وتبقى الكلمة (10)
شعر: د. زكي الجابر
إعداد وتعليق: د. حياة جاسم محمد (ملف/25)

Zeki aljaber

إشارة : 
يهم أسرة موقع الناقد العراقي أن تقدّم هذا الملف عن الشاعر المبدع والإعلامي الكبير الدكتور زكي الجابر بمناسبة الذكرى الثالثة لرحيله حيث غادر عالمنا في الغربة يوم 29/كانون الثاني/2201 . وتهيب أسرة الموقع بجميع الأحبة الكتّاب والقرّاء المساهمة في هذا الملف بما يملكونه من مقالات أو دراسات ووثائق وصور ومعلومات وذكريات عن الراحل . وسيكون الملف – على عادة الموقع – مفتوحاً من الناحية الزمنيّة .هذه المادة المهمة التي تكشف ثراء ثقافة الراحل وتعمّقه في حقل مضاف هو المسرح وصلت من الناقدة الدكتورة حياة جاسم محمد فشكرا لها .

8 سوناتات للحزن و 2 للفرح*
إلى من تساءل بحسرة العاشق:
’’حبيبتي … لستِ معي …؟‘‘
(1)
حبيبتكَ ليستْ معكْ
ولن تكون معكْ
ربما تكون الآن في غرفتها الباردة
يشدّ الأرق عينيها إلى السقف العاري
هرقت كأس النبيذ
والتفّتْ بغلالة الضوء الأزرق
وارتعشت!
وأنتَ، ولا أظنكَ نسيت،
تحاول أن تنثر النجوم على الرمال
وتطرّز السماء بالحصى
أيها النبيّ الكذّاب
من يصطاد النجوم
يعجز عن رؤية الزهور في الحدائق!

(2)
حبيبتكَ ليست معكْ
ولن تكون معكْ
ربما تكون عند رأس ’’بيروت‘‘
تتسارع المويجات مرتميةً عند قدميها العاريتين
وهي تنثر شعرها المسترسل ليبتلّ بالرياح الباردة
وأنتَ، ولا أظنكَ نسيت،
تنقل خطاك الواهنة
من مطار إلى مطار
وفي كل مرّة
يقلب الدركيّ جواز السفر
تقول بصوت خفيض:
’’إنّ الجليد يغطّي كل المدارج
والشمس اعتزلت في أحد البروج
فلماذا تتعب نفسَكَ أيها الدركيّ الأبله‘‘!
(3)
حبيبتكَ ليست معكْ
ولن تكون معكْ
ربما تكون عند أطراف الصحراء العربية
تفجّر آبار البترول ينابيع مياه
وتحوّل لمعان السراب إلى دموع
وأنتَ، ولا أظنكَ نسيت،
تقف مشدوهاً
تقبض على الماء والنار
عند شاطئ البحر
والأنهار تجري على سفوح الرمال
والعسل يقطر في مياه البحار!
أمّا الآلهة التمر
فقد أكَلَها الناسُ في زمن المجاعة!
(4)
حبيبتكَ ليست معكْ
ولن تكون معكْ
ربما تكون في غرفة بغدادية
يغطّي وجهها رفيف الحياء
ولا تجسر على النظر من فَتَحات ’’الشناشيل‘‘
وأنتَ، ولا أظنكَ نسيت،
قميصُكَ قُدَ من قُبُل
شرخته كفّ الغانية
في ضاحية ’’الحمراء‘‘
تلك التي لطّخت وجنتيك بحمرة شفتيها
وطردتك من بوّابة حانتها الخلفية
(5)
حبيبتكَ ليست معكْ
ولن تكون معكْ!
ربما تكون في ’’معلولة‘‘(1)
ترتشف على مهلٍ نبيذها المقدّس
وأنتَ، ولا أظنكَ نسيت،
تتسكع في شوارع ’’لشبونه‘‘
تقضم السردين المقلي
وتحتسي الشراب الرخيص
لم يهبط بعد جنود المارين
والنسوة الخائفات من هراوات البوليس
يرتجفن من البرد والجوع!
(6)
حبيبتكَ ليست معكْ
ولن تكون معكْ!
ربما تكون في مكتبة الجامعة
تقرأ ’’رأس المال‘‘
وتلمح سواعد البروليتاريا
تنضح عَرَقاً وغضباً وثورة
وأنتَ، ولا أظنكَ نسيت
تلك الليلة في ’’هامبورغ‘‘،
حين اشتعل الضوء بالضوء
والحمّى بالحمّى
والجسد بالجسد!
وارتمتْ النجوم على مصابيح الشوارع
وسالت ’’البيرة‘‘ على اللحى والصدور
هل ذاب الكون في الموسيقا الصاخبة؟
(7)
حبيبتكَ ليست معكْ
ولن تكون معكْ!
ربما تكون احتجزت نفسها
في غرفة بعيدة من فندق بعيد
أطفأت سيجارتها العاشرة
ولكنّ نيران القلب لم تنطفئ
وأنتَ، ولا أظنكَ نسيت
ليلة ’’باريس‘‘،
حين سال العطر بين الشَعرِ والمخدة
وغطّت عينيكَ سحابات ’’الماريوانا‘‘
ونثار الضوء يهمي في زخات الثلج
وتساءلتَ: لو كنتُ هناك في ’’بلومنغتون‘‘(2)
لمددتُ يدي، وسحبت غطاء الثلج
وتدثرت!
(8)
حبيبتكَ ليست معكْ
ولن تكون معكْ
ربما يكون الحمامُ قد نشر أجنحته بساطاً
وطار بها أميرةً من أميرات الأساطير
تمسح خدود الغمام
وتذوب نظراتها حناناً على رؤوس النخيل
وأنتً، ولا أظنكً نسيت،
تختفي في صدارك الجلدي
متشرداً في شوارع ’’نيويورك‘‘
تتطلع في واجهات المخازن
وشاشات التلفزة
وشبكة الإنترنت
تتلمس جلدك خوفاً
هل يسكن تحته
لحمٌ وصديد
يتمازج فيه الجدريّ
والأيدز
والجمرة الخبيثة؟
أتركب القطارات التي لا تنتهي إلا إلى مستشفيات
الجنون؟
(9)
حبيبتكَ ليست معكْ
ولكن لو أغمضتَ عينيك
وهمستَ في خفوت
أبيات قصيدة الغزل
فسوف تأتيك أنفاسها
أطبق شفتيك
وانتظر قبلة دافئة!
(10)
كانت السماء تخلع على الليل عباءة الثلج
ويدك في يدها
ولفنجان القهوة
طعمٌ ولون!
إنها معك!

* نُشرت في مجلة “Kalimat”، أستراليا، العدد 10، حزيران 2002.
(1) بلدة سورية غارقة في القِدَمْ، تضم ديراً تقادمت عليه السنون، وفيه مذبح يحمل طابعاً وثنياً.
(2) مدينة في ولاية إنديانا الأمريكية، وفيها جامعة إنديانا المعروفة بدراساتها الإنسانية، وهي الجامعة التي أنجز فيها الشاعر دراسته العليا.

’’غوادالوب‘‘*
جميلٌ أنتَ يا نهر ’’غوادالوب‘‘
جميلٌ أنتَ حين يتناثر الشفق فراشاتٍ
على خدود الزهر وأوراق الشجرْ!
وجميلٌ أنتَ حين يتكسرُ الموج تحت حبات المطرْ!
وجميلٌ أنتَ حين ترتعش صفحات الماء لقبلاتِ الماء!
وحين يلتفّ الحمام تحت أجنحة الغمام
وتتصادى صيحات البط بوحاً بلغة الإغراء
بين الشاطئ والشاطئ!
والماء والماء!
أتلك دقّاتُ طبول ’’الأباتشي‘‘* أم دمدمات الرياح
تنعي الوطن
فينحسر العشق تنهيدة خافتة!
وتختفي العصافير في حجراتها الواهنة
تترقب أيّان تأتي العواصف
ويلتفّ السمك بين طيّات الموج
فيرجع الصياد خائباً
ليس في الشباك غير الحصا
والمحار وتردّدات الغناء الحزين!
حتى إذا نقلته الخطى المتعبة
إلى ما وراء التلالْ
تراءت ’’البرونزية العذراء‘‘* تنسج خيط الغيوم
رذاذاً ورجع ابتهالْ!
غوادالوب
تكتب الرياح تاريخك على منعرجات الضفاف
وصفحات الجبال
وكلما مسحتُ مقلتي لأقرأ
قرأتُ الفرات!
وذاك أنين الرياح أم نواح ’’المقامات‘‘
ينعي الوطن
فينحسر العشق تنهيدةً خافتة!
جميلٌ أنتَ يا ’’غوادالوب‘‘
ولكنّ الفرات أجمل!!

* نُشرت في صحيفة ’’المغترب‘‘ الكندية في 15-10-2003.
* ’’غوادالوب‘‘ نهر يخترق مدينة ’’كرفيل‘‘ في وسط تكساس.
* إحدى قبائل الهنود الحمر، السكان الأصليين في أمريكا.
* يعتقد المكسيكيون أن العذراء تجلّت داكنة السمرة لفلاح من السكان الأصليين في عام 1531 وقامت بمعجزاتٍ أثبتت بها هُويّتها، ومكان ظهورها في عاصمة المكسيك كنيسة تُعَدّ مزاراً مقدساً يقصده المسيحيون من كل أنحاء العالم.

23-12-1996

في زاوية المقهى
في زاوية المقهى فتىً
يتصيّدُ في فنجان القهوة
وفتاة تبحر في أحلام الغفوة
تصطاد الأسماكْ
وفتى تنساب بلِحيتهِ
أنامله
يقطّع أبيات قصيدته
بين الكاملِ ومديد الممتدْ:
’’القرش الأسود هل ينفع في اليوم الأسودْ!‘‘
ويقلّب شيخٌ أوراق صحيفته
بحثاً عن لا شئ
وندامى ذكروا ليلتهم
للعامل في المقهى
فبكى مما لاقاه بليلتهِ
والآخر يقرأُ في داخل نفسه
وثمة ثان يقرأ كلّ الأيدي
كلّ الأوجه
كلّ الناسْ

من لزوميات من يلتزم
(1)
رشفتَ كأسكَ مرّة
والعشق أعطاكَ سرّه
من يعشقْ يعشقْ ثلاثةً
الخمرةَ
والمرأةَ
والثورة!
ويذود الطير عن الأشجارْ
لو يعرفُ فيها مُرَّ الأثمار!
(2)
أيوبُ الهادئ في صمت الديجورْ
يداوي الجرح وراء الجرحِ
صاح بأنّ الأرض تدورْ
والشمس الأخرى في أعماقِ التنورْ
أيوبُ يثورْ!

عزيز في سنته الخامسة*
يا صديقي
صديقي الوحيد
عرفنا أسرار البوّابة
واجتزنا النفق المسدود
وقطعنا الغابة بعد الغابة
ألِفنا أصوات الريح
وفحيح الأفعى
وعواء الذئب المسعور
عطشنا،
فشربنا ماء الأمطارْ
ورأينا كيف تتعرى الأشجار
للإنسان المتشرد
الملتف بأشباه الأسمال
ولقينا ’’غيفارا‘‘
يطلق نار البركان
من غضب الإنسانْ!
***
يا صديقي
صديقي الوحيد
ستوافينا ساحرةٌ
ضاحكة السنِّ
تنفث ناراً ودخانْ
أصابعها العشر مخالب
تحمل في الكف اليسرى أزهاراً!
وفي اليمنى يتلوّى محموماً ثعبانْ!
تقول لنا:
’’لا خوف عليكم،
حيث يكون ’’عزيز‘‘
دنياكم أنوارٌ
وسلامٌ
وغناءٌ
وحنان‘‘
في حلك الظلمة
يلتمع القنديل
وترفُّ البسمة!
***
الطير يغني
الزهر يغني
الكون يغني
يا ’’بيبي‘‘،
يا ’’ماما‘‘،
يا ’’بابا‘‘
مبروكٌ ميلاد عزيز
والجَدُّ يغني مفتوناً
في نغم مفتون:
’’إني أصغرْ،
عمري خمسٌ،
وعُمرُكَ، يحميك الربُّ،
ثنتان وسبعون‘‘
كرفيل – تكساس، 24-5-2002
* عزيز هو حفيدنا، وقد كتب له زكي قصيدة في كل عيد من أعياد ميلاده.
قصائد للحبّ
ونبدؤها من جديد
(1)
غضبتِ، رضيتِ
التقينا، افترقنا
وإنك خيط الدموع
يشدّ إلى القلب صمت البكاءْ
وأنتِ الدماء التي في الدماءْ
تخافين حبّي
تفرّين شكوى
وتأتين حمى
رقيقة خطوٍ
رفيقة همسٍ
وما أنا فيكِ انتهيتُ
ولا أنتِ عندي انتهيتِ
ونبدؤها من جديد
رضيتِ
افترقنا
التقينا
– – – –
أأنتِ الوطن؟

(2)
الحمّى
يسقط الفجر والندى فوق كفّي
لن أقول الدموع!
– – –
طوينا الحنايا على صخرة المستحيل
وهل يمنح الصخر دمعاً
إذا تفجّر نبعاً
– – –
صمتنا طويلاً
حكينا طويلاً
وقلنا: ’’لنا صخرة في الضلوعْ!‘‘
كذبنا، لدينا الدموعْ
وحمّى إلى ذروة المستحيل!

بلومنغتن، إنديانا – الولايات المتحدة
1975

السؤال والإجابة
قبل ثلاثين سنة
عرفتُها، تطوف بي
في الغرف السرية
من غرفةٍ تَسَعُ البراري
لغرفةٍ تضيق بالغيوم
عرفتُها كقطةٍ برية
شاعرةً، ساحرةً، صبيّة!
جميلة، يعثر في خطوتها الجمال
تسألني أسئلة كثيرة
عما وراء البحر والسهول والجبال
عما وراء الشعر والنجوم والخيال
تسألني، وأقرأ السؤال
في ضحكة الطفولة البريئة
والنظرة الجريئة
تقول لي: ’’لم يختلف عند فمي السؤال
وطالما تلعثمتْ في فمكَ الإجابة!‘‘
– – –
قبل ثلاثين سنة
تلامست يدانا
ثم اختطفنا قبلة!
في غرفة قصية
وانطلقت خطانا
ولم تزل تحملنا
من غرفةٍ تسع البراري
لغرفةٍ تضيق بالغيوم
حبيبتي، ما أروع المسار!

3-10-1991

الهدايا
قلتُ لها:
’’هذه قصيدتي
ضُمّيها إلى صدركِ
ففيها عطر دمي
وهذه قبلاتي
همسات عاشقٍ وترانيم عود
وهذه نجمتي
سرقتُها من حديقة الله
في غفلةٍ من الشياطين!
وهذه تفاحتي
جمرة الشوق في الليلة الشاتية!‘‘
– – –
قالتْ لي:
’’وإليك كلّ ما لديّ،
زهرة بيضاء!‘‘
واغرورقت عيناها بالدموع!
كوربس كريستي
30-9-2003

يا ذات الوجه الشمالي
(1)
لم تعد الأرض تَسَعُ الأرض
والبحر لا يسع البحر
الموج لا يحمل إلا الزَبَدَ والحطب
حطام الأمل
الربّان يغرق في سكرته
يعجز عن رؤية النجم للاهتداء
والقمر الجميل يلتفّ في غمامة الأسى!
(2)
وفي معرضٍ للصور
في زاوية من الأرض
لا يدري أحد كيف تهشّم ذاك الإطار
وكيف غابت ذات الوجه الشماليّ عن الأعين الحارسة
وكيف أزاحت قيد التقاليد
وإرث السلالة!
وما قال بعض البشر
لكل البشر!
(3)
أما زال ذاك الإطار
هم الآخرون!
يستنسخ الصغيرُ الكبير
وما زال إرثُ السلالة
دماء الدماء!
(4)
يا ذات الوجه الشمالي
كل عامٍ وأنتِ كما أنتِ
لن يسرق الآخرون
روعة اللون
وسرّ الجمال
كوربس كريستي
3-10-2008

حين تتوقف الأرض
حين يرتعش البرد في أوصالي
وتعرّي الريح شجرة الصفصاف
ويلتوي عنق زهرة البنفسج
أدري أن الغيوم لفّعت السماء
بدثار الصمتِ والوحشة
وعلى الشمس أن تنتظر طويلاً
لتقول: صباح الخير!
وبعيداً في زاوية العزلة
يقضم البرد أصابعي
والشيخوخة تشيخ في روحي
الفصول لا تتغيّر
والأرض لا تدور!
– – –
وآه، كم أحتاج أن أشدَّ جسدكِ إلى جسدي بقوة
وأن أقرأ في عينيكِ
أمسي ويومي وغدي
وأن تظلّي، كما أنتِ،
عنيدةً حتى على الحبِّ!
كوربس كريستي
كانون الأول، 2005

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

د. قصي الشيخ عسكر: نصوص (ملف/20)

بهارات (مهداة إلى صديقي الفنان ز.ش.) اغتنمناها فرصة ثمينة لا تعوّض حين غادر زميلنا الهندي …

لا كنز لهذا الولد سوى ضرورة الهوية
(سيدي قنصل بابل) رواية نبيل نوري
مقداد مسعود (ملف/6 الحلقة الأخيرة)

يتنوع عنف الدولة وأشده شراسة ً هو الدستور في بعض فقراته ِ،وحين تواصل الدولة تحصنها …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *