اسماعيل ابراهيم عبد : مشرحة بغداد الحلول التصوفي , المثول الذاتي , الوعي الفردي الجمعي

ibrahim ismaeil 3في واحدة من علائق الأدب الثقافية , أنه ينتمي الى ” الطبيعة الإجتماعية للذات ” فللذات ” إتجاهات يرتقي بها التفاعل الإجتماعي ” على وفق ” الذات المنعكسة وإسلوب التوقعات عند الآخرين” ( 1) . مشرحة بغداد , أو حسب ما أُسميها , المأوى السردي السري للحياة في بغداد , هي رواية برهان شاوي التي تتبنى إتجاهات تصييغ الشخصية ورفع الحدث اليومي لمرتبة السديمي , وما يلحق هذه من تبئيرات ثيمية وفنية , حيث أن النمو الإجتماعي لذاتية الأبطال يتصيّر مراقبة ونقلاً وفاعلاً ومتقمصاً لوعي الفرد الجمعي دونما ضغوطات خارجة عن الذاتية . كما أن النمو السردي للأحداث بطريقة التحولات التدريجية ترفعها الى مستوى الحدث الغرائبي , بإشراك قوى اللامعقول , ليصير الحدث , فيمابعد , حدثاً شبه واقعي تخيلي . سنهتم بتوظيب العمل للحالات تلك بحسب الآتي . أ ـ تصيير الشخصية / 1ـ يبدأ نمو الشخصية للصوغ التعاقبي على مراحل تخص شخصية حارس المشرحة (آدم) بالدرجة الأولى , والذي يدَّعي بأنه حارس الموتى , الذي تعيّن موظفا حارساً في مشرحة بغداد للجثث المغدورة . هذه المشرحة تصير وكأنها بوابة الدخول الى بغداد كلها , أو الى البلاد أجمعها ! يحاول الروائي برهان شاوي إيجاد نافذه أولية للدخول عند قوله : [ الساعة الآن قد تجاوزت منتصف الليل . مشرحة بغداد قد أوصدت أبوابها . ليس هناك سوى الطبيب الخفر ومساعده والحارس الخفير , المنطقة التي فيها المشرحة , والشوارع المؤدية , والأزقة التي تحيطها , بل وبغداد كلها غارقة في ظلام ](2 ) . يرسم العزلة الموحشة كأنها ليس لمشرحة جثث الموتى , إنما هي ظرف .. بل الظرف الذي سيجعل من الحارس آدم , قناة ترشيح وترشيق الوعي الإجتماعي , بل أن ذاتية آدم ستأخذ صُغارها أو كُبارها , من هذا الموضع . إذاً مرحلة الذات الأولية لصوغ الشخصية يبدأ من التحديد المكاني . 2ـ يهيء الراوي القولَ ليعطي شيئا بنائيا لشخصية الحارس آدم , رابطاً بين بيئتين هما , بيئة الأقراص المدمجة وعوالمها في الباب الشرقي , وبيئة العزلة (المشرحة) لما سوف يؤول اليه التركيب الخاص لمزاج الحارس آدم . [ الخفير آدم كان على غير عادته , فثمة هاجس خفي يدفعه لإنهاء جولته الليلية الإعتيادية , والتوجه الى غرفته في الطابق تحت الأرضي , لمشاهدة الأقراص المدمجة التي إشتراها نهاراً من الباب الشرقي وسط بغداد ] (3 ) . إذا علمنا أن الأقراص المدمجة هي لأفلام أجنبية معظمها أفلام جنسية , يحاول التلهي بها رجل شاب , حارس للموتى , تحت الطابق الأرضي , لعرفنا أن الراوي يحاول تقريب الشخصية من حالة الهوَس , ولفرد في عمق الأرض , تشبهاً بالقبر . حين هذا ندرك أن الصوغ في المرحلة الثانية ليست للتصيير التعاقبي , إنما هي مرحلة للتصيير البنائي النفسي والعقلي للشخصية , البناء الذي سيتدخل في مفاصل التطور الفكري والفني لها , حيث (آدم حارس مشرحة بغداد) هو هذه الشخصية المركبة المعقدة الموحية بالإضطراب . بمعنى أن آدم قد إستعاض ـ بحسب المشـهد أعلاه ـ عن الذات الإجتماعية للآخرين بأن وضعها ندّاً تربوياً له عن طريق الأقراص المدمجة . 3ـ تبدأ مرحلة بنائية أخرى لآدم حين الكشف عن عمره المناهز 22 عاماً , حيث تعطى له صفات مظهرية , طبعاً هي صفات مراوغة , حيث / [ يبلغ الثانية والعشرين من العمر .. يبدو أكبر سنّاً .. شخصيته ملفتة للنظر .. لاسيما العينين الواسعتين والنظرة المتقدة , كان شاحب الوجه , ناحل الجسم , كث الشعر , طويل القامة .. يلبس بنطلوناً أسود وقميصاً أحمر .. فوقهما قميص طويل أزرق يميّزه بأنه ينتسب الى المكان .. يبدو أنيقاً ] ( 4) . التوصيف قد يكون مناسباً للوصف الخارجي لو كان في بدء الروي , لكنه حين إندس في حقل عنوانه (الآخرون) فسيصير صفات لدلالة البساطة الممنوحة لآدم كوظيفة إدارية , ووظيفة وجود ضمني مع الآخرين (أشبه بالأشباح) , سواء كانوا أحياء أم أمواتاً , لذا لابد أن تكون هيئته خارجية داخلية , فعالجها الروائي بإعطائها صفة (ملفتة للنظر) , ثم أن هذه الشخصية ـ على عاديتها ـ ستكون حالة روائية خاصة جداً , مثلما ستوضحه مفاصل الرواية اللاحقة . 4 ـ في مرحلة بناء الوعي لشخصية آدم حارس المشرحة , تتوجه إليه مفاعيل عدة قوية لتصيـّر له تجربة ثرية تُقنِع القاريء بإسهامها burhan shawiبالفعل الروئي ليسند إليها دورها الأعم , الأهم في الرواية كلها . هذه التجارب تُعنى بحالات الجثث وحكايات الغدر الذي أماتهم . حكايات كثيرة وغريبة ومحزنة , مثلما هي حكاية الفتاة القتيلة بقضية شرف كون بطنها منفوخة , والذي يتبين , بعد قتلها , أنها ليست حاملاً إنما مصابة بورم في بطنها . ومثل تجربة تعامل الحارس مع ذوي الجثث الباحثين في المشرحة عن قتلاهم , وغيرها , في سلوكه مع إدارة المشرحة , التي يبدو أنها الطب العدلي ببغداد . المهم أن هذه التجارب تجعله مؤهلاً لنقل الأحداث , والتساؤل المدهش عن كينونة العلاقات الإجتماعية . من الملفت للنظر قول الروائي / [ لقد مرَّ الآن على وجوده فيها سنة وثلاثة أشهر تقريباً . تعوّد خلال هذا الوقت على رؤية أهالي الميتين في مختلف تجلياتهم للتعبير عن حزنهم] ( 5) . هنا دس مكمل لوعي الحارس حيث يعدُّ عمليات التعبير عن حزن الأهالي (تجلياً !) , بالتأكيد هي حالة مضافة تعطيه دفقة من التعاطف والتمتع بصيحات الندّابين والندّابات ! لما في أصواتهم من تناسق تلحيني (الردّات ) . 5ـ في مرحلة جديدة راح الحارس آدم يتعايش مع الظرف ويسأل أسئلة ذكية . من بينها حواره الذاتي التساؤلي عند حدوث إحدى الإنفجارات / [ سأل الحارس آدم نفسه : لماذا جميع الجثث من النساء وليس بينها أي رجل سوى جثة لصبي في الثامنة ] ( 6) . هذا السؤال يعيد القراءة الى وعي سابق كان فيه آدم الحارس يراقب ـ دون فهم ذي بال ـ مساعد الطبيب يمارس الجنس مع إحدى الجثث , بمعنى أن هذا السؤال صار إجابة غير مباشرة عن الحالة الموصوفة أعلاه , أو لكأن الحارس أراد الإيماء الى , أن هاتيك النسوة قد يتعرضن لذات الحالة (إغتصاب جثث النساء) .. هذا الوعي في إستهجان الحالة هو إستمرار للنمو النوعي للوعي عند الشخصية . مما يلفت النظر أن الحارس ظل يرصد كل حالة إنتهاك , وهو ما يعني أن الحارس والمشرحة هما علامات مادية على ثبوت زمن التدمير الكلي للنفس البشرية , وتصاعد قوى إنهيارها على أيدي أدوات التخريب الخارجية والداخلية . 6ـ ثم يدخل الحارس آدم مرحلة أخرى تلك هي التصادم مع إدارة المشرحة , مع مساعد الطبيب تحديداً . مساعد الطبيب سيبين , في لاحق الروي , أنه من أسوأ قوى الخراب الداخلي , فمثلاً , حين سأله آدم عن سبب الضجة في الطابق الأعلى حدث الآتي / [ لم يساعده في إعطاء الإجابة وإنما زاده غموضاً , حينما حذّره من أن يسأل أحداً غيره عن سر هذه الضجة في الطابق الأعلى , وإلّا فأنه سيحجز في مكان لامخرج له منه ] ( 7) . 7 ـ ثم ينتقل آدم الحارس الى مرحلة الوعي المتقدمة , أي الوعي الثقافي , وهي مرحلة متأخرة , لم يكشف عنها الروائي إلّا أخيراً , حيث يبين أن آدم من القرّاء الجيدين , فهو يقرأ ويُعجب بالشعر الإنكليزي المترجم فهو يتذكر مثلا النص / [ قد سمعت صوت المفتاح يدور في الباب مرّة , ولا يدور إلّا مرّة نحن نفكر في المفتاح . كل في سجنه يفكر في المفتاح كل منا لايتثبت من سجنه إلّا عند حلول الليل … في الليل حين تخلو المشرحة من دبيب الناس وحركتهم , وحينما يشاهد الأفلام في غرفته , وبالتحديد بعد منتصف الليل , حيث تبدأ الحركة الحقيقية … إذاً عليه أن يتثبت من سجنه كما تقول القصيدة ] ( 8) . في , مثل هذا التذوق , وبوسيلة الشعر الإنكليزي , وعي متحرك بين النهار والليل , والسعة والعزلة , الحرية والسجن . هذا كله وعي ثقافي ينضاف الى ممكنات الراوي , آدم الحارس , ليتمكن من النفوذ الى الحقيقة بالمعلومة على الرغم من تشوش كل شي في (داخل المشرحة وخارجها) . ب ـ ديناميك السرد / أن مهمة إتصال الغايات السردية خاضعة إندماجيا الى غايات النوع السردي وهيئاته على مستوى الفعائل الحدثية وتقنيات الصياغة . الفرد الكاتب لايمكن أن يمنع غاياته في الخطاب من أن تتسرب الى الآخر طالما وضع لها قيماً مرجعية تناصية , وربما سياقية , تعينه على صنع شيفرات مضمرة ومفتوحة . لسوف تصبح قرارات البث الروائي قرارات مشتركة بين الروائي والآخر , الناقد أو المتذوق . من مهام رواية (مشرحة بغداد) أن تقوم بالرصد والرقابة والتخيل , والممارسة الديناميكية للتصعيد الدرامي , بأدوتها (السرد , اللغة , الأحداث , الشخوص) .. هذه العناصر , الأدوات , في تضافرها ستنجز أهداف الروي , ولكن ضمن أي مستوى ؟ إن الطبيعة العامة للسرد التعاقبي ستظل عند حدود إعتيادية الروي وكأننا بإزاء ((روايات الإطروحات)) , لكن الكاتب برهان الشاوي يختار لنا متجهات , بإحلالها في النمو السردي , يغيّر التناوب السردي بما يغيّر خارطة الفعل الروائي كلياً . من جملة المتجهات المقصودة ما يأتي : 1ـ العبور بالحادثة نحو الفيض التخيلي / وفيه تقوم الذات الفاعلة بتبني طاقة الإنجاز للحادثة , حيث يكون بإستطاعة الفعل إنجاز ما تهيأ لإنجازه , بمعنى أن يُقْفَز بالحدث من سكونية عناصره الى حركية جهويته ـ بحسب فرائض غريماس ( 9) . ولكن هذا, بالنسبة لرواية مشرحة بغداد , يأخذ حالة خاصة وجديدة وإستباقية . [ نظر الحارس آدم الى وجه الجثة متأملاً . إقترب بوجهه منها متأملاً .. ظل يحدق في وجهها لحظات . فجأة فتحت الجثة عينيها برعب , نظرت الى وجه الحارس آدم , ثم أمسكته من ياقة قميصه ساحبة إياه إليها . شله الرعب ودفع يدها …. هرول هارباً من القاعة … رأى الفتاة تقف عند قاعة الجثث عارية وهي تبتسم .. كان الحارس آدم يركض بأقصى سرعته , لكنه كان يحس وكأنه يراوح في مكانه ] ( 10) . أحداث المقطع الفائت قد أنجزت أفعالها , لافرق بين حدث واقعي أوذهني . والملفت فيها أن مشهد عملها كله ومضة حدث , بدأ بشكل واقعي جداً , أي جثة يجب أن تشرّح في المشرحة , التي يمكن تخيل مكانها بالطب العدلي , كما أسلفت . ولكن إنجاز الحدث حرّك جزئيات الحادثة بحيث خلق طارئاً جديداً .. لقد أخذ الحارس بالتحديق بالجثة .. وظل يدنو بوجهه منها , ولأن هذا ليس بالمحرك السردي , لذا تم تصييغ قرين له , هو أن جثة الفتاة فتحت عينيها برعب … هذا الرعب تحوّل الى ثلاثة فيوض فعائلية غريبة هي / ـ وقوف الفتاة عارية . ـ هرولة الحارس الى خارج الغرفة . ـ حلول الرعب على شكل تشنجات جسدية متخيلة لكلا الجسدين الحارس والفتاة . الفعل الكلي (المشهد) ظل يدور في فيض التخيل المولد لأحداث جديدة أكثرغرابة . الى هذا الحد تكون الحادثة قد عبرت kh borhan shawi 2من الواقع العملي الى الواقع الذهني , ثم الى الواقع الذهالي (الغور في الدهشة) . 2ـ التوازن الحدثي / لأجل أن تصبح أية حادثة مقنعة لابد لها من عناصر وجود , وعناصر الوجود في المشرحة هي (الشخوص , البناية , الظلام) . لكل واحد من العناصر أثر في جعل الأحداث متوازنة متناسقة , تضافر بعضها بعضا لتمكن الروي من إيصال الفهم المناسب (لذة وثقافة) الى المتلقي , حيث / ـ يقوم الشخوص جميعا بدورين , الأول واقعي جدا , والثاني تخيلي جدا . [ توقف عند الباب الرئيس الداخلي . إنتبه لوجود ظلال أشخاص يقفون تحت المطر … لصق وجهه بالمساحات المغطاة بالزجاج في الباب , وضع يده أمام عينيه ليتأكد من الرؤية , فتبينت له صور لأشباح ثلاثة وهم يحملون مظلات واقية من المطر بأيديهم . كانت الأشباح تنظر إليه بتحدٍ وكأنها تنتظر أن يفتح لها , لكنه إبتعد مرعوباً ] ( 11) . الحارس آدم يؤدي دوريه بصورة مزدوجة , فهو يحرس ويعيش في بناية لها بوابة , وهذا هو وجوده المادي ووظيفته الواقعية , لكنه يخرج من هذه الحالة الى حالة اللاواقع حين يتقمص هيئة من يرى الأشباح مجسمة ! أما الأشباح فهي الأخرى تؤدي دورين , كما سيتوضح في الأحداث اللاحقة في ما بعد , حيث هم جثث حقيقية لبشر حقيقيين . مساعد الطبيب والحرس الوطني هم أفراد حقيقيون لكنهم (هنا) يؤدون دوراً آخر , إنهم بوظيفة سردية , هم شخوص تخيل له مهمة التحقق من عدم هروب الجثث من المشرحة ! من المهم أن تتعاضد أدوار الشخوص مع حاصل نسيج الروي بعدم إعطاء مجسمات لكون التجسيم يسبب إنفصام وخلل في التبادل والتكامل والتنامي السردي بينما وجودهم الهلامي بين المادي والذهني يضبط التوازن الفني المقنع من خلال التناسق والإتساق والتلاؤم المنطقي المفترض ! ـ تقع الأحداث كذلك بحالين هما , الحوادث الواقعية , وهي حادثة واحدة تتكرر بعدة أشكال , حالة لو تكررت ملايين المرات فلن تكون إلّا فجيعة مؤلمة , إنها حادثة الموت بالرهاب ! كيف تكون هذه الحادثة , على واقعيتها المتخمة بالمادي في الوجود والهيئة , كيف تصبح حالة متخيلة ؟ [ حثتني إحدى جاراتي العراقيات لتقديم معاملة إسترجاع أملاكنا المصادرة …. اليوم كنتُ ذاهبة لتقديم معاملتي الى هيئة الشهداء , كنّا معاً كما أعتقد . لم أذكر شيئا سوى ألم خفيف في عنقي , ولم أعد أذكر شيئا .هنا أفقتُ معكم . وعرفتُ أننا متنا . نحن أموات أليس كذلك ؟ ] ( 12) . هذا المقطع كله سرد لحادثة عادية تماماً , إمرأة تذهب الى دائرة رسمية هي هيئة الشهداء لتحاول إستعادة أملاك أهلها المصادرة , لكن الحادثة تتغير , بمنطقها , كلياً على أثر عدة كلمات : (لم أعد أذكر شيئا سوى ألم خفيف . أفقتُ معكم وعرفتُ أننا متنا) , هذه الكلمات حولت الحادثة كلها الى تخيل يغوص في اللامعقول . إنه يسلب الواقع من تجريديته ليحوله الى تخيل مقنع . في مثل هذا لانحس بأن عناصر منطق الروي منفصلة عن بعضها . ثم أن المرأة تردم الفجوة الفلسفية إن كانت موجودة بسؤال : نحن أموات أليس كذلك ؟ لكأن الموت لعبة صغيرة مشكوك بوجودها . المهم أن العبارات المؤولة للحدث يراد بها الإطلاق الحدثي لما بعد التخيل والذي نؤوله بـ ( أليس جميع من في البلاد أمواتاً ؟) . مثل هذا الإيماء هو إندساس للفكر الفلسفي داخل تيار البني التخيلية للأحداث . لننظر في مقلوب منطق العمل الحدثي / [ فجأة تعالت الضجة القادمة من القاعة بما يشبه فتح لأبواب ثلاجات وسحب الأسرّةالتي ترقد عليها الجثث .. كأن الجثث الموجودة هناك قد تنبهت للضجة القادمة من قاعة الثلاجات أيضاً . لذلك نزلت من أسرّتها المتنقلة لفتح الباب أو للنظر من النافذة ] (13 ) . هذه حادثة تبدأ بتخيل لكنها تنتهي بواقعة شبه مادية , تلك هي , فتح الباب والنظر من النافذة . ولأجل أن يمتد التبصر الى آفاق خيال واقعي أو واقع متخيل فقد حرص الكاتب على المواءمة بين (آدم) الكائن من أديم الأرض , وبين الأرواح والأجساد التي ستنبث في الأرض , لكنه جعل الجميع يحتجون على لاعدالة الحياة ولا الموت , ولسوف يبحثون عن عالم آخر , وهذه الغاية ستوحد جميع العناصر السردية لغرض إنجازها , كما نرى . 3ـ تغير رُتب الكيانات / هي تغيرات كثيرة تشمل رتب الفوعل والمفاعيل والأفعال . فآدم تحوّل من بدائية السلوك , الى فلسفة المواقف , ثم صار الرقيب الذاتي الجمعي . ومن الناحية النفسية , تحوّل به الشعور من التصاغر الطفولي الى التصاغر الوظيفي الى التصاغر في المكانة الرتبية في المجتمع . والأحداث هي الأخرى تحولت , في كثير من جوانب نموها , من السكون الى الحركة , الى الفعل الشامل , أو نكوصاً , من الفعل الشامل الى الفعل الأقل , ثم الأقل , حتى درجة الإنعدام الوجودي (التكوّن على شكل حركة للأشباح) . إما مساحة التدوين فهي قد تحولت من مقولات الدراما السطحية المتوافقة مع القول الحدثي التعاقبي الى/ بث / القول والفعل بطريقة توازن بين المقولات الفكرية والإشتراطات السردية . ثم تحوّل القول التدويني ثانية من الإتجاه الإعلاني (المظهري) الى الإيحاء بالمضمر الدلالي حين واسط بين الواقعي والتخيلي , ثم إنتقل الى توريخ المتخيل عن الواقع . الجثث تحمل صراعات مجتمعية (لاواقعية) بها تُغيّر كيان الأحداث من حالة القتل الى حالة الخزن في المشرحة , الى حالة الهرب . ومن ناحية الرتب , تحولت الأحداث , عبر فواعل خارجية , تمثلها أشباح كبيرة الحجم , من ثم الى فواعل داخلية (حوارات تستنهض دوافع الهرب) . تلك التحولات رافقها الروي , الذي كثيرا ما ينعكف من الروي لليومي من حياة الناس , ثم الى اليومي الإستثنائي للحياة الفردية , ثم الروي لمتطلبات الناس , ثم الغور في أدلجات الفكر والسياسة . إضافة الى أنه , في كل مرحلة يستثمر حالة معاصرة حد التطابق مع الحدث اليومي (الإنفجارات) فيحيلها الى حالة سديمية بإعطائها مخوّلات المطلق التكهني . المثال على ذلك يشمل جميع البؤر الـ 12 رقماً (مشهداّ) حين تكون الأحداث بسيطة وتدرجية , ثم تتجه نحو نهايات مفتوحة على اللامتوقع , مع الحفاظ على الموجه الفكري (الإحتجاج) ! . 4 ـ المكانية والنفسانية / ” إن إضفاء صفات مكانية على الأفكار المجردة يساعد على تجسيدها , وتستخدم التعبيرات المكانية بالتبادل مع المجرد مما يقربه الى الإفهام . وينطبق هذا التجسيد المكاني على العديد من المنظومات الإجتماعية والسياسية , وحتى إلتصاق معان أخلاقية بالأحداث المكانية ” ( 14) . في التوضيح المتقدم تدقيق لمعالم أهمية المكان إجتماعيا بالدرجة الأولى , لكن عملية الإضفاء لاتشمل المجتمع فقط إنما العلائق الثقافية أيضا , سواء كانت عقلية أو فلسفية أو روحية وفنية , سيكون للمكان أثر من عدة أركان / ـ المكان إطار يحافظ على حدود التدوين , ومن ثم التأويل . ـ المكان تجسيد وضمير للحركة البشرية عبر الزمان . ـ المكان عنصر سرد قد يقع بمرتبة الراوي أوالفاعل السردي البطل أو المفعول به السردي . ـ بما يحتوي المكان من موجودات فهو حالة ديناميكية , لها أن توقف السرد أو تحركه بحسب الحالة المرجوّة من التدوين . ـ قد يؤدي المكان المنفرد الى وجود رواية متفردة بكل عناصرها . عن النقطة الأخيرة , نرى , أن للمكان في رواية مشرحة بغداد عوالم ذاتية وجمعية متفردة جعلت الرواية تنحو الى تلك الغاية (الفرادة) . كيف ؟ لنصف محيط المكان / ـ المكان عزلة وظلام . ـ المشرحة بعدة طوابق , أرضية وتحت أرضية . ـ تقع المشرحة على أطراف الحركة البشرية لبغداد . ـ للمشرحة محددات جغرافية . ـ في المشرحة طبيب ومساعد مشرف وحارس فهي فقيرة عدديا. ـ موجودات المشرحة ,أسرّة , ثلاجات , قاعة تشريح , جثث , بناء . بهذه المحدودية والحدة من المتصفات لسوف يتولد أبطال من النوع الذي يعاني الفصامين , فصام بين العمل والتفكير, وفصام بين عالم الأحياء والأموات . يبدو لاوجود لخيار ثالث إلّا بالوعي , وهو ما ينقص الشخوص , مثلما هي حالة أي مكان على الأرض فيه بشر ينقصهم الكمال إلّا ببعضهم . نوع المكان فرض صفات مشتركة لمنتسبيه منها / ـ الطبيب موظف في النهار , يتصرف بواقعية تماما . ـ مساعد الطبيب وجوده في الليل والنهار , يراقب كل ما في المشرحة . ـ الحارس , هو الرقيب الأهم في الإشتغال السردي . ـ الجثث , كلها تقص الحكايات , وكلها تتوحد في التوق الى الهرب . الى أين , لا أحد يدري . ـ الأشباح , هؤلاء هم المتنفذين وذوي الإمتيازات في الدولة : تقسم الأشباح الى / ـ طبقة المتنفذين من قوى الإرهاب. ـ طبقة المتنفذين من الشرطة . ـ طبقة المتنفذين الإداريين . إما الخصوصية فيمكن تلخيصها بالآتي / ـ الطبيب : صار شبحاً , أثراً , أُدخِل المشرحة وتم فتح جسده , فهو بدورين / جسدا حيا , وجثة متحركة . ـ مساعد الطبيب : له ثلاثة أدوار / هو الحي , هو الميت ,هو منظم عمليات الفساد في المشرحة في حياته وموته . ـ الحارس : له خمسة أدوار / قزمية إجتماعية , حارس حقيقي , حارس جثث , حارس تأريخ العالم السفلي , الشبح الصائغ للوعي . ـ الجثث : هي شرائح إجتماعية فقيرة , من عمال , موظفين , فتيات , فتيان , أطفال , عجزة , دورهم / مزدوج بالطريقة التي تؤدي صورة لحياة الحدث اليومي في العراق , ومن ثم يُصار الى توطين حالة اللاخوف من الموت , ثم الصدق , ثم الثورة , وأخيراً , هي الجثث خالقة القص الحقيقي في رواية المشرحة . 5ـ ثقافية الرهاب / نعتقد بأن الرواية تأخذ بطريقة تنامي الوعي من حالته القصوى في اللامنطقية الى الحالة المهمة في منطقية الفهم . وقد تبنى الكاتب اسس التحولات بحسب الآتي / ـ ماقبل المنطق : يصفه تزفيتان تودوروف “بأنه ليس البدائي إنما هو الصوفي , حيث الإعتقاد بأن لأشياء غير مرئية وجوداً حقيقياً ” ( 15) . في الرواية يوجد تحوّل بدئي يجعل المشرحة مكاناً اسطرياً , ومبعثاً لثقافة نفسية وإجتماعية موغلة في الصُغار الذاتي والعدمية, ثم أن الموجودات جميعها من النوع الذي يمكن ترحيله من الوجود المادي الى الوجود الذهني , الى اللاشيئية , وكل هذا يعني واحدة من مطلقات حالة الرهاب العامة في البلاد , وعلى مدى قرن سابق ولاحق للرواية . [ ـ أخذوني مباشرة الى الزنزانة , وهناك وجدت أربعة آخرين . بدا لي أن كل منهم لديهة قصة شبيهة بقصتي ] (16 ) . الراوي هنا جثة طبعاً , وهو ما يعني ( جثة موسومة) بالتحول اللامنطقي لثقافة الرهاب ماقبل بدئي , المقارب لصوفية اللاموجودات , على الرغم من الوجود الحقيقي للجثث ضمن بناية المشرحة . ـ التخيلي : هو واحدة من تحولات الرهاب الأساسية , حيث يقوم التخيل بالتقصيص لحكاية قصة لجثة شبح . تأخذ هذه القصة بالنمو السردي , مثل جميع الروايات , بما يقابل نمو الروي الذي يسهم في تحقيق الغاية الفنية والفكرية للرواية , يمثل هذا , جميع البدايات والنهايات للمشاهد المرقمة بالأعداد الـ 12 , المهيكلة للرواية . التي هي مادة تخيل يوحي بحدة الصور المادية للرواية . ـ التجاوز : هي تقنية تشبه الضبط المفصلي لكنها تتجاوزها الى تنظيم الوقائع حيث أن تجاوز الواقع قليلا بنوع من التفلسف الشخصي يتيح للفعل الروائي أن يكون وسطا , يتجاوز الواقع , ويتجاور قريباً منه . [ ـ ما الذي حصل .. ؟ سألت الجثة التي قرب الباب … أخذ يضربني ويصيح : ياعاهرة …. بعد قليل ذهب وعاد حاملا قطعتين من السلاسل الملفوفة والمربوطة بمقبض خشبي … راح يضرب ظهره بشدة ويطلب مني أقلّده … فجأة ألقى بالسلسلة من يده , وأخذ الثانية من يدي . ثم إحتضنني وأخذ يبكي .. أخذ يبكي بكاء مرا كالمنكوب .. أحسست لحظتها أنه في عالم آخر ] (17 ) . ـ الواقعية : لعل هذه المتجهة الأجوائية الفنية تأخذ سمتها من مراحل الفهم الذي يتغير من البدائية الى الصوفية , ثم الوعي الأولي , ثم الوعي الإجتماعي , ثم الوعي الثقافي الفلسفي بأطره النفسية … ارى هذا شكل لميدان الواقع العملي الذي نائت به مهمة الرواية الفكرية , فهو مبرمج غايات الرواية وواضع همومها الإنسانية العليا . ـ التحايث : المشرحة , المكان الدوني , المكان المنعزل , الزمان الضائع , سكن الطبقات العراقية الدنيا من البشر . المشرحة هي مضمور العلاقات الثقافية والإقتصادية والإجتماعية والسياسية , بالدرجة الأولى حيث / + قوى الأرهاب (الأشباح) تتبادل الطقوس مع قوى الإرهاب العلني , الحكومي والمليشياوي والدولي . + قوى التحكم ممثلة بالسلطة هي نوعان , نوع يعذب الموتى (النوع الأمني الذي يحيا بالظلام) , والنوع الرسمي الذي يأخذ الناس بالشبهة بصورة يومية دون خوف أو خفاء . + قوة التحكم الإقتصادي والسياسي هي هي ـ بحسب الرواية مشرحة بغداد ـ سواء منها ما يحكم الموتى أو ما يحكم الأحياء . + ثورة الموتى (الجثث) هي دعوة لثورة الأحياء . + تطور وعي شخصيتي الطفل وآدم (الشامل) هو تطور بإتجاه نبوءة المستقبل بإنسانية سليمة معافاة بالأمن والتآخي .

اسماعيل ابراهيم عبد

هوامش : 

1 د.المعيطة خليل عبد الرحمن , علم النفس الإجتماعي , 2010 , ط3 , ص128 , دار الفكر , عمان ,الأردن

2 برهان شاوي , رواية مشرحة بغداد , 2014 , ط2 , ص5 , دار ميزوبوتاميا , بغداد , العراق

3 شاوي , رواية مشرحة بغداد , 2014 , ط2 , ص5

4 شاوي , رواية مشرحة بغداد , 2014 , ط2 , ص195

5 شاوي , رواية مشرحة بغداد , 2014 , ط2 , ص31[1]

6 شاوي , رواية مشرحة بغداد , 2014, ط2 , ص45

7 شاوي , رواية مشرحة بغداد , 2014 , ط2 , ص48

8 شاوي , رواية مشرحة بغداد , 2014 , ط2 , ص49 , ص50

9 القاضي , معجم السرديات , 2010 , ص23

10 شاوي , رواية مشرحة بغداد , 2014 , ط2 , ص29

11 شاوي , رواية مشرحة بغداد , 2014 , ط2 , ص55

12 شاوي , رواية مشرحة بغداد , 2014 , ط2 , ص125

13 شاوي , رواية مشرحة بغداد , 2014 , ط2 , ص129

14 سيزا قاسم , بناء الرواية , 2004 , ص105 , دار مكتبة الأسرة , سلسلة إبداع المرأة ,القاهرة , مصر

15 تزفيتان تودوروف , نظريات في الرمز , 2012 , ص359 , ت.محمد الزكراوي , مراجعة حمزة حسن , دار المنظمة العربية للترجمة .

16 شاوي , رواية مشرحة بغداد , 2014 ,ط2 ,  ص70

17 شاوي , رواية مشرحة بغداد , 2014 , ط2 , ص148 , ص149

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| مهند النابلسي : سينما ارتجالية وشهرة مجانية وشخصيات سطحية:وصف دقيق لتحفة ترفو”الليلة الأمريكية”-1973/الفيلم الفائز باوسكار أفضل فيلم أجنبي لعام:1974 .

*يلعب Truffaut نفسه دور مخرج سينمائي يُدعى Ferrand ، الذي يكافح ضد كل الصعاب لمحاولة …

| عبدالمجيب رحمون : كيف نتواصل بالحكي؟ أو الرواية والحياة عن رواية “عقد المانوليا”

لماذا نقرأ؟ وكيف نقرأ؟ هذان السؤالان الإشكاليان اللذان طرحهما الناقد الأمريكي “هارولد بلوم” لم يكن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *