الفصل الثالث
الصورة
الصورة
ظل المنهج النقدي القديم يجد تأثيره في تجارب الشعراء العرب، سواء عبرالنماذج التقليدية القديمة أو السائدة.رغم ما حققه جماعة الديوان.وأبولو، والمهجر وعدد من الشعراء اللبنانيين.
فالصورة الشعرية ظلت خاضعة للنظرة الوصفية القائمة على علاقات الشبه الخارجية، بمنطق عام ومسبق.ولعل من المفيد هنا أن نورد نموذجاً مما كانت تقدمه النظرة البلاغية القديمة مثلاً عن (فوائد التشبيه) فصاحب (جواهر البلاغة يحصر هذه الفوائد بـ )بيان حال المشبه، أو بيان حالة.
أو بيان مقدار حالة، أو تقرير إمكان حاله أو بيان إمكان وجوده أو مدحه أو ذمة أو استظرافه (36:ص180). وهو ينص على أن أصل الاستعارة تشبيه حذف أحد طرفيه ووجه الشبه وأداته (36:ص198)
وواضح أن هذا المنهج إنما يعتمد نظرة منطقية ووصفية تقوم على رصد التشابه الخارجي بين الموضوعات.
دون الاتجاه إلى كشف علاقات جديدة واستنباط قوانينها الخاصة منعكسة في تجربة الشاعر الداخلية. ولقد ظل هذا المنهج متمكناً من تجارب الشعراء لسنوات طويلة.
إذ أن طول عهدهم بالتجارب الشعرية التقليدية وإعجابهم بها واستلهامهم لنماذجها. كان يحول بينهم وبين الانفتاح بشكل أصيل على التجارب الجديدة التي كان يقدمها الشعر العالمي. ولهذا جاء العديد من قصائدهم مفتقراً إلى التوازن والانسجام.
إن الباحث مثلاً ليقع في قصيدة واحدة على تشبيه أو استعارة ذات طبيعة قديمة بجانب تشبيه أو استعارة متجددة. في قصيدة مثلاً يجمع الشاعر بين نمطين من الصور، أحدهما يقوم على علاقة المنطق والمشابهة، من نوع :
(قال الراوي في جدل المسافات:
من اين تصمت الاسفار الحزينة؟
وقد صرخ الوجع على الجدار
ومن اين انسى احزان الليالي؟
وقد طافت بي مواسم الهمس
ومتاهات الاسرار
لا
المسافات لا تغني لحرائقي
والاغنيات شفاه تعزف الرحيل على المسار
وكل غربة لا تتمنى ان تنسى الاسر
ولا كي الاشعار
مهلا
ايها السكون المتنامي
في اشتعال الكلمات
ان مرافيء الشوق
ليس لها اخر
والمواقد تؤججها الاحبار) (170:ص46-47)
وعلى صور أخرى من نمط متجدد كقوله:
(ترتعش
عبر نبض الروح
ساكن
في
عيون
اسفارك
حارس
ضائع
في
متاه
العمر
وفي
ملكوت
الرحيل
تتسلل
داخل
ما تعرف
وما لا تعرف
اهذي
هي
مدونة
الحرائق؟
ماذا
تقول
للقصائد
غير
المحنطة؟
وكيف
تتفرس
في
ممالك
تناغم
العشق؟
ثم
كيف
تسافر؟
في
اوقات
لا تلوح
بمنتهى
الوجد
تذكر
في
ابجدية
الاسماء
فنارات
تغني
وفي
الحب
المفتوح
متسع
من اغنيات
تفيض) (170: ص56-57-58-59-60)
ويمكن لهذا أن يفسر لنا السبب في تميز قصائد هشام القيسي الأولى عن نماذج زملائه في هذا المجال، وجرأته الملحوظة على التجديد في الجوانب الفنية.
إذ من المعلوم أن هشام القيسي لم يكن على تماس بالنماذج الشعرية القديمة، وبالمنهج البلاغي الذي كانت تقدمه الدراسة والاختصاص لعدد من الشعراء العرب.
لم يكن الشعراء عدا هذا قد اطلعوا بشكل كاف على النماذج العالمية، ولم تتح لهم ظروف تلك السنوات التوفرعلى دراسة وهضم القيم النقدية الجديدة، إلا في حدود ضيقة، عبرت عنها المقدمات التي احتوتها مجموعاتهم الشعرية.
وهي بشكل عام قيم لا تتعدى الإشارة إلى (الإيحاء) والغموض و(التداعي) و(مزج الوعي باللاوعي) و(الهمس) والتأكيد أحياناً على دور الصورة في القصيدة الجديدة (55:ص49). وحين تفتحت هذه القيم النقدية أمام الشعراء العرب. كان لا بد أن يمر وقت كاف يتاح لهم خلاله استيعابها وهضمها.
ولم يكن الوضع الثقافي ليساعد على تعميق القيم الفنية الجديدة في نفوس الشعراء.لقد مر بنا أن أغلب الشعراء الشباب كانوا رغم تقدمهم الثقافي نسبياً يفتقرون إلى عمق فكري مناسب يؤهلهم لاستيعاب حركة التطور ودواعيها بأصالة.
وما من شك في أنهم بهذا كانوا يعبرون عن طبيعة الوضع الثقافي والفكري بشكل عام. ولقد كان الشعراء الشباب مؤهلين بحدود متفاوتة لتلمس جوانب هذه المشكلة في حدود التجربة الشعرية. فجهدوا ضمن ما يملكون من طاقات محدودة لتجاوزها ، ولكن ذلك لم يكن سهلاً، وكان ينبغي لـه أن يمر عبر الارتباك والارتجال والمصاعب.
لقد وعى الشعراء أنهم حين تخففوا من قيود الوزن والقافية، غامروا بالتفريط بما تقدمه الموسيقى التقليدية من مزايا شكلية، كانت قد تأصلت في أذواق قرائهم ونقادهم غالباً.
وإن عليهم لهذا السبب ولسواه أن يعوضوا عن هذا بأن يملؤوا طريقتهم الجديدة بما يجعلها جديرة ومثيرة، وجالبة للانتباه.
يذكر شاذل طاقة في تأكيد هذا المعنى:
إن الشعراء حين تخففوا من قيود الوزن والقافية كان عليهم أن يُعوّضوا عن ذلك بعدة وسائل، ومن ذلك التركيز على الصورة الشعرية.
ولقد كانت الصيغة التي توصل إليها الشعراء العرب في هذا المجال كل بحدوده تعبر غالباً عن هذه الحاجة، بطابع يغلب عليه الاتجاه إلى ما يمكن تسميته التجويد والتزيين الذي لايخلو من اعتساف وتعمد.
فتحت تأثير هذه الحاجة مثلاً، ونتيجة للانبهار السطحي الذي عاناه الشعراء أمام إنجازات الشعر العالمية، لم ير الشاعر العربي بأساً من التقليد، ولقد كان هذا التقليد في الغالب حرفياً ومفتقراً إلى الوعي حتى لقد اتهم بعض الشعراء بسرقة أبيات كاملة من شعراء عالميين.
ولقد دفعت الحاجة إلى التجويد عدداً من الشعراء إلى اعتماد التراكم وسيلة. لقد تميزت أغلب قصائد الرواد المبكرة بالاتجاه إلى الكم الفني، عبر حشد الصفات والتشبيهات والاستعارات والإيغال في استعمال العطف والتكرار.
ولا يعدم الباحث أن يجد مثل هذا في عدد من قصائد عبدالرزاق عبدالواحد/ وحميد سعيد/ وسامي مهدي/ وعبدالمطلب محمود/ وعادل الشرقي وسواهم…وأغلب الصفات التي اصطنعها الشعراء العرب كانت في الغالب شائعة ومتداولة حتى لتكاد تبدو وكأنها جاهزة.
ولعل هذا يمكن أن يفسر لنا لماذا تشابهت صفات الأشياء لدى الشعراء العرب غالباً. ولم يكتف الشعراء الرواد بهذا، بل عمد كثير منهم إلى حشد أكثر من صفة لموصوف واحد.
إننا لنلحظ ذلك بشكل واضح أن أغلب هذه الصفات تبدو مقسورة، حتى لكأن الشاعر يلجأ إلى نتيجة قصوره عن الصورة.وإنه ليس عبثاً أن تتردد في قصائدهم صفات من نوع الفظيع.الرهيب.الجميل.القبيح دون أن يكون في الشاعرطاقة لأن يوحي بصفة الموصوف وتهيئ لـه في الصورة ما يجعله فظيعاً أو جميلاً أو رهيباً الجديدة (145:ص9). ولا يختلف الأمر في مجال التشبيه والاستعارة عنه في الصفة.
خاص في نماذج عبدالرزاق عبدالواحد ،ومن ثم لدى حميد سعيد/ وسامي مهدي/ وعبدالمطلب محمود/ وعادل الشرقي.
وكما لم يكتف الشعراء بصفة واحدة لموصوفاتهم، كذلك حشد بعضهم للمشبه عدداً من المشبهات بها ويغلب أن يجتمع في قصيدة واحدة حشد من الصفات والتشبيهات والاستعارات.
أن جهد الشعراء في تجميع التشبيهات والصفات والاستعارات لم يفلح في أن يقدم إلا قليلاًـ نماذج جديدة تتخطى القيم الفنية التي كانت معروفة سابقاً.
إن من يتابع الصفات التي أوردها الشعراء يجدها في الغالب بصرية حسية تتعلق بالشكل الخارجي للموصوف.وهي عدا هذا لصفات لازمة لموصوفها غالباً.
أما التشبيه، فإنه لا يفلح إلا نادراً في تقديم نماذج تتخطى نمط التشبيهات القديمة التي تلتقط العلاقات الخارجية للأشياء، وهي علاقات يمكن للمتتبع أن يخضعها للتفصيلات التي مرت بنا عن (فوائد التشبيه) في منهج البلاغة.
ويبدو الشعراء العرب أحياناً وكأنهم حتى دون مستوى القيم النقدية التي احتواها المنهج البلاغي القديم فمعلوم أن منهج البلاغة ينص على أن التشبيه (البليغ) هو الذي حذف منه أداة الشبه ووجه الشبه هو من أبلغ أنواع التشبيه.
ومع هذا فلم يقدم الشعراء العرب كثيراً من هذا الضرب. بل على العكس، لقد اعتمدت أكثر نماذجهم على التشبيه (بكامل أطرافه) المشبه والمشبه به وأداة الشبه ووجه الشبه ولقد كان تأكيد الشعراء على اصطناع (كاف التشبيه) ظاهرة تعطي سمة نمطية لا تخلو من رتابة لجملة التشبيه التي أكثروا منها في قصائدهم. وإذ يجدر التأكيد على أن الشعراء العرب حاولوا التجديد من خلال الاستعارة، ينبغي في الوقت نفسه التنبيه إلى أن أكثر الاستعارات التي قدموها لم تكن تخرج وبشكل خاص في نماذج السنوات الأولى عن مفهوم الاستعارة القديم الذي يرجع بعلاقات الاستعارة إلى قيم المشابهة باعتبارالاستعارة تشبيهاً حذف أحد طرفيه وأداته ووجه الشبه. بل لقد كانت أغلب استعاراتهم يعتمد علاقة التجسيد في مجال المشابهة هذه.
ولم يكتف الشعراء، تحت تأثير شعورهم بالحاجة إلى التجويد باللجوء إلى حشد الصفات والتشبيهات والاستعارات.بل حاولوا أحياناً أن يلفتوا الأنظار باصطناع الصور المهولة والمبالغ فيها، إن الباحث ليلحظ ذلك بوضوح في بعض قصائد هشام القيسي:
(كحزن مؤرخ تبتلي ايامنا
ويغلق الباب
لا حديث نفس يشير الى ميزان، ولا مدية
شيطانة تغادر قيود الغاب
ذات يوم حلت علينا لعنة شاحبة مدورة،
حذار منها، ومن عطشها
فهي لا تأكل اكثر من شخاء اليباب
وهي تحلم كثيرا في كل الفصول، وتحت
سقفها نطل من فتحات القبور
ماذا نفعل وسط هذا الذهول
والجميع اثرياء في الخطايا كالسيول
على سجادة الالم تتلوى ايامنا ساعة بعد
ساعة
مثلها كمثل حريق اذا مس غصنا تداعى
سائر اليباس بالجمر
والرماد
وكل شيء سوى البكاء مرتسم
واضداد
في الداخل شقاء يتلو
وجوع يفتح نافذة للضياع
لا اعرف كيف تمتد يد اثيمة بشهوة
الشياطين لتروض الابعاد؟
ولا اعرف كيف تمتد يد اثيمة دون ان
يتجرأ احد في الشوارع والاشجار
على قبر قطعة من ظلام
في انية من سواد ابدي
في حافظات الصناديق الضجرة
في مكائد الزمن المحبوسة
في اشباح تعرف انها ليست سوى عجوز نافق
في لسعة تتعكز على الافكار الملعونة
في ليل طويل لا يحزن على طوله
تتنزه مقبلات ايامنا بمتاهة اثر متاهه) (171:ص123-125).
ولا يعدم الدارس أن يلاحظ عدا هذا أن الشعراء كانوا يعنون الصور لذاتها دون الاهتمام بما تقدمه الصورة من خدمة لمجموع القصيدة كبناء. أن أحدهم ليعجب بصورة ما فيروح يوسعها ويشبعها على حساب الصورالأخرى، مما يخل ببناء القصيدة عامة.
يمكن للباحث في نماذج الشعر الحر، أن يميز أنماطاً من الصورة الشعرية تتوزع أساساً بين ما هو تقليدي وحديث.
ولئن كنا قد أشرنا سابقاً إلى طابع الصور التقليدية عامة في هذه النماذج، إن من المفيد هنا أن نتابع تطور الصور الجديدة، ودورها في القصيدة الحرة. وفي هذا المجال يمكن أن نقسم ـ من أجل الدراسة ـ الصورة في الشعر الحر، إلى ما يلي:
الصورة المفردة
وهي الصورة التي تعتمد المفردة وحدها، سواء كان ذلك عبر الوصف أم العطف. وواضح أن هذا النمط، يشكل أبسط أنواع الصورة الشعرية حتى يبدو أحياناً.إنه دون القدرة على الارتقاء إلى مستوى تشكيل صورة شعرية حقاً.
ويقدم لنا الشعر الحر نماذج كثيرة من هذا النمط، أشرنا إلى بعضها أثناء حديثنا عن الصفة. وأغلب هذه الصفات، لا ينهض إلى مستوى الإيحاء.بل لعله، بشكل عام، يسلب الموصوفات، القدرة عليه.
على أن الباحث، مع هذا، لا يعدم أن يلاحظ عدداً من الصفات مبعثرة في القصائد، يمكن أن تشير إلى وعي، ذي حدود متطورة، لقدرة، على خلق صورة جديدة متميزة ومن ذلك في قصيدة (عند الباب المفتوح) حيث يقول:
(في مكاني
ايام غير مهددة بالمتاهة
كأنها مواكب مخمورة
تكمل اشراقتها
عبر
قبضة
حكيمة،
هكذا هي النبضة
على شكل احلام غير مفقودة
وعلى شكل اغنية
تجرف في طريقها
بقية الالام المحطمة
وهكذا هي الغنيمة
انها شجرة الطقوس الجميلة
تقف في النافذة
ثم تجري
حتى تستيقظ الامواج
من وراء حلم) (171:ص178-179).
وما من شك في أن هذه المحاولات إنما كانت خاضعة لتأثير المحاولات التي سبقتها. فهي إذا تقصر عن تجاوزها، تبقى تشير إليها. ويمكن من أجل التدليل على ذلك أن نورد أمثلة من الصفات التي احتوتها مجاميع هشام القيسي الشعرية. إننا نتابع في القصائد صفات من نوع:
(ها انت في نهاية المحطات
تشهر الصوت
وعلى ارصفة الرحيل
توقد الذكريات) (170:ص25).
(تسمع في الليل وقع الاجراس
ومن جوفها
تعزف نشيد الاسماء) (170:ص31).
(سمعت في الليل
خطى رعاة البقر
كانت رائحة السيكار
تنام وحيدة في الاجساد
وكانت الاشجار القتيلة
ترتدي الشظايا) (170:ص65).
)كنت تأتي صباحا
ومن جهة المنافي
التي حاصرت غربتك
هبت على الروح
بقية من افق بطيء
ثم نادت
موجعة هذي بين الايام) (170:ص69).
وتتمتع الصفة التي تقوم على (جملة) بطاقة على الصورة. ولكن هذه الصفات غالباً ما تستمد حيويتها من حقيقة أنها تحتوي استعارة أو تشبيهاً. وهي بذلك تخرج عن طبيعة الصورة المفردة:
وتتجه الصفات أحياناً إلى إعطاء تفاصيل صورة أوسع وإغنائها ولا يتحقق ذلك. إلا حين تكون الصفة ضرورة. ويكون إثباتها. إضافة حقيقية. لا يمكن الاستغناء عنها.
)ما الذي تبصره الان؟ وما الذي تفعله
تحرق الصمت ام تقتفي خطوه
تعفرني اسئلة تتلاحق، تأخذ في الهيجان
ثم تفتح نافذة لا تدوم
هي المواسم
تحمل جرحا بقلب ساكن
وبمواقد تألف النيران
من يجمع همه
ولا يبكي؟
ومن يطفىء ضجيج النهار
وصدأ النهاية؟)(171:ص17-18).
فواضح هنا مثلاً أن صفة (جرحا) ليست ضرورية للصورة العامة، قدر ضرورة (النيران). بحيث يمكن حذفها. ويمكن أن نتبين ذلك أيضاً في هذا النموذج:
(الحلم يلتجيء للضياء
والضياء يعرف الطريق
في الشوارع
وهذه الخطى
توقد وسط،الصمت
لغة غير مفجوعة الاوقات
***
مرثية للوهم
تتفقد في المساء
صمتا مقنعا
يحوم فوق مواسم معزولة
ومرثية لا تلامس سياج البيت
ونمط الزمن
فليدم سكوني
ولتمش وراء الارض
بقية المواعظ الجليلة
***
كان الصوت
يفيق حينما تهطل في العمق
مباهج الكلمات المرفوعة
وكانت الكلمات
تبحث عن مخرج
غير غريب الكلام
فهذا اخر النزف المثقوب
وهذا اول الهاجس المغسول
خارج تيه الحروف) (171:ص136-137).
فالصفات في هذا المقطع لا تعطي قيمتها الحقيقة إلا داخل الصورة كاملة. وحين تنفرد كل صفة لموصوفها مجردة عما حولها، تسقط قيمتها.
وقد حاول الشاعر هشام القيسي أحياناً أن يضيف الصفة إلى موصوفها. فنجح عن هذا الطريق في كسر رتابة التركيب، واستطاع أن يحول الوصف إلى ما يقرب من الاستعارة.
على أن اللجوء إلى الصفات لم يكن يخلو من دلالة نفسية. إن من يستقرئ الصفات التي حفلت بها قصائده لابد أن يلاحظ أنها صفات تعبر غالباً عن إحساس بثبات الأشياء وسكونها. وضعف قدرتها على التغيير وإنه لمما يثير الانتباه، إن أكثرالصفات التي استعملها كانت ذات طابع سلبي، قوامه الحزن، والشحوب، والتعب، والقدم، والخوف، والضجر والقذارة.
ويمكن أن نقدم لذلك نموذجاً لبعض الصفات التي استعملها هشام القيسي في قصيدة (ثم ساد الصمت):
(بئرا طافحة بالماء/ ولا تتعبها الضحكات/ شيء من الحزن ينهض الان/ واشعلت الامي/ يؤلمني هذا الرحيل/ عند توالي الليل والنهار/ وهذا المسار الطويل الممتد…..الخ) (171:ص116-118).
وكذلك الصفات في قصيدة (اخي فاضل) (سقفها نطل من فتحات القبور/ ماذا تفعل وسط هذا الذهول/ والجميع اثرياء في الخطايا كالسيول/ سائراليباس بالجمر/ المحبوسة/الملعونة……الخ) (171:ص123-125).
ومثل ذلك في عدد كبير من قصائد الشاعر هشام القيسي.إلا أنه في مقابل هذه الصفات كان الشاعر هشام القيسي يقدم احيانا بعض حاجته إلى الحلم وإلى تغيير الواقع.
(خذ في رحاب الايام المحفور لحظة لا
تنقاد مذهولة، وانزل منتعشا في مشاهد
غير عابرة
لا تمرق.اثقلتك الهموم،شبت فيك
الاحلام،والنوافذ التي تشظت اوقاتها
صارت تتوسد
مفاتيح المساءات.هكذا بلا خفية تفترس
العلامات،وتحاصر حدودا باكية.
الذكريات لم تعد لغمدها
الذكريات امتزجت
والساعات الشاسعة المتشوقة
بين اغطية الذاكرة
وبين كل شيء
تنساق لبقية الافق المتراكم
اعرف ان الفصول تسرح
غير نافذة الصبر
واعرف ان اجمل الاشعار
عامرة بمناجم العشق
ايها الشاعر
بنكهة من اوتار غيمة
تحدق فيك الاشواق الصامتة) ) (170:ص21-22).
ويتعرف الباحث في قصائد الشاعر هشام القيسي على نوع اخر من الصور المفردة يقوم على مجرد الجمع (العطف) ووسيلة هشام القيسي الى ذلك هو الغالب واو العطف يرصف الشاعر به مفردة الى جانب اخرى ليكون من مجموعها صورة ما.
(حبك ينفلت الان
من محطات باقية
ومن تلك الاشجار
يتتفس لحظات
يحتشد فيها الشوق
وينزف
تقف على بابها
تحاصرك الاحلام
بمشاهد واحدة
ومن كل فراشات الايام
تطلع مثل ابجدية
تعزف جميل الذكريات
***
تقول الاوجاع
هذا زهو العشق
ينمو على شرفات وجهك
ويقرأ تفاصيل الاشارة
وهذا الشعر
يحترف الانتظار
كي تسطع العبارة) ) (170:ص29-30).
وواضح أن الهدف من رصف هذه المفردات المتتالية هو خلق إيحاء وانطباع لدى القارئ للدخول إلى القصيدة عبرلقطات متتابعة ساكنة غالباً يطلب من الذي يتابعها أن يحس ارتباطها أو تنافرها وأن يعي السياق فيها.
ولطبيعة هذا الضرب من التركيب، يلجأ الشاعر هشام القيسي أحياناً لتحريك المفردة عبر الصفة كسراً للرتابة وتمهيداً لتطورالصورة:
)ينمو على شرفات وجهك
ويقرأ تفاصيل الاشارة) ) (170:ص30).
ثم ما يلبث الشاعر أن يتوسل بالفعل لخلق جو من الحركة في هذه الصور الساكنة. فهشام القيسي في المقطع السابق لا يلبث أن يخرج عن سكون الصور المتتابعة:
(ينمو على شرفات وجهك
ويقرأ تفاصيل الاشارة
وهذا الشعر) ) (170:ص30).
وهو ضرب من الصورة يستدعي حساسية وحذقاً، وإلا استدرج صاحبه إلى السهولة والرتابة ومجرد الرصف الذي يؤدي بالتالي إلى عكس الغرض الذي أريد للصورة.
ويبدو أن هشام القيسي كان من سبق إلى هذا النوع من الصور، ثم لم يلبث أن تبعه في ذلك عدد من الشعراء بل لقد قلده بعضهم في ذلك تقليداً فجاً، كما أغرق في اصطناعه كثيرون معتمدين السهولة الظاهرة فيه. وإنه لمما يلفت الانتباه أن (سامي مهدي، وحميد سعيد) كانا من الذين أغرقوا في اللجوء إلى هذا الضرب.
إن من يتابع قصائدهما يمكن أن يدرك المدى الذي استدرج العطف إليه الشاعرين.
الصور القصيرة
وقوام هذا النوع من الصور جملة تشبيه أو استعارة. وغالباً ما يتضمن التشبيه كل أركانه البلاغية من مشبه ومشبه به وأداة تشبيه ووجه شبه:
(ككهوف متعبة لا تقضي الليل خارج عواء
الكلمات
كطرقات تخلت عن مارتها في صهيل المنافي
كصدمة مفتوحة على اغنية غير مرئية
كامواج لا تعرف كفايتها بين اصوات السكارى
كرؤيا غير عاصفة في وقت يتعطل دوما
***
كحلم عائد يسوق التعب لا كيفما يشاء
كمطربة تومض خلف لغة مليئة يالضجر
تفسر الايام زيارة غير مفهومة
قبل ان تختفي
وقبل ان تحدق الليلة في مرآتها) ) (171:ص28).
(احتشد مثل سحابة مثقلة بالماء) (171:ص40).
(مثل حريق شفاف يسرع من بعيد) (171:ص82).
(كحزن مؤرخ تبتلي ايامنا) (171:ص123).
(والجميع اثرياء في الخطايا كالسيول
على سجادة الالم تتلوى ايامنا ساعة بعد
ساعة
مثلها كمثل حريق اذا مس غصنا تداعى) (171:ص124).
(تسعف مثل الماء وله اليباب) (171:ص149).
)كانني اقدح سفري) (171:ص157).
)وتعرف مثل الجمر) (170:ص19).
وقد يقدم الشاعر هشام القيسي تشبيهات دون أن يعني بأن يكون
لها في الجملة إشارة إلى وجه شبه:
(ومن كل فراشات الايام
تطلع مثل ابجدية
تعزف جميل الذكريات) (170:ص30).
(ما انصع حبا
يمطر كبهجة الاطفال
وما احلى خطى
ينحني لها كل محال) (170:ص43).
ويقدم الشاعر هشام القيسي أحياناً المشبه به على المشبه تأكيداً للصورة وتعميقاً لها:
(ككهوف متعبة لا تقضي الليل خارج عواء
الكلمات
كطرقات تخلت عن مارتها في صهيل المنافي
كصدمة مفتوحة على اغنية غير مرئية
كامواج لا تعرف كفايتها بين اصوات السكارى
كرؤيا غير عاصفة في وقت يتعطل دوما
***
كحلم عائد يسوق التعب لا كيفما يشاء
كمطربة تومض خلف لغة مليئة يالضجر
تفسر الايام زيارة غير مفهومة
قبل ان تختفي
وقبل ان تحدق الليلة في مراتها) (171:ص28).
ويلجأ أحياناً الشاعر هشام القيسي إلى حذف وجه الشبه والأداة:
(وراء وليمة ليلية
صرخة تنزلق لحظة واحدة فقط) (171:ص7).
(بانتظار ان تصك اقامة
في فلسفة الحاضر البائس) (171:ص7).
(هي المواسم
تحمل جرحا بقلب ساكن
وبمواقد تألف النيران
من يجمع همه
ولا يبكي؟)(171:ص17).
(هكذا هو القرن
شارات لا تكف عن التدخين
وحده يصيح
والفريسة في اعوامها تغني) (171:ص27).
ويلاحظ الدارس في شعر هشام القيسي عدا هذا جملاً تحتمل معنى الصورة بالتشبيه يتوسل لها الشاعربالنداء:
(وفي مشيها تمنح الولاده
فيا ايتها الارض العرض الجمر
ويا ايتها الاغصان التي تطوف
كل احزان الفقراء) (171:ص42).
)يا صاحب الصباح
لانك دائما تتطلع
لن تحيد عن كلك المحكم بنهر النهار
ولن ترتب سوى يقظة منسوجة) (171:ص79).
(ويا ساكنا غير مكانه
ارى الرمال تحدق) (171:ص112).
(يا ايها الحميم النبيل
احزنتني
ومن ايامي تهطل
دموع الزمن
ويا ايها المنشغل الجميل
ها هي ارواحنا تحلق
وترتوي
بعيدا عن المحن) (171:ص120).
ولايعدم الدارس إن يميزخلال هذه الصورتشبيهات من نوع :
(ككهوف متعبة لا تقضي الليل خارج عواء
الكلمات
كطرقات تخلت عن مارتها في صهيل المنافي
كصدمة مفتوحة على اغنية غير مرئية
كامواج لا تعرف كفايتها بين اصوات السكارى
كرؤيا غير عاصفة في وقت يتعطل دوما
***
كحلم عائد يسوق التعب لا كيفما يشاء
كمطربة تومض خلف لغة مليئة يالضجر) (171:ص28).
أما في مجال الاستعارة فالصور القصيرة غالباً ما تعتمد علاقات شبه رأينا نماذجها سابقاً.وهي استعارات (مكنية) غالباً. وسيلتها الفعل:
(والجميع اثرياء في الخطايا كالسيول
على سجادة الالم تتلوى ايامنا ساعة بعد
ساعة
مثلها كمثل حريق اذا مس غصنا تداعى
سائر اليباس يالجمر
والرماد) (171:ص124).
(كانني اقدح سفري) (171:ص157).
(كأنها رغبة تفيض مواقدها
من وجد الى حريق
ومن وجد الى بريق) (171:ص158).
(تعبئني الذكريات
سامضي ككل الصفحات
وبهذي الشموع
اشغل ايامي
على غير ما ترتضي
ثم ابني اياما
يوم تضل الطرق) (171:ص158-159).
أو وسيلتها الإضافة: استعارة تعكس إحساساً بالثبات لاعتمادها الجانب الوصفي وافتقارها إلى الحركة التي تتمتع بها الاستعارة بالفعل.
(تنادي
النجوم غير بعيدة
ومواسم الهجرة ترفض الاغتراب
ايها القتيل في الجوع) ) (170:ص13).
(ها هي الفصول
تفتح ابوابها
ولا تنسى الانتظار
اخبارها تبحر) ) (170:ص18).
(عارية ايامك) ) (170:ص27).
(بغيمة ماطرة) ) (170:ص45).
)هذا كتاب عاشق
غيمتة الذكريات) ) (170:ص49).
)دون ان تضمد
ضياع العمر
ووقع خطاه) ) (170:ص72).
وغالباً ما تعتمد العلاقة في هذه الاستعارات على التجسيد حيث تستعير صفة الحي للجماد.إننا نلاحظ مثال ذلك في قصائد هشام القيسي عبر نماذج من نوع:
)تتبعني خطواتي
في الحب ندمائي كثر
ملائكة
وممالك قصية
واسفار تضمد الجروح
كلهم كتبي) ) (170:ص182).
)وايامي تخضع مثل الدخان
فلا الم قابل للتمدد
دون ذكريات
تدغدغ الزمان
مهلا
قريبة كل الاغاني) ) (171:ص188).
)طيلة النظرات تتسرب الاوراق دون ان
تلامس العشاق
وعلى شجرة لا تنصاع لليباس تتدلى النجوم
كافكار تداعب
رؤوس الفلاسفة) ) (171:ص14).
وكان طبيعياً أن يزداد اهتمام الشاعر هشام القيسي بالصورة الشعرية تبعاً لتطور اهتمامه بالجانب الفني من القصيدة، عبر تفتح وعيه وازدياد اطلاعه على نماذج الشعراء العالمين ونمو تجربته الحياتية والشعرية بشكل عام.
الصورة الطويلة
وكان أن برز نتيجة هذا لدى الشعراء ميلهم إلى الصورة الطويلة ذاك أن صوراً من هذا النوع، كانت كفيلة بأن تقدم لقصائدهم مزايا عديدة ومن بين هذه المزايا قدرة الصور الطويلة على استيعاب تجاربهم التي كانت تزداد تعقيداً، وطاقتها على تطمين طموحهم إلى التجديد.
ولاشك في أن اتجاه بعض الشعراء إلى كتابة القصائد الطويلة كان عاملاً ساعد على بروز الصور الجميلة.إذ كيف يتسنى لشاعر كتابة قصيدة طويلة من نوع (ابواب) مثلاً دون الاعتماد على الصور الطويلة؟.
إن الباحث يستطيع أن يتبين مصداق هذا الميل خلال النماذج التي قدمها الشاعر هشام القيسي وعبر أشكال ومستويات مختلفة يتحكم فيها مدى تطور الشاعر وطبيعة التجربة التي يعالجها..ويمكن متابعة ذلك عبر:
الصورالطويلة الناجمة عن العطف والتتابع والتراكم. وهي تمثل بقايا ما أشرنا إليه من العناية بالكم الفني الذي يعتمد حشد ما يتيسر للشاعر من صور قصيرة ومفردة في قصيدته. ويمكننا الاستشهاد بقصيدة (ابواب) ففي المقطع الأول تتابع الصور على النسق التالي:
(بين اماكن تتسكع بلا رغبة، تئن غربة
تحت اسرار يتيمة،وتختفي واحات
ثم تحلم بطريق ينظر باستغراب،وهناك
تختفي صامتة بقية الذكريات
في تلك اللحظة
وحيثما يزدوج العالم
تبدأ عيون الاطفال بالانهمار
وتبدأ الاسلحة المتآمرة بالشرار
البكاء حركة في افق ليس له بريق
واللحظة قلق بين انعكاسات معصوبة وبين
فراغ متداول.انها المسافات
هذا الهدير من الضجيج،لم يسقط بعد،
وانها الملاجيء والقصائد العتيقة المتدلية من
جروح الشعراء
فكيف تعرف بعد اليوم نهاية الوصول
المتشابك؟) (171:ص88-89).
وواضح في هذا المقطع أن العطف يلعب الدور الأساس في جهد الوصول إلى الصورة: إنه العطف على جملة(وحيثما/ وتبدأ/ وانها/ واللحظة) وتشكل هذه الأفعال في الواقع استعارات تظل تتراكم لتجهد أن تقدم الصورة الطويلة أو بعض الصورة الطويلة التي هدف إليها الشاعر.
وتتداخل الاستعارات في المقطع فالشاعر يولد استعارة من أخرى ويمكن أن نتابع نموذجاً لهذا النوع في قصيدة (فنجان من ايام نائية) فالتراكم في هذه القصيدة يقوم عبر جمع صور إلى بعضها حول نقطة واحدة تبدأ من جملة نداء هي :
(تهرب من خطواتها الايام
والرغبات تستفز الرأس بين الشوارع وشقوق
الذاكرة
لربما انفتحت في الطرف الاخر اشرعة
القلب
من يدري؟
فالحانة مفتاح
وجرح ينهمر ساخنا بمرور الوقت
وحول مخيمات الصدمات
تهيم نافورة عارية
تبدأ دائما من جديد
هكذا يبحث البحر
اكثر جدارة من الشعر
ايضا
دون هذي الاشياء
تختفي الاماسي البطيئة
مدهوشة
وملتحية) (171:ص92-93).
ويغلب أن تظل الصور من هذا الضرب مفتقرة إلى النمو، محرومة من الحركة.وقد يلجأ الشعراء إلى الإغراق في التجميع، فتكون الصورة الأساس هي مجموعة من صور مفردة وقصيرة كما في قصيدة (اوراق).
إن هشام القيسي يتابع هنا حادثة وقبل أن يقدم الشاعر صورة الحدث نفسه، لا يجد بأساً في أن يقدم لـه بصورة عن الجو، حتى ليكاد يختنق الحدث وتضيع الصورة الأساس يضع محوراً ليتدبر هذه الصور معتمداً جملة:
(ايامي لا ترصد خطاي
وجمراتي تعود بلا رغبة كل يوم
كأن الصحو لم يدرك نفسي
والذكريات لم تعد
تالف ما بيني وبيني
ناديت ومضيت
حدقت وسميت
فاذا بالاحلام تابى
والكلام يجهش
بصدى ما سعيت
فقط تفيض المسافات
عبر سقوف الجدران
وخلف مرايا السطور
ينابيع غير معطلة
ترنو الى اعشاب
وعبور) (171:ص95-96).
وتستمر القصيدة على هذا المنوال.حتى تكاد تنتهي وعند ذاك يقدم الشاعر حركة الصورة الأصلية.
الصور القصصية
ولقد استطاع الطابع القصصي إلى حد ما أن ينقذ القصيدة من ظاهرة التجميع.. ذاك أنه منحها بعداً زمنياً ومكانياً. وأفسحت الحاجة القصصية للشعراء متسعاً للصور عبر تصوير مناخ الحدث وجوه: فكثرت في القصائد مقاطع تعتمد صوراً طويلة غرضها التمهيد للقصيدة بالجو.
( اليوم ساعة متاخرة
لا تستقبل شجرة تعوي
ولا رغبة في الحريق
– في لحظة مقامرة
اشياء تعيد الكرة ثانية
بلا دليل
وفي اخر المتاهة
تفترس الوجوه بقية عريها
ولا تنزاح عن طرق فرعية
– تحت الصحارى المحترقة
حيث الحانات المتأملة
تحدق القصائد شيئا فشيئا
– بعد هدير الفقر
تعزف الذئاب إلا الاشجار
– في النهاية اجلس خارج الجهات
وفوق اسوار الحكمة
افرز الصيحات الكسولة
– الصرخة تؤمن بالسفر
والرؤى تشرب القهوة
لتمسك اقاصي الهواء
– اتية بلا انين
تحمل غيمة غير مزورة
وعشق يقرأ المسالك
– اذا اقتضى التراب
تصمت المصادفات
بضوء النهار
– اخر السهام
الحرائق تغتسل بآلام جديدة
والقصائد لا تنطق بالكلام) (171:ص85-87).
ولقد أولع الشعراء بهذا الضرب من الصور حتى اصطنعها بعضهم لقصائد لا تنطوي على بناء قصصي…
وتأتي الصورة أحياناً تابعة للحدث تؤكده وتعمق أجواءه، أو توسع من المناخ العام للقصيدة.وقد تميز هشام القيسي بالتأكيد على هذا الضرب من الصور.
ويتوسل هشام القيسي لصوره هذه غالباً بأداة التشبيه كان وكأن وكأنما. ولكن أداة التشبيه لا تعني خلال هذه النماذج التشبيه بمعناه الحرفي… بل إنها لتكاد تتخلى عن أهميتها كأداة للتشبيه، لتصبح إيذاناً ببدء صورة. وأن القارئ ليحذفها دون أن يكون في الصورة أيما تأثير:
)قد قلت
هذا نزف كلماتي
اني الان
احتشد مثل سحابة مثقلة بالماء
واني الان
اخط لك الايام
لتنفتح مرايا الزمن
والطرقات
وجدي وديعة مكتنزة الامواج
تطلع من وجع الارض
ومن سنين
تعرف نظرك
فالجوع
والجراد
ميلاد كل جديد
ورعاة البقر
والخرافات القديمة
خدشت بعض كلمات الافق البعيد
عاما فعاما ينهمر الموت) (171:ص40-41).
وقدم (الحدث) في القصائد مرتكزاً مهماً للصور وتناميها وتتابعها وتوالدها.. ويغلب أن يتداخل في هذا الحدث محوران يتراوحان بين الصورة الواقعية المنتقاة والصور المتخيلة. وهو تراوح ذو مزايا فنية عالية.
(حملت اليك تلك الكلمات بقية الارق،ومن
نافذة تتصاعد منها مقذوفات تظهر من حين
الى
حين
تومىء اليك
وتصغي
وهذه الصور المحفورة على الاشجار
ومقاهي الحلم
لغة مقدسة
تحمي من نزف يفترس اقصى النهايات
ثم قالت:
من ياخذك ولا يتوزع في اللحظة التالية
ولا يتامل في هشاشة الليل
فمحتويات المخلوقات لا تخفي عنك
كل محذورات الصحراء
ولا تشفي بثقوبها جاذبية الطفولة
قل:
ذهبت ذاكرة تروي بحكمة بسيطة
ورعشة رفست فراشها تحت شمس
الليلة الماضية) (171:ص21-22).
وقد يتوسع أحد المحورين على حساب الآخر.
لقد قدم عدد غير قليل من الشعراء منذ منتصف الخمسينات قصائد ذات صور تكاد تكون فوتغرافية.
وقد تتفرع القصيدة لجو ذي صور خالية من الحدث الواقعي، تتابع عبر جو هو أشبه بالحلم أو الكابوس. إننا يمكن أن تقدم لذلك نموذجاً قصيدة (يا صاحب الصباح):
(لا شيء ينقصك غير دار يفتح النوافذ كل
يوم
ولا شيء يحزنك غير موت يضحك كل يوم
ها هي الذئاب
تنصت طيلة الوقت
والبكاء لا يجفف ينابيع العيون
وانت كما انت
لم تبك
ولكن تلتمس لهذه الدار
الغفران
وتغرد من زاوية قلبك
اعن مدينة تبايع عشاقها ترنو
ام عن طعم حسرات لا تميل الى صمت؟
في خلواتك تصطفي الانوار
ولا تندب المكان
وفي خلواتك لا يهدا
الوجد والزمان) (171:ص77-78).
وعبر هذه الأجواء لا يعدم الباحث أن يعثر على صور قريبة من الطابع السريالي.
وقد نجح الشعراء أحياناً عبر الطابع القصصي في تكثيف صورة كاملة لقصيدة. بما يمكن تسميته (القصيدة الصورة) وفي نماذج كهذه تتماسك الصورة العامة ويتتابع الحدث فيها نفسياً وفنياً من خلال نمو متوتر غالباً، يشوبه التكثيف والاختزال فالقصيدة قصيرة.