حامد سرمك حسن : الجمال والمعرفة الحسية

hamed sarmak 2المبحث الأول
الاستطيقا؛ علم المعرفة الحسية:

أولا: المعنى والمفهوم :
إن العلاقة بين الفن والفلسفة، كما أشرنا سابقاً، علاقة جدلية راسخة من الممكن وصفها بالديالكتيك الصاعد ـ التدرج في الصعود من المحسوس إلى المعقول ـ وصولاً للمفاهيم والقوانين التي توضح قواعد الفن والجمال وما يتصل بهما من أحكام. فكما أن الفنانين يستلهمون آراء الفلاسفة ونظرياتهم الجمالية؛ فقد كانت الآثار الفنية خير معين للفلاسفة في تبلور نظراتهم الخاصة في الفن والجمال. فموضوع الجمال كان وما يزال من ضمن اهتمامات الفلاسفة ويشكل حلقة مهمة من حلقات التفكير الفلسفي إلى جانب المنطق والميتافيزيقا ونظرية المعرفة والأخلاق.
والشعر ـ الذي يقصد به “أفلاطون” الفنون جميعاً ـ الذي يجد أهليته الخاصة في التعبير عما يدرك ولا يوصف، عما لا يمكن التعبير عنه بالطرق التعبيرية الاعتيادية، نراه يوحي بمعايشة جوهر الواقع والحقيقة والولوج في قلب التجربة والاكتواء بنارها. ورغم انه بمنطقه يختلف عن المنطق الفلسفي والعلمي، ولكن الفلاسفة بمنطقهم ومنهجهم قادرون على فك رموز العملية الشعرية وتجريد معطياتها وتعميمها ليضمن لها الفهم والإدراك من قبل الآخرين، وبالأخص الشعراء الذين طالما اخذوا بنظرات الفلاسفة في فهم العملية الإبداعية وتقويمها. وكما قال “أفلاطون” إن صراع الفلسفة والشعر هو صراع جوهري ابدي في نفس كل مفكر.
وعلى هذا كان علم الجمال أو الاستاطيقي من الفلسفة القسم المختص بدراسة الجمال. والكلمة “استاطيقي” تعني علم الوجدان والشعور وتدل على الإدراك الجمالي في الطبيعة والفن . وهي مأخوذة من كلمة يونانية Aistheticos ومعناها الإدراك الحسي. وأول من وضع هذا الاصطلاح هو “بومجارتـن” الألماني للدلالة على علم الجمال أو علم المعرفة الحسية. وعموماً فان علم الجمال يبحث في الجمال والإحساس الجمالي والإبداع الفني وشروطه. وعليه فان الجمالية تكون خاصة أو عملية، إذا تصدت لدراسة الفن بأنواعه المختلفة، وتكون عامة أو نظرية، إذا اختصت في تحديد السمات المشتركة بين مختلف الظواهر الحياتية التي تثير فينا سمة الجمال. ومن هنا يمكننا تمييز علم الجمال عن النقد الفني الذي يهتم بدراسة الآثار الفنية مأخوذة كلاً على حدة. وكان “بومجارتن” قد سعى إلى أن يصنع منطقاً لمجال الشعور كالمنطق الصوري الأرسطي بالنسبة للفكر. وكانت غايته من هذا العمل هي التمييز بين ميادين الحق والخير والجمال، إذ لكل من هذه القيم مجالها الخاص، فالكمالات المتحققة من ناحية المعرفة والسلوك والإحساس هي الحق والخير والجمال على التوالي ؛وهذا الكمال Perfection هو المحور الذي تدور عليه الاستطيقا بوصفها منطقا للعلاقة الحسية الغامضة .
يتبين أن الجمال، أو المعرفة الحسية، مجاله الشعور والأحاسيس ولكن مع شرط الكمال لهذه المعرفة الذي هو الجمال بعينه .
على العموم، إن العمود الفقري لما يهتم به علم الجمال هو دراسة الأحكام التقديرية كما قصد إلى ذلك “كنت” في كتابه “نقد الحكم” حيث قسم علم الجمال إلى قسمين (1) نظرية في الجمال والجلال (2) بحث في ماهية الفنون الجميلة. فالاستطيقا بوصفها علماً للمعرفة الحسية تؤدي بنا إلى الاهتمام بالمشاكل المعرفية الخاصة بنظرية المعرفة، وعلى الأخص من جهة تحدد المعرفة في جوهرها بنوعية العلاقة بين الذات والموضـوع “المدرِك والمدرَك” ، وحول إمكانية المعرفة وشروطها ووسائل اكتسابها، ومدى أسبقية الوعي أو الواقع في تحديد عملية الإدراك . وهذا ما يتميز بوضوح في مصطلحي المثالية والمادية، انطلاقا ممما يؤمنان به من جهة أسبقية الفكر للواقع أو أسبقية الواقع للفكر . فتذهب المثالية ،التي تقول بأسبقية الفكر للواقع وبوجود معرفة فطرية تسبق التجربة ومستقلة عنها، إلى أوليّة الظواهر الجمالية وروحانيتها ،أما المادية ، التي تقول بأسبقية الواقع أو المادة للفكر وان كل معرفة أساسها الحس والتجربة ،فترى أن للظواهر الجمالية أساس موضوعي في الحياة والطبيعة.
ثانيا:مواضيع الاستطيقا ومجالاتها :
نلاحظ أن مباحث الاستطيقا أو علم الجمال في بدء نشوئها كانت تهتم بأشياء من قبيل المعرفة الحسية وشروطها الكمالية، فهي نوع من المعرفة يكتسب بالإدراك الحسي.فالجمال هو المعرفة الحسية مجردة من أي فكرة، أما القبح فهو نقص تلك المعرفة. وكان الأصل في هذه الممارسة هو إدراك المفاهيم وماهية الأشياء ما دام جمال الأشياء والمادة قد استبعد من هذا المجال وتم التحذير من اختلاطه بجمال المعرفة. فالمعرفة، في الأصل عملية تجريدية لا تتعلق بالأعراض والصفات إلا بقدر معاملتها كوسائل للكشف عن الجواهر وماهيات الأشياء.
وعلى هذا، فان علم الجمال يتوجب أن يبحث ، فضلاً عن الفنون ، في جمال الذات وجمال المعنى؛ كما هو عند “كريستيان وولف” الذي أشار إلى قوى عليا وقوى دنيا للمعرفة، فالقوى العليا مجال بحث علم المنطق، والقوى الدنيا فمجالها الإدراك الحسي، وجعل تقييم الإدراك الحسي الإنساني من اختصاص علم الجمال.
الظاهر أن الجهود قد تعاضدت لتوجيه دفة الأبحاث في علم الجمال نحو الفن والاقتصار به عليه فقط في بحث الجمال . فكانت الدراسة تنصَب على الإدراك الحسي الذي يقتصر على الجمال الفني باعتبار عدم تحقق وجود هذا الجمال بمعزل عن الإدراك أو الفهم الإنساني، وهذا الأخير هو مادة الاستطيقا . فتم بذلك إخراج جمال الذات وجمال الطبيعة والقيم والأخلاق من هذا المضمار وأصبحت لفظة جميل تطلق ويراد بها الفن فقط . يتضح أن هذا نوع من التداخل طالما كان له أكبر الأثر في الفهم المضلل للجمال . فنرى الفلاسفة يطلقون في أبحاثهم لفظ الجمال وهم لا يقصدون في حقيقة الأمر إلا الفن وليس الجمال، فيخيل إلى المتلقي بان ما يضعونه من شروط هي شروط للجمال وماهيته وهم في الحقيقـة لا يتعرضون إلا لشروط الفن ليس إلا(*1).
على أية حال، فقد اقتصر المعنى الحديث لكلمة الجمالية على نوعية الأبحاث الفنية، بما في ذلك الأدبية، ذات المستوى الفلسفي في النظرة والمنهجية.
ثالثا: أساليب الاستطيقا في البحث :
لقد تدرج المختصون في الدراسات الجمالية من فلاسفة ومفكرين ونقاد في تضييق المعنى المقصود من الجمال المبحوث في علم الجمال حتى اقتصر في نهاية المطاف على الجمال المتحقق في الأعمال الفنية فقط. نلاحظ هذه الخطوات في نقل معنى الجمال بدءاً بالاقتصار على الجمال المحسوس وإنكار الجمال المعنوي المتمثل بالروح والقيم والأخلاق لان مجال الجمال هو ما يدرك بالحس. ثم استثناء جمال الطبيعة بعد ذلك من مباحث علم الجمال والاقتصار به، في صورته النهائية، على الجمال في الفن استناداً إلى التفريق بين الجمال الطبيعي والجمال الفني كما فرق “كنت” بينهما حيث رأى أن الأول جميل، أما الثاني فهو عمل جميل. ومن هنا فقد اقتصرت دراسة الجمال على الإحساس واللذة التي نستشعرها فـي العمل الفني، وأصبح الموضوع الحقيقي المباشر لعلم الجمال ـ الذي استبعد جمال الطبيعة من مجال اهتماماته ـ هو التقدير الجمالي للعمل الفني باكتشاف مواطن الجمال والقبح فيه.
لكن علم الجمال وان احتفى بدراسة الجمال في الفن فهو يندرج ضمن منهجية التفكير الفلسفي. وبات معروفاً أن فلسفة الجمال تمثل حلقة مهمة في تفكير الفيلسوف وعنصراً متمماً للبناء الفلسفي الذي يتضمنها. فالجمالية شيء أعلى من مجرد الإحساس الطبيعي بالجمال أو الدراسة النقدية المتمثلة بإعمال الفكر في ظاهرات الفن بشكل منفصل وليس بصفة علائقية مع نواحي الحياة الأخرى. إنها في جوهرها دراسة الفنون الجميلة فلسفيا مع لحاظ مدى تأثرها وتأثيرها في نشاطات الإنسان وظواهر الحياة. إن مجال الدراسات الجمالية هي ميدان التأمل الفلسفي في الجمال والإبداع في الفن.
وعلى مدى تاريخ الدراسات الفلسفية في الجمال تباين الفلاسفة والعلماء في نوعية المناهج التي يعتمدونها فـي دراسة الجمال وتحديده، وقد تراوحت دراساتهم للجمال بالاعتماد على أحكام قبلية أو بعدية(*2). فمنهم مـن يعتقد أن علم الجمال قاعدي ومعياري نسبة إلى المعيار(*3) والقاعدة حيث يقاس بقواعده الحكم على الإنتاج الفني. والعلوم المعيارية ثلاثة، الأول هو علم الجمال، والثاني والثالث هما المنطق والأخلاق، وهي العلوم التي تدرس الحق والخير والجمال . ومنهم من اعتمد في تحديد الجمال الفني ومقاييس الإنتاج في الفن ما يستنبطه من معايير ومقاييس من الآثار الفنية ذاتها، أي باعتماد المنهج البعدي. ومنهم من يعتمد المنهجين القبلي والبعدي، وهذا هو ماذهب إليه “بومجارتن” من حيث مزاوجته بين هذين النموذجين لوضع قوانين الظاهرة الفنية ؛ فمن خلال الأسلوب الفلسفي في التحليل والاستدلال العقلي يتم إدراك القانون الجمالي بإتباع منهجا قبليا من جهة الزمان والمكان، أما المنهج البعدي فيستثمر في اكتناه الأسس العملية ووضع القواعد التطبيقية المستنبطة من الأعمال الفنية الناجزة .أي إذا كانت قوانيـن الجميل محددة بالاستدلالات العقلية المجردة كان المنهج القبلي، أما إذا وضعت نتيجة لدراسة الأعمال الفنية القائمة فذلك هو المنهج البعدي.
هكذا كان المختصون على خلاف دائم في التفريق بين مجالات العلوم الوضعية والعلوم المعيارية وبأي منهما يتوجب دراسة الجمال فنجد من وضعه في مجال العلوم المعيارية- الحق والخير والجمال- كما فعل “أندريه لالاند” حينما فرق بين العلوم الوضعية التي تدرس الوقائع(ما هو كائن)، والعلوم المعيارية التي تدرس القيم (ما ينبغي أن يكون) . وهذا ما اعترض عليه أنصار الفلسفة الوضعية(*4) التي تعتمد الحواس والتجربة في الحكم على الأشياء، باعتبار أن العلم وصفي يدرس الوقائع وليس معيارياً يدرس أحكام القيمة، فلم يصدق عندهم مفهوم “العلم المعياري”. مما أدى ببعض الفلاسفة إلى تعديل مفهوم “العلم المعياري” إلى مفهوم جديد هو مفهوم “علم المعايير”، ولا يختلف المفهومان من حيث المنهج بل يختلفان من حيث الموضوع فقط.( )
أي إن المعايير الجمالية أصبحت تستنبط من الأعمال الفنية بطريقة وضعية تعتمد استقراء الوقائع مما يعني أن الأحكام الجمالية قد أصبحت نسبية لا ثبات لها تتغير تبعاً لتغير الأزمان والمدارس الفنية ووفق مزاج المستنبط وما يأنس إليه من قيم جمالية في الآثار الفنية. وبذلك لم يعد عالم الجمال واضعاً للقيم الجمالية التي يتوجب على الفنان إتباعها في إبداعه لآثاره بل اقتصرت مهمته ـ بوصفه عالما له أساليبه الخاصة ـ على وصف الواقعة الجمالية والتوصل الى وضع الحلول لمشاكلها العلمية من خلال فروض وتعميمات تتحدد وفقا لما يكتنزه من مناهج دراسية ملائمة ولنوعية العمل الفني الذي يتصدى لدراسته.
وعليه، فإننا نستطيع، برفقة “جان برتلمي”( ) ، الاستنتاج من هذه الخلافات في الآراء، بان أقوال الفنانين والفلاسفة والنقاد ليست قواعد سماوية منزلة. ولذا فلن يكون من الحكمة أن نقبلها وعيوننا مغمضة، بل لا بد من التوفيق والنقد، وإخراج الحبة من التبن، والإبقاء على الحبة الطيبة وإلقاء القش بعيداً .
المبحث الثاني
الجمال؛ الماهية والطبيعة:

ما هو الجمال؟ سؤال كبير تتجلى فيه واحدة من المعضلات العميقة والمعقدة التي واجهت الفكر البشري على مدى تاريخه. فنرى أن أعلام الإنسانية من فلاسفة ومفكرين وعلماء وفنانين قد أجهدوا أنفسهم في محاولة الوصول إلى إجابة مقنعة لهذا السؤال، فكدوا وجدوا واجتهدوا لابتكار المناهج والأساليب الكفيلة بحل مشكلات الحياة الفكرية. وكان الجمال واحداً من المواضيع المهمة المشكلة للنظام الفلسفي الذي يؤسسه أي من الفلاسفة.
ورغم أن موضوع الجمال قد أشبع بحثاً وتحليلاً، لكن المشكلة ظلت، تقريباً، بلا حل أصيل، من حيث تعدد الإجابات وتضاربها، عن معنى الجمال وماهيته. فكل فيلسوف يزعم أن أجابته هي الصحيحة ويردفها بالعديد من الحجج والأدلة والبراهين لتأييدها. واتسعت البحوث في علم الجمال وتنوعت وتضاربت الآراء حتى أن الباحث عن معنى الجمال ليجد نفسه في خضم عظيم من تلك الآراء والنظريات ويبقى في وسط الميدان حائراً، فلكل رأي حججه المؤيدة، ولكل رأي انتقادات مفندة له أو مقللة من قيمته. وبعد؛ فلا غرابة فيما ذهب إليه “ولْ ديورانت” بأن أثقل الكتب في العالم ظلا، هي تلك التي كتبها الناس عن الجمال، وكيف ترتعش عظام الميتافيزيقا الصلبة وتفزع بعض الشيء حين يحل الجمال إلى حين محل الحق ويلتمس فـي الحكمة محراباً.( )
ولعل مناط الصعوبة في هذا الأمر، أن الفكر البشري حين يتعامل مع المشاكل التي تعترضه ويحاول أيجاد الحلول لها، فان أيسر الأمور عليه يجدها في تعاطيه الأشياء المحسوسة بفعل قربها من طبيعته المعتادة. لكن ما أن يتدرج الفكر في الصعود من المحسوس إلى المجرد “المعقول” حتى تتبدى الصعوبة شاخصة، وهـذا عين ما يكتنف البحث في الجمال. فنحن نرى أن ليس من الصعوبة أمام أي إنسان حاصل على قدر من الفهم والإدراك أن يحدد لم كان “الجميل” جميلاً. فالجميل، كشيء، متجسد أمام النظر يسهل معرفته من قبل المتذوق وتحديد سماته الجمالية، ومن الممكن أن تتفق عليه فئة كبيرة من الناس إن لم نقل جميعهم. ولكن الصعوبة الكبرى تكمن في الصعود من الأعراض والمشخصات إلى الجواهر والماهيات حين نحاول أن نسبر الأمر ونسعى لتحديد ماهية الجمال. هنا تتضارب الآراء ويبتعد بعضها عن الحقيقة ويشط الآخر في مضارب الخيال ولا نكاد نحصل على إجابة مقنعة تجتمع عليها اغلب الآراء والأذواق. إن جمال الكائنات الجزئيـة “الشيء الجميل” يمكن تعريفه، أما تعريف الماهية “الجمال” التي توجد بوجود كل جميل من أي نوع كان، وتنتفي بانتفائه، فمتعذر أو متعسر.
فالجميل شيء محسوس له صفات واضحة ومحددة من مثل التناسب والتناسق والإيقاع والدقة والتشابه والبساطة والضرورة “الغائية” وغيرها. فهـذه كلها أمور محسوسة لا يصعب إدراكها بيد أنها لا تنفذ إلى جوهر الجمال. وعلينا، بدءاً، أن نعي هذا الفرق بين الشيء الجميل وبين الجمال الكائن في ذلك الشيء إن كان فيه جمال. فهل يعني هذا إن الشيء من الممكن أن يكون جميلاً، وفي الوقت نفسه خالياً من الجمال؟ هذا ما سنتبينه من خلال البحوث الآتية.
بدءاً، في ميدان علم الجمال، كما في باقي العلوم الفلسفية، توجد نظريتان مختلفتان ينطلق منهما المفكرون، وان اختلفت مناهجهم وأساليبهم فـي تفسيراتهم لمظاهر الكون والحياة، وهما الفلسفتان الواقعية والمثالية. ولكل منهما منظومة من المعارف عن الكون والطبيعة والإنسان والمجتمع. وقد سبق القول أن السؤال حول أسبقية الواقع للفكر أم الفكر للواقع هو ما يميز كل من الفلسفتين: المثالية تلتزم الزعم الأول أما الواقعية فتأخذ بالرأي الثاني. فهذا “ليبنتز” Leibniz في ألمانيا يحدد منطلقين للمعرفة عند الإنسان، لكل منهما مهمته المعرفية الخاصة: الأول: الطريق العقلي الذي نتعرف به الحقيقة عبر ما نكتشفه من كمال في العالم. والثاني: الطريق الحسي الذي يساعدنا على إدراك الجمال من خلال الأحاسيس والمشاعر التي نجدها في صورة ما سواء كانت مكتملة أم ناقصة.
وهكذا، يمكننا ملاحظة توزع الاختلافات في الحكم الجمالي بين النظريات الموضوعية والذاتية في التقدير. فالإحساس الجمالي، وان كان نتيجة لمـا هـو موجود في الواقع ومدرك من قبل الحواس، لكنه في النهاية يتحدد وفقاً لإحساساتنا
الداخلية وما نشعر به من رؤية الجمال. وما بين هذين المجالين الموضوعي والذاتي كانت المساحة الشاسعة التي نبتت فيها الآراء المفسرة للجمال ولكنها لا تخرج عن هذا الميدان وان ابتعدت أو اقتربت من هذا القطب أو ذاك.
يقول “أفلاطون” صاحب نظرية المثل: إن الجمال هو إشراق الحقيقة ؛ ولتفسير مذهبه هذا فانه ينطلق من الأساس الذي أقام عليه نظريته في المعرفة، وهو التذكر، باعتبار أن الأرواح كانت تعيش حياة سابقة، قبل أن تهبط إلى الأرض، وإنها، أي الأرواح، كانت قد تأملت المثل الخالدة للأشياء في تلك الحياة السابقة. ولذا، ما إن ترى شيئاً على ظهر البسيطة حتى تتذكر المثال الذي يوحي به هذا الشيء الأرضي، وهذا هو جوهر المعرفة عنده. وعلى هذا فـان الجمال هو هذا التشابه بين الأصل السماوي وظله الأرضي، وذهب عدد من الفلاسفة المتدينين مذهب “أفلاطون” حين عدوا الجمال انعكاسا لظل الخالق على المخلوقات.
في احد محاوراته، يعرف “أفلاطون” الجميل بأنه المساعد الذي يقود إلى الخير. ويعلق “كروتشه” على هذا التعريف؛ بان الخير في هذه الحالة لن يكون جميلاً، ولا الجميل خيراً، لان السبب غير الأثر والأثر غير السبب. فالمياه صالحة لإخماد النار، ولكن هذا هو الفهم العادي أو التصور السطحي، فالفعل هنا هو الصالح لا الشيء نفسه، ومن ثم فالشيء لا يكون خيراً في ذاته، أي قبل استعماله أو توجيهه إلى غرض ما وإنما هو كذلك عندما يتحرك ويعطي أثراً. وإذن فالشيء الذي يقود إلى الخير لا يتحتم أن يكون هو في ذاته جميلاً( ). نفهم من ذلك أن الشيء من الممكن أن يكون صالحاً ولكنه لا يؤدي إلى الخير إلا عند اندراجه في سياق الفعل الصحيح. فقد يكون الشيء جميلاً، بذاته، ولكن لم تتحقق فيه سمة الجمال بعد إلا بصفتها كامنة فيه
بالقوة، ويحتاج إلى السلوك والحركة بالاتجاه السليم والقويم كي تتحول تلك السمة من القوة إلى الفعل. وهذا يعني أن الشيء، فيه، أيضاً، سمة القبح بالقوة ومن الممكن أن تتجلى حين يدرج ذلك الشيء في سياق خاطئ أو يستعمل في فعل غير سليم فتبزغ سمة القبح من القوة إلى الفعل. ومن الممكن أن نفهم من هذا أن الجمال وليد عدة صفات يجب توافرها في الشيء ليتحقق جماله، وليس الجمال ناشئاً عن سمة واحدة. وهذا ما نراه عند “الغزالي” في تحديده لمعنى الحسن والجمال في كتابه “إحياء علوم الدين”:كل شيء فجماله وحسنه في أن يحضر كماله اللائق به، الممكن له. فإذا كان جميع كمالاته الممكنة حاضرة فهو في غاية الجمال. وإن كان الحاضر بعضها فله من الحسن والجمال بقدر ما حضر.( )
وكما المحنا من قبل، فان آراء معظم الفلاسفة لابد أن تنطلق، بشكل أو بآخر، من المذهب المثالي أو الواقعي ولا بد أن نجد فيها سمة من سمات ذينك المذهبين.
فحين نصل إلى “كانت” وهو من المهتمين بمسألة الجمال والحكم الجمالي، نجده يعرِّف الجمال تعريفاً يعارض فيه الحسيين والعقليين (*1). فيقول عن الجميل بأنه ما يمتع دون غاية، ليرد على الحسيين، وبأنه ما يمتع دون مفهومات ليرد على العقليين. ويمكننا فهم هذا الكلام باعتبار اختلاف الجانبين “الحسيين والعقليين” في كون الجمال علمًا معياريًا أو وصفيا.ً فالحسيون الذين يهمهم ما موجود في الواقع بشكل محسوس “منهج بعدي”، يعتمدون التجربة والوصف للوصول إلى غرض الشيء ومدى الاستفادة منه. أما العقليون الذين يستندون إلى مبادئ أولى “منهج قبلي” فإنهم لا بد آخذين بمعيارية الجمال وبالتالي يجب أن يكون الشيء في جماله مطابقاً لمفهومه والمعيار الموضوع له مسبقاً.
نرى من الواجب التنبيه إلى شيء ذي خطورة كبيرة، بموجبه، نستطيع أن نفهم ما يعنيه الفلاسفة في تعريفاتهم للجمال، ويزول كثير من اللبس. فمن المنتظر أننا نتوقع من التعريفات حين تطلق عليها لفظة جمال إنها ستشتمل على الجمال عموماً بوصفه مفهوماً وماهية يندرج تحت لوائها كل أنواع الجمال في الكون. لكن الواقع يخبرنا شيئا مغايرا ، فمعظم الفلاسفة حين يذكرون الجمال في تعريفاتهم فإنهم، في الحقيقة، لا يقصدون الجمال المطلق بل يقصدون الفن، حين يطلقون لفظـة الجمال ويتحدثون عنها، فكأن الجمال كلمة مرادفة للفن. وفي أحيان أخرى يعنون الجمال في الفن وليس الجمال المطلق أو عموم الجمال. وبذلك يحصل كثير من اللبس والخلط في المفاهيم والقيم عند القارئ حين يذكـر الفلاسفة شروط الجمال وعلاقته بالقيم الأخرى وانه ليس له علاقة بالأخلاق والحق، وهم، في حقيقة الأمر، لا يتحدثون إلا عن الجمال في الفن أو شرط الفن وليس الجمال المطلق.
ومن هذا التصور، ما يذهب إليه “كانت”؛ بان الجمال هو الصورة الغائية لموضوعه، فإذا كان لكل شيء غاية تدرك أو يظن وجودها فـإن غاية الجمال مدركة في موضوعه، ونحن أمام أي عمل جميل نحس بعلاقات جمالية تكفينا للسؤال عن غايته. وهنا نجد أن “كانت” لا يقصد إلا الجمال في الفن أو شروط العمل الفني، باعتبار أن الفن في حالة الحكم عليه جمالياً يجب أن يؤخذ بوصفه فناً وليس شيئاً آخر مما يمكن أن يحيل إليه العمل الفني، بوصفه وجوداً كاملاً مستقلاً؛ أي تجربة تقدم إلى المتلقي مكتفية بذاتها لا تستمد أهميتها مما توحيه وتستفزه في ذهن الآخر من تجارب أو قيـم أخرى أو حتى ما يقدمه مضمونها نفسه. فالمفترض توافر شروط الفن ليصح إدراج العمل ضمن الأعمال الفنية ولا نعده بحثاً علمياً أو مقالة فلسفية أو فكرية. وشرط الفن هذا لا يعني توفر شرط الجمال في العمل الفني، لأنه ليس إلا تأكيداً على ما يتعلق بالسطح الفني. ونجد هذا التأكيد على السطح عند “كانت” حين يتحدث في موضع أخر بان الجميل هو الذي يرضي الجميع بدون سابق فكرة أو صورة ذهنية. ولا يقصد بقولـه هذا إلا شرط الفن، من جهة محسوسيته التي من الممكن إدراكها وتمييز شروطها وقيمها وفق المنهـج الوصفي أو البعدي بعكس الجمال الذي لا بد للحكم عليه من توفر سابق فكرة وصورة ذهنية له بوصفه حكماً معيارياً في حقيقته.
وضمن هذا السياق يمكننا استعراض بعض تحديدات الفلاسفة للفن، الذين وإن جاءوا بلفظة الجمال في أقوالهم فإنهم لا يقصدون إلا الجمال في الفن وليس الجمال المطلق. ومن هذه التحديدات التي يذكرها صاحب “النقد الجمالي” قول “شلنغ”: الجمال هو توازن القوى الواقعية والمثالية، إتحاد الطبيعة والذات، هو المطلق، وقول “هيجل”: الجمال مظهر الفكر أو الحقيقة أو المطلق للحس، والأثر الفني جزء من العالم اللاواعي لكنه عمل الإنسان الواعي، فهو تلاقي الوعي واللاوعي وصورة اتحاد الطبيعة والذات ومظهر الذات العليا التي تعي نفسها بالتجربة الاستاطيقية ؛.. ثم تتم محاولة إرجاع المقولتين إلى أصليهما اللذين انبثقا منهما، فمعنى قول “هيجل” إن الجمال مظهر الله على الأرض “المطلق” ويجب أن يكون كذلك في الفن ولذا كان الفن بالضرورة مثاليا؛ً وهو رأي متأثر بمثالية “أفلاطون” ونظريته في المثل؛ أما تحديد “شلنغ” فهو متأثر بقول “كانت” إن الجمال جسر بين العقل والحس أو بين المثالية والواقعية لأنه يجمع بيـن صفات الصور المحسوسة والصورة العقلية المجردة…( ) ومن مثل هذه التحديدات،أيضا، للفن وللجمال في الفن ما يذهب إليه “شيللنج” Schelling من أن الجمال هو المثال وقد تزيا بزي الواقع.
إن التحديد الصائب للجمال لا يمكن أن يكون مستنداً إلى أمور جزئية أو جامدة لا تتناول إلا جانباً واحداً من جوانب الحياة. فالذي نراه أن الجمال نتاج صفـة علائقية متشعبة ولا يتيسر فهمه وتعريفه التعريف الصحيح إلا بأدراجه ضمن إشكالية تتحدد بموجب الفهم الصحيح للعوامل المؤثرة في تعيين حقائق الأشياء في الكون والحياة. فيتوجب أن تنطلق دراسة الجمال مـن نظرة شمولية إلى الحياة معتمدة فلسفة ناضجة ترتكز على أسس سليمة نابعة من البديهيات(*1) التي يذعن لها العقل ومنطقه بعيداً عن الأهواء والترسبات الزائفة القادرة على حرف الفهم عـن الإدراك السليم للوقائع. ويمكننا أن نلحظ شيئاً من هذا القبيل في قول “أفلاطون”:إن الأشياء(*2) ليست جميلة جمالاً مطلقاً، وإنما تكون جميلة عندما تكون في موضعها، وقبيحة عندما تكون في غير موضعها. فالجمال لا يمكن أن يتحدد بسمات ستاتيكية ثابتـة تجعل من الشيء جميلاً أينما حلَّ وأينما صار وتحت أي سياق وأي اتجاه وغرض واستعمال. بل ثمة شروط عامة بتوافرها يتحقق الجمال في الشيء وبعكسه تهيمن صفة القبح والشر، وهكذا يكون جمال كل شيء وبهاؤه أن يكون على ما يجب له، كما يقول “ابن سينا”. يتضح إن الشيء يمكن أن يكون فاقداً لجماله وبهائه حين لا يكون على ما يجب له. ولا يجب أن يفهم الجمال على انه صفة ثابتة في الشيء بل إن الجمال سمة علائقية تسهم في تحديدها العديد من الأمور.
والطريق الأسلم في تحديد مفهوم الجمال هو البدء من الجمال المطلق والتدرج نزولاً: إلى جمال المعقولات ثم جمال المحسوسات. حيث تتداخل النسب المعقولة والمحسوسة. ولا يتأتى هذا إلا عن نظرة شمولية للحياة تنبع عـن فهم ثاقب وصادق لكل المعطيات وبمنهج قادر على توفير الحل السليم لعناصر الإشكالية الكونية ومن ضمنها مسألة الجمال المطلق(*1) ، والذي بعد تحديده نستطيع أن نفهم ونحدد ماهية الجمال الفني أو غيره. وهذا الوصول إلى الجمال المطلق ثم الهبوط منه لتفسير مظاهر الجمال المعقولة والمحسوسة يعرضه الأستاذ “يوسف كرم” صاحب كتاب “العقل والوجود” بشكل لطيف آلينا عرضه بالنص؛ يقول: …. والمعقولات أنفسها جمالها يفوق جمال المحسوس: فإننا إذا ارتقينا مـن المحسوسات، بما هي كذلك، بلغنا إلى
الرياضيات التي تسقط من اعتبارها الألوان والنسب الواقعة بين الأشياء، ونقبل على نسب مطلقة بين عناصر معقولة صرف فنلقى في تأملها وفي ابتكار تأليفاتها متعة روحية غير متعلقة بمادة أصلاً. وإذا ارتقينا من الرياضيات بلغنا إلى الحكمة التي هي علم الوجود بمبادئه العليا أي قوانينه الكبرى، وبخاصة المبدأ الأعظم، والعلة الأولى والقانون الأوحد، فحينئذ يجد العقل من سمو تعقله طرازاً من الجمال الخالص الصافي يفعمه بهاء ونشوة، فيغتبط بالمعقول، والتعقل معاً، ويدرك أن الترتيب الطبيعي في تعريف الجمال هو البدء بمطلق الجمال، ثم النزول إلى جمال النسب المعقولة، وأخيراً إلى جمال النسب المحسوسة. فيعرف مطلق الجمال تعريفاً مطلقاً خلواً من ذكر التمام والتناسب كالذي أوردناه عن ابن سينا [جمال كل شيء وبهاؤه هو أن يكون على ما يجب له] ثم يخصصه في الدرجتين التاليتين بما يلائم كلا منهما، فيذكر التمام والتناسب تارة على أنهما تمام عناصر معقولة وتناسب بينهما، وطوراً على أنهما تمام عناصر محسوسة وتناسب بينهما.( )
ويعدُّ “أفلاطون” من أوائل الفلاسفة الذين استخدموا هذا التدرج في الصعود من المحسوس إلى المعقول [كمـا يسميه “أفلاطون” الديالكتيك الصاعد] حيث توصل إلى الجمال بالذات ثم نزولاً منه إلى تحديد مفاهيم الجمال في المستويات التي تليه، فقد

بدأ، أولا،ً باكتشاف سمات الجمال في الموجودات الحسية، وفي الأفراد. ولأنه يسعى إلى اكتشاف علة الجمال في الأفراد جميعاً، فقد اخذ يصعد تدريجياً إلى أن توصل إلى اكتشاف مصدر الجمال المحسوس في العالم المعقول متمثلاً في مثال “الجمال بالذات” الذي يشارك فيه الجمال المحسوس.
ولكون الفن نشاطاً خلاقاً يؤديه الإنسان الواعي المبدع ابتغاء منه لسمة التوصيل إلى الآخر من حيث أن الفن تجربـة تحوي على ما يغني حياة المتلقي، فمن ثم لا بد أن يكون للقيمة التي تحتويها التجربة الوزن الأكبر في الحكم الذي يتولد عند الآخرين عن هذا الأثر الفني وكذلك في تحديد مفهوم الفن أصلاً. ولا يمكن فهم الوجود بمعزل عن القيم الجمالية لكونها قيما جوهرية باطنة في أعماق الوجود ، أو أن تؤدي الحياة غايتها بشكل سليم من دون توفر تلك القيم في مفاصلها. ولما كانت تلك القيم في الأصل أمورا معنوية جوهرية فان الجمال كان ولما يزل يتحدد بصفته ماهية ومعنى وليس شيئاً محسوساً محدوداً، مادام لا يتصيَّر إلا نتاج صفة علائقية تتشكل في ذهن الإنسان المدرك. فالجمال في جوهره قيمة لا تدرك إلا عقلياً وان اعتمد العقل في ذلك الإدراك على ما يستلمه من إشارات حسية صادرة عن الأعراض المشخِّصة لذلك الجمال.
هذه الحقيقة يؤكدها “أفلاطون” حين يصف “الرائع” بأنه المتكامل، الشامل الذي لا يعرف الحركة ولا التغيير، حيث يخرجه عن أطـر الـزمان والمكان، فهما غريبان عنه ولا يتم التوصل إلى هذا “العالم الأصلي” الأول، إلا بـوساطة العقل لا بوساطة
المشاعر. والأمر ذاته نجده عند “أفلوطين” الذي ينسب الجمال إلى عالم الحقائق العقلية حيث عرف الجمال بأنه موضوع محبة النفس لأنه من طبيعتها وهو ينتمي إلى عالم الحقائق العقلية، فهو بطبيعته أقرب إلى النفس منه إلى طبيعة المادة، ولذلك فهي ترتاح إليه وتحبه في حين يكون القبيح أقرب إلى طبيعة المادة، لان اعتماد العامل الحسي في تحديد الجمال يتسبب في إشكالات مهمة ، فان التناسب، والمقاييس إنما هي أفكار تتعلق بالكم ومن ثم لا يجوز أن تطبق على الحقائق الروحانية كالأفعال والأخلاق والأفكار.( )
يقول “سانتايانا”( ): إن أشد الأشياء مادية، حينما نشعر بأنه جميل، سرعان ما يفقد طابعه المادي، لكي يعلو على مستوى العلاقات الشخصية الخارجية، ويصبح متركزاً متعمقاً في صميم وجوده. أعني بإيجاز أنه يخضع لعملية “تصعيد” أو “إعلاء” يستحيل معها إلى “ماهية”. وأخيرا نراه ينتهي إلى القول بان القيمة إنما تكمن في “المعنى” لا في “المادة” أو هي تكمن في “المثل الأعلى” الذي تقربه الأشياء لا في “الطاقة” التي تنطوي عليها تلك الأشياء..
إن الفنان ينشد الجمال بعيداً عن الواقع، أي في اللاواقعي لان الفن الحقيقي تعبير عما يمكن أن يكون وليس عما هو كائن. لذلك نرى العديد من المفكرين والفنانين طالما ربطوا الجمال باللاواقعي، على نحو ما فعل “سارتر” الذي يرى ((أن الواقعي لا يمكن أن يكون “جميلاً” على الإطلاق، بل إن الجمال صبغة خاصة تخلع على الموضوع ضرباً من “اللاواقعية” وأنت حين تنظر إلى أي موضوع من الموضوعات – من وجهة نظر جمالية- فان هذا الموضوع سرعان ما يكف عن الوجود في العالم الواقعي باعتباره شيئاً يشغل حيزاً في المكان، وبالتالي فانك لا تعود تهتم به بوصفه موضوعاً نفعياً ذا قيمة عملية؛ والحق إن الجمال، في نظر سارتر، إنما ينتمي إلى عالم آخر هو عالم “المخيلة” على نحو ما يكشف لنا عنه الإبداع الفني)).( )
ننتهي إلى وجود عنصرين مؤثرين في الحكم الجمالي وفي تحديد معنى الجمال، الأول يتعلق بالوجود المحسوس المادي “للشيء” والثاني يتحدد بالقيمة الكامنة في ذلك الشيء. يقول “رسكن” في أحد تعاريفه المبكرة للجمال: ((نقصد بمصطلح الجمال أمرين بالدقة. أولهما تلك الخاصية الخارجية للأجسام التي تبدو متماثلة على نحو مطلق، سواء وجدت في حجر أو زهرة أو وحش أو إنسان، والتي يمكن أن تظهر على نحو ما مطابقة للصفات الإلهية، وبذلك، أسميها الجمال النمطي، وثانيهما، مظهر الإنجاز الموفق للوظيفة عند الكائنات الحيـة، وبوجه خاص ما تبدو عليه الممارسة السليمة والبهيجة للحياة الكاملة عند الإنسان، هذا النوع من الجمال… أسميه الجمال الحيوي)).( ) ومن يدري، لعل الجمال،كما يقول “ول ديورانت”، وظيفة للحياة لا مادة ولا صورة( ).
سنحاول أن نضرب بالإنسان مثلاً لتوضيح عنصري الجمال “الحسي والمعنوي”. فنحن نعلم أن للإنسان صفات ظاهرية جسدية لا يُختلف عليها وهي التي بتوافرها نستطيع أن نحكم على هذا المخلوق أو الكائن بأنه إنسان، مثل شكل الهيئة ونوعية أعضاء الجسم ومزايا الوجه وموقع الأعضاء فيه من عينين وأنف وفم وأذنين ثم شعر الرأس ومتوسط الطول وشكل الأيدي والأرجل وغيرها. هذه السمات تحقق شرط الإنسان من حيث اندراجه في صنف البشر “شرط النوع” ومن الممكن أن يكون هنالك تمايز في هذه الأعضاء ظاهريا من جهة القوة العضلية والحسن في ملامح وتقاسيم الوجه والأعضاء، ولكنها جميعا لا تخرج بالإنسان إلى نوع آخر أو جنس مغاير، بل يبقى إنسانا، ومن البديهي أن هذا الجسد سيكون طعاماً للتراب والديدان طال الوقت أم قصر.
ولنفترض أن ثمة فتاة حسنة المظهر والقوام بشكل رائع ضمن المقاييس البشرية بحيث ينجذب أليها الإنسـان ويصفها بالجمال، ولنفترض أن تلك الفتاة قد تقربت، عن قصد وتخطيط مسبق، من إنسان ما، ثم يصبـح بينهما علاقة وصلة سيسعى ذلك الإنسان للمحافظة على ديمومتها باعتبار ما للفتاة تلك من جمال وحسن مطلع وكون صلته معها من حسن الطالع؛ ولكن، في الوقت ذاته، من الممكن أن تكون تلك الفتاة بؤرة للرذيلة والفساد والعهر والفسوق والجريمة، ولا نرى أن جمال شكلها الظاهري يمنعها أن تكون كذلك، ثم إنها قد تكون، مع تلك الصفـات، اقتربت من ذلك الشخص لغرض الفتك به من حيث التعمد في إصابته بأذى أو في قتله، فكانت تحمل بين طيّات ثيابها مادة قاتلة كالسم، مثلاً، أو سلاحاً مهلكا وتتحين الفرص للإيقاع به وتدميره، نقول، لو صح وعلم ذلك الإنسان بنية الفتاة تلك؛ إلا يبتعد عنها؟ وهل سيراها جميلة بعد ذلك، أم انه سيهرب منها كما يهرب من نتانة أو أسد للنجاة بجلده، حيث سيراها خطراً محدقاً وشراً مستطيراً؟. ثم إن الإنسان ليس هو بالذات من جعل نفسه بتلك الهيئة وتلك الملامح الحسنة، بل إنه قد خلق على ذلك الشكل، أليس بعد ذلك، من التطرف ومجانبة الحق أن يمتدح ذلك الإنسان لأشياء لم يكن له يد في إحقاقها، هذا بالإضافة إلى إنها فانية عاجلاً أم آجلاً سواء حين الموت أم حين تقدم العمر فتتحول الملامح الجميلة إلى تجاعيد خالية من الحياة والحسن. ثم إن الملامح الجيدة لا تمنع من أن يكون ذلك الإنسان مصـدر شر وبلاء على الآخرين ويجر عليهم الويلات. كما إن الملامح الأقل حسنا مهما كانت درجة تدهورها لا تمنع من أن يكون صاحبها مصدر خير ورحمة للآخرين فتستلذ أرواحهم به وبما يجلبه من منفعة وأمان، فيسرّون للقياه وقربه، على العكس من الأول الذي سينفرون عنه ولا يأملون إلا بعده وفناءه. وبناءً على ما تقدم، فان ما يحدد الحكم الجمالي الحقيقي وبشكل أساسي هو نوعية القيمة التي ترسّخت في الشيء وليس الشكل الخارجي. لذا نقـول؛ إن منشأ الابتعاد عن الفهم الصحيح في تحديد معنى الجمال هو الخلط بين هذين الشرطين وهما الشرط الحسي “شرط النوع أو الصنف” وشرط القيمة أو” شرط الجمال”.
وهذا التفريق بين العامل المادي المحسوس وعامل القيمة المعنوي في تحديد الجمال نجد قريبا منه الربط الذي يضعه “هنري هيوم” بين المفاهيم الجمالية والمفاهيم الأخلاقية، حيث يرى ((إن هنالك نوعين من الرائع: الرائع في ذاته، والرائع في علاقاته. والنوع الأخير من الرائع هـو الذي يستدعي تصور الفائدة ويمكن فهمه عن طريق التعقل، بينما يدرك النوع الأول من الرائع عن طريق المشاعر. إن الشروط الموضوعية للنوع الأول من الرائع يمكن معرفتها بالخصائص التالية: الدقة، التشابه، النظام والبساطة)).( )
و لا يخفى أن الرائع في ذاته، عند “هيوم”، يتمثل في الخصائص الحسية للرائع وهذا يدخل ضمن شرط النوع أو جمال الصيغة، بينما يوحي الرائع في علاقاته بشرط الجمال أو القيمة بوصفه مدركاً عقلياً ديناميكياً، على العكس من شرط النوع “الصيغة” الذي يمتاز بصفته الإستاتيكية المستقرة في أعراض الشيء.
فشرط النوع أو الصنف يؤهل الشيء للدخول تحت لواء تلك الصفة أو النوع. مثلاً، كأن يكون الشيء بحثاً علمياً، فان ما يتمتع به من شروط أكاديمية من جهة شروط البحث الثابتة الاستاتيكية، هذه الشروط تؤهله للانضمام إلى صنف البحوث العلمية “شرط النوع” ولكن هذا لا يعني أن ذلك البحث سيكون قيِّماً لمجرد توفر شرط البحث العلمي فيه، بل مناط الحكم من بعد توفر شرط النوع واندراج البحث في خانة العلمية هو نوعية القيمة العلمية والمعلوماتية وما يحفل به من عرض جيد للأفكار وتعليل واستنباط وآراء جديدة وبراهين وغيرها مما يعزز سمة الابتكار في البحث ويؤدي إلى رفع درجته من ناحية القيمة، أما إذا كان موضوع البحث تافهاً وخالياً من الإبداع والجدة فان ذلك البحث سينبذ جانباً ولا يعطـى أدنى اعتبار وان كان محققاً لشرط النوع. وكذلك، لو كان هنالك إنسان حسن الهيئة قوي العضلات وجيد الثياب لكننا علمنا انه كان مجنوناً أو أحمق عديم العقل، فهل سننعته بالجمال لحسن هيأته ومنظره، أم انه سيُزرى ولا تجعل له أهمية معتبرة؟.
إذن، ليس شرط النوع هو مناط الحكم في تحديد الجمال بل شرط القيمة هو المناط، وفي كل صنف من النشاطات البشرية سنلحظ، أولاً، توفر شرط النوع أو الصنف ليصح إدراج الشيء ضمن ذلك النوع، ثم يتم الحكم الجمالي بعد اكتناه البعد القيمي “شرط القيمة” بصفته شرطاً للجمال.
ولكن ما هو مناط تحديد تلك القيمة؟. نرى أنها صعوبة لا تقل عن صعوبة تحديد مفهوم الجمال. هذا ما سنتبينه في الآتي من البحث.

هوامش : 
(*1 هذا ما سنشير إليه بتفصيل أكبر وأعمق في الأبحاث التالية من هذا الفصل.(*2) بعـدي: 1) ما يأتي من التجربة أو يستند اليها 2) عند أرسطو البعدي هو الحكم الذي يصدر عن العلم بالمعلول من حيث ان المعلول متأخر بالطبع عن علته ((في مقابلة قبلي))
قبلي 1) سابق على التجربة سبقاً منطقياً. أو لا يفسر بالتجربة 2) عند أرسطو القبلي هو الحكم الذي يصدر عن العلم بعلة الشيء من حيث ان العلة متقدمة بالطبع على المعلول. 3) الاستدلال القبلي: هو الذي يستند فقط إلى القواعد المنطقية للعقل. ((المعجم الفلسفي: ص 42 ، 169)).
(*3) معيار Norm مأخوذة من كلمة يونانية Norma ومعناها الزاوية المثلثة أو مسطرة البناء. تفيد نموذج متحقق أو متصور لما ينبغي ان يكون عليه الشيء. ((المعجم الفلسفي: ص 220)).
(*4) وضعي “مذهب” Positivism: يقال على المذاهب التي تقرر أن المعرفة الحقيقية هي معرفة الوقائع، وان اليقين قائم على العلوم التجريبية، وأن الخطأ ينشأ مما هو ” قبلي ” والحق هو ثمرة التجربة. ((المعجم الفلسفي: ص ص254-255)).
( ) ينظر: فلسفة الفن في الفكر المعاصر: ص 350.
( )ينظر: بحث في علم الجمال- جان برتلمي- ترجمة: د. أنور عبد العزيز- مراجعة: د. نظمي لوقا- دار نهضة مصر- 1970، د.ط: ص ص 17-18.
( ) ينظر : مباهج الفلسفة: ص 284، 286.( ) ينظر: الأسس الجمالية في النقد العربي – عز الدين إسماعيل – دار الفكر العربي – 1955.: ص 94.
( ) ينظر:إحياء علوم الدين- تأليف الإمام أبي حامد محمد بن محمد الغزالي- شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر- 1358هـ، 1939م، د.ط: ج4: ص 256.
(*1) الحسية والعقلية اتجاهان متناقضان في نظرية المعرفة من جهة احد مباحثها المتعلق بمصدر المعرفة لدى الانسان: يقول الحسيون باصالة الحس(الحواس) باعتباره المصدر الاساس للمعرفة، على العكس من العقليين الذين يعتقدون باصالة العقل بوصفه المصدر الوحيد للمعرفة الحقيقية.
( ) ينظر: النقد الجمالي: ص ص 36-37.(*1) البديهيات: نوعٌ من المعرفة يكون حقائق فطرية في العقل واضحة بذاتها ومن ثمَّ تكون صادقة بالضرورة، وهي في العقل بالقوة ولا يجيء اكتساباً لأنها مستقلة عن كل تجربة، هذه هي المعرفة الأولية أو البديهية. ((الفلسفة في مسارها التاريخي- د. توفيق الطويل- دار المعارف، القاهرة “سلسلة كتابك 7”-1977، د.ط: ص 49)).
– يعتقد قسم من الفلاسفة المثاليين بوجود أفكار ملازمة للوعي الإنساني منذ ولادته وبصورة مستقلة عن التجربة يطلقون عليها اسم “الأفكار الفطرية”. ((مذاهب ومفاهيم في الفلسفة والاجتماع: ص13)).
حيث يرى العقليون ان “فطرة العقل” هي المعيار لمعرفة الحقائق ويعدون القضايا التي تستنتج بشكل صحيح من البديهيات، وفي الواقع تشكّل جزئيات منها-يعدونها حقيقية، ويضفون القيمة على القضايا الحسية والتجريبية إذا كانت قابلة للإثبات بفضل البراهين العقلية.
(*2) يتوجب ملاحظة الفرق بين جمال الأشياء الخالية من الروح، والذي يتحدد بوجود الشيء في موضعه ام لا، وبين جمال الأشياء ذوات الأرواح التي يتحدد جمالها فيها بالذات بغض النظر عن موضعها..
(*1) المطلق: ما يدل على واحد غير معين. ((التعريفات: ص218)).
جمال مطلق: هو الجمال بالذات مستقلاً عن أي تعيين. ((المعجم الفلسفي: ص217)).
( ) ينظر: العقل والوجود : – يوسف كرم – دار المعارف بمصر. ط3، د.ت. ص 139.( )ينظر: فلسفة الجمال؛ نشأتها وتطورها: ص 79، 80.
=ينظر: فلسفة الفن في الفكر المعاصر: ص 97.
( ) المصدر نفسه: ص ص 254-255.
( ) الثقافة والمجتمع: ص 156.
( ) مباهج الفلسفة: ص 286.
( ) موجز تاريخ النظريات الجمالية: ص 133.

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| طلال حسن : رواية للفتيان – خزامى الصحراء

إشارة: بعد أن أنهينا نشر فصول مخطوطة كتاب “حوارات” لأديب الأطفال المبدع العراقي الكبير “طلال …

هشام القيسي: أكثر من نهر (6) محطات تشهد الآن

ينفتح له ، وما يزال يرفرف في أفيائه مرة وفي حريق انتظاره مرة أخرى ومنذ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *