* اوستن – تكساس
تتحامل الدنيا عليك بكيدها
وتراك تغفر دائماً إجرامها
* الشاعر المنسي محمد رضا الخطيب
شئت أن أخط بالقلم أحرف اسم هذا السياسي الجهير في تاريخ ايطاليا وبقية البلدان الأوربية ، على وفق ما آثر له مريده الأول من كُتاب العربية وتخَير من هذا الشكل الاملائي المتسم بترتيب الأحرف على الشاكلة التي يجتليها القارئ وحسبما ينطقه الملأ في سائر اللغات ، وهذا المريد هو محمد لطفي جمعة الكاتب المصري والمشتغل بالمحاماة والتوكل بالقضايا الكبرى في أروقة المحاكم لحد منتصف العقد الخامس من القرن العشرين ، وما تصديه وإزماعه على تبرئة الضابط المتهم أنور السادات من دعاوى اغتيالات السياسيين المشهورة غب سني الحرب الكونية الأخيرة ، بخافيين على القارئ المعني بمتابعة الحوادث الخطيرة والمغيًّرة لأوضاع المنطقة هنا وهناك ، ولعله قضى قبل أن يشهد ما جرى لموكله من أحوال وخطوب في الآتي من الأيام تواتى له فيها من الصيت المدوي والآخذ بسمع الدنى جراء ما فُطِرعليه من استعدادٍ للمصاولة والعمل بخلاف المُشيرين عليه بالتؤدة لصرفه عما ينتوي تحقيقه ، وخُتِمت حياته بتلك النهاية الأليمة المعروفة ، وظل إصراره على سداد رأيه مهما كان عليه من الخطالة والصوابية ، مع عدم اكتراثه بوجهات نظر غيره من الساسة لحد استهانته بشخوصهم ، مبعثَ احترام له وإعجاب بدهائه وحنكته وجوسه طويات الرجال الألى تجاوزوه في طلبتهم إلى درجة متدنية ومؤسفة من الابتذال والتهافت .
ومحمد لطفي جمعة هذا يبدو أنه كان ميسر الحال موفوراً بدليل كثرة سفراته إلى العواصم والحواضر الأوربية المختلفة ، ولعله استهلها بالعام 1910م، فزار مدناً عديدة مثل جنيف في سويسرة ، وجنوة وفلورنسا وروما بايطاليا ، وليون وتارار وباريس بفرنسا ، ويمضي فيها شهوراً بين التنقل من منتجع إلى غيره مؤثراً إياه بالمكوث والإقامة ، وللقارئ تقدير ما تستنفده هذه الأطوار الحياتية التي يتقلب فيها وعليها المرءُ من النفقات والمصروفات إبان ذلك الزمن البعيد ، كل ذلك لتستتم مشروعاته ، وأبينها تعلم اللغة الايطالية على وجه الخصوص لأجل الشروع بنقل فصول كتاب الأمير لمؤلفه السياسي والمؤرخ الايطالي نيقولاي ماكيافيلي إلى فصحى العربية ، فقد هام به شغفاً وحباً، وامتلأت نفسه بالإعجاب والثناء على فرط اصطباره إزاء ما لحق بشخصه من كنود وضيم ، وحاق بسمعته من تشويه وافتئات ، وتمادىٰ المحيطون به في التنكر لأفضاله وصنائعه التي أسداها لبلده في غير استطالة وتمننٍ بعد تجريده من سلطاته وامتيازته ، إثر حدوث تغير في طبيعة الحكم وانتقال المسؤوليات إلى هيئات وأسماء غير التي كان متعاوناً معها ومسانداً لها في إدامته وتدعيمه ، وأوقف على تقدم مدينته فلورنسا وشيوع الحياة الرخية فيها حيث ينعم الأهالي بالاستقرار والدعة ، فلا يقلقهم ما يسفر عنه غدهم من بلايا أو دواهٍ ، ولا يهمهم أصلاً ما ينجم عنه بخلافها من المسرات والمباهج ، قلت رصد سائر ما يختزنه في ذهنه من خبرة ومعرفة بالنفوس والطبائع ، ولعل فكرة توحيد الوطن الايطالي بمجموعهِ في كيان قوي ومتماسك ، بدلاً من اشتماله مدناً متفرقة ومشتتة تغري بالاستحواذ عليها واستلابها بكل ميزاتها وخصائصها ، وأولاها بالذكر إطلالتها على البحر من جهاتها الثلاث أو الأربع ، أيَ طامعٍ من حكام جاراتها يتطلع لمد نفوذه نحو هذا العدد الوافر من المرافئ والمواني ، فأول ما راوده وهجس به شعوره الوطني وفكّر فيه ، على سبيل تحقيق مشروعه وتجسيد حلمه ، هو تأسيس جيش ينتظم في صفوفه أبناء مدينته كي يذودوا عن حرمتها ، ويصونوا ذ مارها ، ويدرأوا عنها عاديات الباغين من البرابرة الصائلين عليها كل آن من الشمال ، بدلاً من الإستعانة بالجنود الفقراء المستأجرين ، إذ لا ينتخي أولاء حين يجل الخطب كمثل من تسري في أوصالهم الحماسة من أبناء البلاد الأصلاء ، وكان أن عاد أفراد اسرة المديتشي القساة والمدال منهم قبل وقتٍ إلى سابق نفوذهم وهيمنتهم على جمهورية فلورنسا (وردت بلفظ فيرنزة في جميع صفحات الكتاب ولعل المترجم لزم منطق الأهالي فيها وترسم ضبطهم لها )، بعد تدخل في شأنها تواطأت فيه وتضافرت جيوش الأسبان والبندقية والبابا أيضاً وتوغلت في ميلانو بغية الوصول لفلورنسا ، فوجدت جيش فرنسا المتحالف معها والمبعوث من لدن ملكها لويس الثاني عشر ، واقفاً لها بالمرصاد ، يرصد تحركاتها ، ويرقب أي عمل عدواني تنوي شنه ، لكن طرأ على الموقف من ألوان المفاجأة ما لم يدر في خلد أحد ، فقد انكسر الجيش الفرنسي بعد مصادمة عنيفة والتحام بهذه الجيوش الثلاثة المتحدة التي مضت بعد هزيمة الذواد والمدافعين في إنفاذ وعدها وتصميمها على إنجاد أسرة المديتشي في استرداد سطوتهم من جديد .
وأناخت سحب العزلة والإنحسار والتواري عن محافل الناس على حياة نيقولاي ماكيافيلي بعد إقفاره من كل مشيئة وإمرة ونهي ، حيث نفي خارج أسوار المدينة ، وهناك أمضى نهاراته منهمكاً في مشاغل شتى كي يتغلب على إحساسه بالهضيمة وشعوره بالوحشة ، ويطرد من ذهنه ما استطاع ، تفكره في المصير الإنساني واستغرابه من فرط إقبال البرايا على كل ذي سلطان ، وإدبارهم عمن فقده ، واستحال ابتسام الحظ في دنياهم عبوساً وتجهماً .
وإعتاد في أمسياته أن يلوذ بإحدى الغرفات في دارته بالمنفى تلك حيث تشتمل على مكتبته المحتوية عيون المؤلفات والرسائل لمعلمي الإنسانية من جهابذة الرأي ودهاقين السياسة والعارفين بالفلسفة والحكمة والمحيطين بالشأن الحضاري والعمراني منذ فجر التاريخ ، وما غايتهم إلا الانتقال بالإنسان والتدرج به صوب الإرتقاء والبعاد به عن حياة التخلف والمسكنة ، وقد شارف الخمسين من سنيه الحافلة بالمفاخر والأمجاد ، والمشحونة عين الوقت بما لا مزيد عليه من المحن فضلاً عن التسجر أسىً من الإخفاقات والنكبات لقاء إخلاصه وتفانيه في عمله الدبلوماسي وأمانته في السفارة عن حكومة جمهورية بلده المقتصرة على رباع فلورنسا وتلحق بها بعض الأرياف والقرى والبليدات ، فقد كانت ايطاليا عهد ذاك مجزأة متفرقة الشمل تسود فيها حكومات متعددة ، ومنها هذه التي تربعت على دست الحكم في فلورنسا وعلى رأسها حزب الشعب الذي أفلح في زعزعة دولة الأسرة المعروفة بآل مديتشي التي ما ونت في معاملة الناس وأخذهم بالعنف والاستبداد بدلاً من محاسنتهم ونوال رضاهم وتأييدهم على ما يقول المؤرخون في مدوناتهم ، والمهمة التي نهض بها الرجل هي المأمورية عن الجمهورية كما كانت تسمى يومها ثم عظم شأنها فصارت تدعى اليوم بالسفارة أو الوظيفة الدبلوماسية ، ووكده منها تمتين العلاقات الوطنية وإحكام الارتباطات بالدول الأخرى والحرص على بقائها بنجوة من الختل والمداهنة لتستديم الحياة على الصفو والوئام ، فهل كان سعيداً هناك هو الزاهد في حطام الدنيا ولباناتها ، والمتعفف عن أن يمد يده لينهب أموالاً مودعة عنده لينفق منها ما يسد حاجته ويفي بما يطلبه ، ويخون بذلك ذمته ، ويتساهل مع ضميره ، وينكث عهده المقطوع أمام مجلس الجمهورية أو العشرة الأفذاذ بأن يصون البلاد ، لكن واقع حاله ينبي عن الرسائل المخجلة التي يبعثها إلى رؤسائه ومعتمديه ، يشكو خلالها بؤسه وفاقته واحتياجه إلى الأدنين ، ثم يقرعهم ويبكتهم بقسوة لاذعة لا منفذة منها ولا مجال لمقاضاته ومحاسبته ، أن لو كانوا حراصاً على شرف جمهورية فلورنسا ، لاستبقوا الخطر المحدق وتجهزوا لدفعه، وهذا أولى من الإشفاق عليه والسماح له بالعودة إلى الوطن والتخفيف عن كاهله حمل هذه الأوزار الثقال ، فلم الهجوع على بساط السكون ، والغفلة عما يبيته الأعداء الحاقدون من أفراد المديتشي خصوصاً من دسائس ومكايد ، ويوغلون فيه من الإئتمار مع الأباعد ، لينتزعوا الملك منهم ثُانية ؟ وبمثل هذه اللهجة الممتلئة بالتبريح والمرارة ومعاناة الضعف والخشية من الانهيار وتحطم القوى ، جاءت رسالته الخاطبة ودَ الحاكم الجديد جوليان مديتشي والمستعطفة مزاجه الذي لا يلين ، وطبعه الذي لا يرق يوماً ، ويتخلى عما فُطِر عليه من شنآن وموتورية ، مترجياً فيها أن يطلق سراحه ويبيح له الحرية ، فلمْ يحفل بها ويعْرهَا التفاتاً ، ثم شفعها بأبيات من الشعر مصورة لسآمته واستيحاشه وبرمه بمكاره الدهر ، فجنح الأمير للتهاود والمرونة ، ورقّ له فؤاده ، وأمر بإيابه من النفي وإلغاء عقوبته ، فانصرف ماكيافيلي العائد من الإبعاد والإقصاء إلى الحياة الطليقة يواصل ما شرعَ في كتابته من الأسفار والمذكرات والقصص التمثيلي ، وكان منهُ حكاية هزلية عنوانها ( ماتدراجور ) ذاعت شهرتها بين الجمهور واستهوت معاشر كثاراً حتى أن البابا ليون العاشر (( واسمه الحقيقي حنا دي مديتشي، وانظر هنا لتقاسم المراتب والوجاهيات والمسؤوليات دنيوية وأخروية من لدن أسرة بعينها على مر العصور في الشرق والغرب )) ، طلب مشاهدتها على المسرح فانسحرَ بها وراقته ورضي عن المؤلف رضاءاً مقدساً من جانبه تواً ، فانساب نيقولاي ماكيافيلي في غمار الناس وسمح له بممارسة السياسة التي كلف بها ونيطت به بعض المهمات والأعمال ، لكن أنى للمتعب المجهود أن ينبه له شأن فيها هذه المرة ، ويسلف أثراً فاعلاً في مجالها .
وكتاب الأمير هو الأميز والأثير ومبعث جدل واختلاف بين المتناظرين في تقييمه من أغمار الناس وأعيانهم من وزراء وملوك ورؤساء جمهوريات من جميع العناصر والأعراق والأديان والمذاهب واللغات ومختلف الدول والنظامات التي عرفتها البشرية طوال القرون الستة الفائتة ، فقد ترجم إلى مختلف لغات العالم ويندر أن لم يتداوله مشتغل بالسياسة مبتغياً جني منفعة شخصية و وطرٍ خسيس أو لمجرد رغبة وتوق لخدمة الصالح العام ويفدْ منه ، حتى الذين لم يقتفوا تعاليمه في ممارسة أعمالهم وترسموا خلافها من أصول وقواعد ، كما أن هناك نفر أمعنوا في جبروتهم وسفههم ، وتوهموا أن الشعوب قد تستنيم إلى ما لا نهاية ما أوغلوا في عسفهم بمناوئيهم وأضدادهم ممن يخالونهم أنداداً ومتأهبين لانتزاع الحكم منهم ، وكذا يسرف أولاء العتاة في تفسير بعض أقواله على وجه وشاكلة تماشي أهواءهم وتوافق نزواتهم، فمثلاً يقول ماكيافيلي : (( إذا أردت أن تريح نفسك من رجل فاعمد الى احدى الطريقين : الأولى أن تتملقه و تحسن إليه، والثانية أن تخمد أنفاسه وتنتهي من أمره ، ثم يستطرد : في طبيعة البشر عادةٌ تساعد على تقرير تلك القاعدة ، وهي أنهم يحاولون دائماً أن ينتقموا من أعدائهم لما ينالهم من الأضرار التافهة ، لكنهم لا يقدرون على الانتقام لأنفسهم بأضرار كبيرة ، ليستخلص بعد ذلك النتيجة الآتية من تقريراته : خير وسيلة لمن يريد إيصال الأذى الحقيقي بعدوه أن يصب من جام غيظه قدرآ يعجزه عن الانتقام .
ونلفي أمثال هذه الخطرات والشذور في تضاعيف سرده حول سيرالأحكام وتمشية مصالح الناس والاستجابة لمطاليبهم وحسن إصغاء مسؤوليهم لاستغاثاتهم أوبعكس ذلك من إهمالها وكأنهم يناشدون الحجر الصلد ، ولزم المؤلف في البوح بذلك صوغآ متدفقاً ، وبياناً قوياً مستوعباً مشاعر مضطربة وعواطف ملاًى بالأسى والكمد ومنبعثاً كذلك عن الصدق الحقيقي الذي تعمر به النفس والوجدان قدر نأيه عن الادعاء والتزيف ، كما أظن ذلك وأكتنهه أنه جاء على النحو ذا بلغته الأصلية والتي غري المترجمُ الناصِبُ في حذقه الايطالية بسن الشباب فباراه أو شاكله في اسلوبه العربي .
وقد طالعتني في سنين فائتة أمثال هذه العبارات المعتصرة ما ابتغى هذا السياسي المنكد والمستجمع في سلوكه وسمعته وتأثيره في الثقافة والسياسة للنقائض ، مما سنلم به ونقف عنده في موضع آخر من هذه الأكتوبة .
فقد عثرت بترجمة ثانية لكتاب الأمير لدى الوراقين، وأغلب الظن أنه منقول عن نص انجليزي إذا ساعفتني الذاكرة ، وهو اليوم من نوادر الكتب التي سخوت بها و فرغ منها الأديب الفلسطيني الراحل خيري حماد أو افتقدتها أو فرطت بها، لكن تبقت في الذاكرة منه لغته الفصيحة الخالبة للألباب والموفية بالمعانيَ ، غير أني أجتلي اتفاقآ أواستواءاً بل تماثلاً وتطابقاً بين الترجمتين المطبوعتين في زمنين متباعدين ، وذلك يتوقف عادة أومرهون بكيفية فهم أي من المترجميَن للمضمون والغرض، فلا يبعد أن يركنا لغير لفظة أوعينها في صوغ بعض الجمل، فلا محيص بالتالي من أن يبين هنا تزيدٌ أوبعض التعديل والتحريف، أوإخلال بمقصد المؤلف مع الاحتفاظ بالجوهر العام، وفي هذا سوينحة من الوقت للقارئ كي يتفرس فيها عبقرية اللغة العربية وأهليتها وجدارتها بالتعبير عن النوازع والأهواء،مع تفاوت قابليات أبنائها في حسن استخدام مفرداتها بالتمام أو بدونه :
فمثلاً أذكر أن المترجم الأول محمد لطفي جمعة انتهى من صوغ الاستطراد الأخير من عبارته الضافية ـــ بعض الشيء ـــ التي استدللنا بها اَنفاً ، صوغاً سردياً عادياً إذاجاز الوصف لكنه مستوٍ على الفصاحة، بينما تولى قريعه أونظيره المترجم الثاني خيري حماد عن تأدية مؤثرة ومتدفقة بالعنف والعدوان ومحفزة على البدار والمجابهة وتحريك السواكن .
وكتاب الاًمير بعد مهدى من قبل مؤلفه إلى جناب الأمير ( لورنزودي مديتشي ) الكبير وهوغير جوليان الذي آلت إليه الأحكام في فلورنسا بمعاونة الجيوش المتحدة الخارجية وتدخلاتها في شأن لا يعني الفئات المتنفذة في البندقية وروما والمدن الأسبانية بجملة أطرافها وأجزائها ، ويبدو أنه المعول عليه بما حُبي به من الحزم والمضاء وبعد الهمة ، أن ينهض بجمهورية فلورنسا من جديد لأنه المؤهل لتحقيق هذا الأمل في توحيد البلاد ونصرة الحق والوطن ، وكأنه نصل من ماضيه الذي حييه زمن العهد السابق في ظل حزب الشعب وما جُوزي به من إبعاد وتحلئة عن وظيفته الدبلوماسية وجميل مشورته لرجالها حين تُلتمس منه ويُحوج إلى الاستئناس بدرايته وتوقعه لما يبطنه المستقبل من أمور وحوادث ومشكلات قد تتحقق أو لا يتوافر لها حسن استباق ، فليس هو بالعارف المحيط بالمغيبات أصلاً وعلى كل حال .
ويشوب خطاب الإهداء إلى الأمير ( لورنزودي مديتشي ) الكبير غلو وتمادٍ في التذلل والضراعة وشرح حاله بعد ما أثيب به من الغبن والإهمال والتجاهل والإقصاء، ووقع جراء ذلك كله فريسة العوز والإفتقار والضنك والمرض ، وأنه يصارحه بأن وضعيته تستدعي الشفقة وابتدار ولي الأمر لمدِ يدِ المساعفة والإنقاذ ، وإن أمساً انطوى بكل ما حصد الملأ فيه من المسرات والأحزان ، وهوهنا صريح مع نفسه في تقديمه كتاب الأمير لوليه الجديد حاوياً أخبار كبار الرجال وأعمالهم ، وما اكتسبه من الخبرة واستيعاب حوادث التاريخ الماضي مع إمعان النظر في شؤون الزمن الحاضر ، ومبيناً عن استعداد مؤلفه وتطويعه جهده لمعاونة الأمراء والملوك في سياسة الأمم وحكم الشعوب ، وعدِ عنك ما ريم به من السلوك الانتهازي والتلون والتحول من طبع لآخر ضده جراء هذا اللون من الارتكاس المهين ، وما رامه السياسيون به من التغرض والطعن هم الذين صاروا يعملون بتوجيهاته وتبهرهم قوة شخصيته وتناهيه في المجاهرة والاصراح وكشف الخافي والمخبأ من أعماله وتصرفاته ، ويكون ذلك في سرائرهم ، ويشاطرهم في إرسال هذه الإتهامات والتخرصات بعض المؤرخين ورجال البحث والتأليف من مختلف الأوطان ، إذ لا بد من أن يضطر الإنسان لأن يداور ويجري مع الزمان ويستسلم لبعض الضغوط الحياتية ويقطع رابطته مع الإصرار والثبات والعناد ، وما عليك بما ينسجه الخياليون من قالة الشعر ، وقد يتكشف أولاء المتراجعون المنخذلون عن تمادٍ في المراء والنفاق بمجرد تبدل الأوضاع ، فكم من مدع ٍ لنفسه الاجتراء على مصارحة الأرباب المدال منهم بأن يشيعوا اللبرالية في الوسط الاجتماعي ويجيزوا حرية القول والتعبير ويستمعوا لمنطق الآخر ، ومتشدق ٍ بأن رسالته الأكاديمية كانت مسايرة للمُودة ! متماشية مع المألوف في معالجاتها ، وبعدها يستغفلنا فيزعم اهتمامه بالقضية الفلسطينية ، مغضياً عما تعاقب وترادف على أهله من نكبات ومواجع ، كما حصل مثل هذه المهازل في بلدان الربيع العربي .
أو أنسى صنيعَ مَن يتوقون لتصدر الأدبية العراقية من راكبي الموجات ، وما تعرضوا لنا ذات يوم في الصفحة الأخيرة لجريدة العراق المحتجبة بشعوذة تفيد عدم تبصرنا في واقع بلادنا وهي تخوض الحرب ، زراية بموضوعاتنا الأدبية والفكرية وتهويناً منها وانتقاصاً لها ؟ فسبحان مقلب الأحوال .
عِد عنك عن كل هذا ، ولنستبنْ التباين في منظار كلتا ترجمتي محمد لطفي جمعة وخيري حماد فالأول يلومه على تسطيره عباراته في الإهداء : ” ثم ارجع البصر يا سمو الأمير تَر رجلاً في الحضيض تستدعي حاله الشفقة لما ناله من العذاب عدواناً من الزمان وظلماً من أهله” ، وتمنى لو راجع نفسه قبل تدوينها فإن ما فيها من الاستعطاف ذهب بقيمة ما تقدمها من أصالة الرأي وجلال الحكمة ، وبعدها ينهي المترجم اعتراضه بالقول : لكن قضت علينا أمانة التعريب بنقلها ، ويخالها الثاني من روائع الأدب الإيطالي الحديث ! أو لا فأنا استوحي الذاكرة في ما أكتب ، فقد يكون حكمه هذا بصدد الروعة في الأدب الإيطالي الحديث ، جاء بخصوص تعابيره النضاحة بالشجو والألم في ختام الفصل السادس والعشرين المعنون ( تخليص ماكيافيلي من يد الأجانب البرابرة ) :
” إني عاجز عن وصف الحب الذي يلقاك به أهل الولايات التي أغار عليها الأجنبي ، وبأي ظمأ للانتقام وبأي ثقة وبأي شكر، بل أي باب يكون مقفولاً في وجهك وأي شعب يأبى أن يطيعك وأي حسود يقاومك وأي وطني يتمرد عليك ، فإن هذه السيادة الأجنبية تلذع خياشيم كل واحدٍ منا ، فهل لبيتك العظيم أن يأخذ على كاهله القيام بهذا العمل الجليل بالشجاعة والآمال اللذين توحيهما الدعوة العادلة لنصرة الحق والوطن ” .
لقد سمعت بالقولة المشهورة والمنسوبة لمكيافيلي : الغاية تبرر الواسطة ، قبل أن أتصفح سفره هذا الذي أثرّ في النفوس والعقول على مدى أجيال متعاقبة وغير مجرى الحوادث التاريخية بحسب ما قيمته وأضفت عليه هذه الأهمية دار نشر في القاهرة أو بيروت ، وطالما أنست بالمحاورات التي دارت حول فكره وفلسفته قبل سنين على صفحات مجلة الكاتب المصري بين الأديبين المثابرين حسن محمود وعلي أدهم ، وكلاهما عامل بالترجمة عن الآداب الأوربية ، ورأيي في الأخير إنه أعجوبة وفلتة من فلتات الزمان ، لأنه لم يتلقَ دراسة منظمة في مدرسة ثانوية أو كلية من كليات الجامعة ، إنما اعتمد على نفسه في تزوده وتحصيله وصار على دراية وإحاطة تامة بالآداب الروسية والإيطالية ، وانقطع آونة لدراسة تاريخ العرب في الأندلس ، وتناول بالشرح والتحليل عبر مئات المقالات في المجلات والدوريات موروثهم وحضارتهم، وناطت به دور النشر الأهلية والرسمية مراجعة كتب الأساتذة الأكاديميين وهي بعد مجرد مخطوطات يراد طباعتها ، فلا تداخل نفوسهم غضاضة أن يراجع مسوداتهم من علم نفسه بنفسه في غرفة من غرفات داره كما يقول طه حسين محتفياً به ومكبراً جهده ، ومقالاته عن ماكيافيلي منشورة في أكثر من عدد في ( الكاتب المصري ) في أربعينيات القرن الماضي ثم عاود على كتاب الأمير وما جرّه على صاحبه من ردود فعل متفاوتة بين السخط والرضا والنقمة وحسن القبول لدى طوائف المجتمع وذلك في مجلة ( تراث الإنسانية ) التي طالعت القراء في بداية الستينيات ثم توارت عنهم عملاً بسياسة التقشف ما بعد يوم حزيران .
وعبثاً ما أنفقت من جهد على سبيل العثور والوقوف عند تلك العبارة الأثيرة في صفحة ما من الكتاب ، كي أتعرف على الأسباب والدواعي التي ساقته للتفوه بها على أنها محصلة القول وعصارة التجربة وفصل الخطاب ، غير أني ألفيت بدلها محصلات قمين بالفرد العادي أو المضطلع بالمهمات والأعمال في دنيا الكدح في محيط الناس أن يتدرعها ويتسلح بها قبل أن يهتدي إليها العامل في الحقل السياسي أو متبوئ وظيفة ذات شأن في دوائر الحكومة ، وهاكم :
” …… ينشأ سؤال مهم ، وهو أنفع للأمير أن يُحَب أكثر مما يُخشى ، ويُهاب أكثر مما يُحَب ؟ فالجواب أن يكون محبوباً مهاباً ، وحين يصعب الجمع بين الحالتين ، فإذا احتاج الأمير لأحدهما ، فالأفضل أن يهاب ” لأن ” الناس أسرع إلى اساءة مَن يحبون منهم إلى اساءة من يرهبون ” و” يجب عليه أن لا يعتدي على أملاك الغير ، لأن الناس أسرع إلى نسيان مقتل آبائهم منهم إلى نسيان ما لحق بأملاكهم وأمتعتهم من الخراب والإغتصاب . ” فيا لنفاذ فكر هذا الأديب السياسي والفيلسوف والمؤرخ بأطباع ذوي الشأن وتصرفاتهم الغربية في تعاملهم مع اتباعهم الدانين منهم وسائر مواطنيهم الذين شاء طالعهم السيء أو الحسن أن يذعنوا لهم وينزلوا على إمرتهم ، كل آن ، فزاده ذلك معرفة بعواطف النفوس وتقصياً وراء الأسباب والعوامل التي تقسر المرء على كظمها وكبتها وإن كان في ذلك ما يهجِنه ويعيبه .
وما كدت انتهي من اكتوبتي هذه وأقف عند حد ، حتى تطلبت من مُجالسي أن يطلعني على ما جاء في الأنترنيت وبأحد معجماته ومدوناته بصدد سير الأعلام المؤثرين في تاريخ البشرية ولهم حضور بين الناس وسط بيئاتهم التي درجوا فيها ، ومنهم هذا العلم الطائر الصيت ، إذا به يريني ترجمة ثالثة لكتاب الأمير أنجزها الأستاذ أكرم مؤمن ، وهذا الفاضل لم أسمع به يوماً وألم وأحيط بإهتماماته وأولاعه وأعماله الثقافية عموماً ، وكان أن طبع كتابه المترجم عام 2004، وتعهدت بأمر نشره مكتبة أو دار نشر في القاهرة أو بيروت لم أتوفق في التثبيت من اسميهما وعنوانيهما ، فقد رسما على وفق نمط من الخطوط في ترتيب الأحرف ، عييت أن أجتليه بصورة واضحة ، وما أن شرعت في قراءة مقدمته حتى داخلني الروع ، إذ صدمت بلذعه نيقولاي ماكيافيلي بقارص الكلم ، وتحامله عليه بشكل غير منصف ولا موضوعي أو مؤثر للوسطية والإعتدال عند تقييم مزيات الأداني والأكابر من الرجال يقول :
” إن هذا الكتاب يعتبر عاراً يلاحق مؤلفاته من يوم وفاته بعد قرون ”
فلمَ أنفقت جهداً وكابدتَ نصباً وتوفرتَ على نقله إلى عربيتنا وفضلت له أن يندرج في سلسلة كتب غيرت مجرى العالم يا سيدي والسلام
—————————————————————————————-
*خطيبٌ وشاعر ومن أعيان قضاء الهندية ( قصبة طوريج ) توفي في يوم من شباط عام 1946 ، كان داني الصلة والارتباط بصداقة حميمة مع الشاعرين جميل صدقي الزهاوي ومعروف الرصافي ، واشتهر بقصيدته العامرة والمشجية في رثاء الزهاوي ، نشرتها الصحف الصادرة في أوآخر ثلاثينيات اقرن الماضي ولم يلقها في حفل تأبينه ، فقد أربى في إبداعه وروعة نسجه على سائر الشعراء العرب القادمين من بلدانهم لإحيائه حيث اتسمت قصائدهم بالإعضال والكلمات الصلدة سوى قصيدة شاعر لبنان الاخطل الصغير الذي باراه في الحديث عن فلسفة الموت.