ماجستير عن شعره بعنوان ( شعر السيد طالب الحيدري ، دراسة موضوعية فنية – ديوانا ألوان شتى ونضال – انموذجا ) .. دعائي لشاعرنا الكبير بالصحة والعمر المديد ،وشكرا للأستاذ شاكر مهدي العبيدي ، الناقد الفذ الذي سبق له أن كتب مقالا عقب فيه على مقالي الموسوم ( سر المهنة ) المنشور في صفخة النافذة الفكرية في صحيفة العراق عام 1985 . والنجم إن لم تدرك الأبصار رؤيته فالعيب للعين لا للنجم في الصغر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *