لقد كانت النزعة نحو عمق الأشياء في الكتابات الأدبية و غيرها حاضرة دوما على مدى العصور ، الا انّها و بفعل عوامل كثيرة منها الشعور المتنامي بلا تناهي علم الخالق للعالم ، صار النهج التأملي يتوسع في الاوساط الفكرية ، حتى اننا يمكن ان نقول انّ الكتابة اليوم اصبحت أطروحة و فكرة ، أكثر من كونها وصفا و تعبيرا محضا . هذا التطور في فهم التعبير و الكتابة كان له تأثيره على لغتها ، فصارت الرمزية و التعبيرية الوجه الراسخ في كل عمل يبتغي النضج و الجدية ، بل صار ذلك من مقومات الكتابة الفنية في جميع الاجناس الأدبية وهذا من الواضحات .
و في حركة تفاعلية بين الأدائية الرمزية و التعبيرية و بين القصد الواعي و اللاواعي للعمق ، انتقلت الكتابة و حسب ما لدينا من تصورات في جانب مهمّ منها من حالة الحكاية عن عوالم المعنى الى حالة الانكشاف و التجسيد لها ، فصارت الكتابة وخصوصا الشعرية و كأنّها تنبعث من العمق و تنطلق من عوالم المعنى ، و كأنّ ما يتجسد أمام القارئ ليس أنظمة لفظية معبّرة و انما حقول معنوية و شعورية متجسدة ، و في خطوة أكثر اتساعا و تفردا ، صار طلب الكتابة و قصدها الحقيقي هو البحث عن أصول الاحساس و صوره العميقة و تشكلاته الكلية الخالصة في مجالات الفكر و المعنى .
من هنا يمكننا القول أنه قد أصبح لدينا في عالم الكتابة الوجود العميق و المتجه عن الكليات و الانتزاعيات و الاعماق للمعاني و الاحاسيس ، و في قبالها نماذج من التعبيرية البسيطة المسطّحة المنتمية الى أجيال سابقة ، و لربما نرى بشكل ملموس بواد عصر جديدة من الكتابة له اصوله في زمن الحداثة هو انّ الكتابة عملية تفكير و رؤية ، و ليس مجرد وصف و حكاية و انفعال . بمعنى اخر يمكننا التمييز بين الكتابة الانفعالية التي تحتفي بالاشياء و بالشعور تجاهها ، و بين الكتابة الرؤيوية التي تقدم فهما جديدا و متفردا تجاه الاشياء و المعاني ، متجهة نحو الوجودات الخالصة و الكلية ، المجردة للمفاهيم و المعاني و الاحاسيس ، كتابة تتجه نحو الثابت و الراسخ و الكلي من صور الجمال و الاحساس .
بينما نجد التجربة التجريدية ناضجة و واضحة المعالم في الفن التشكيلي ، فانها لا زالت ضبيابية في الأدب ، ففي الويكيبيديا ( بتصرف ) مصطلح التعبيرية التجريدية في الأدب فضفاض على الرغم من دقته النسبية في الفن التشكيلي، و ليس هناك تعاقب معترف به لتلك النزعة أو مدرسة محددة، . ومن المبادئ الأولى لتلك النزعة أن التعبير يحدد الشكل، ويحدد بناء الصور وتركيب الجمل. وهكذا يمكن تحوير وفك أوصال أي قاعدة شكلية أو عنصر من عناصر الكتابة لتلائم هدف التعبير. وفي الشعر هناك نطاق واسع لما يعرف بتقنيات التعبيرية من الاعتماد على التأثيرات الصوتية واللونية، وعلى تراسل الحواس حيث لا يكون المعنى هو الأساس. )
لكن و بشكل واضح يمكن تلمّس مفاهيم و عناصر موحدة لفكرة التجريد عامة شاملة للأدب و غيره ، ففي الموسوعة العربية : التجريد abstraction، هو عملية الفصل بين ما هو رئيس، وما هو ثانوي عارض ومتغير. ويعد التجريد عملية حاسمة، تساعد على الانتقال من المستوى الحسّي التراكمي، ومن التعامل مع خليط الخبرة، وتداخل عناصرها ومكوناتها (حسّية، حركية، إدراكية، مشخّصة، مجرّدة، وغير ذلك) إلى المستوى المعرفي النظري، القائم على إدراك ما هو مشترك بين أنواع الخبرة هذه، أي المستوى الذي يشتمل من حيث التكوين والبناء على مفهومات ومبادئ وقواعد وقوانين ونظريات. و تقول كريستين زيباس (بينما كان بولاك يتبنى الاشارة الرمزية والفعل فأن الاعمال الرئيسية لروثكو كانت تجريدية خالصة، كتل رقيقة من الالوان كانت تطفو في لوحاته مثل الغيوم في مشهد سماوي يكاد يردد اصداء الكثافة، ومن جانب اخر كان كوننك يعتبر المنافس الرئيسي ل بولاك، قدرته على تناول الموضوعات سواء كان منظر طبيعي او موديل والتعامل معه باحساس هائل ورائع من الحرية البدائية، كانت تثير انطباعات عميقة، تتراوح بين الصدمة النقية القوية وبين العرض الجمالي يتوازنان في شكل تجريدي مذهل ( بتصرف) (1) .و يقول محمد عادل زكي التجريد او “العلو بالظاهرة عن كل ما هو ثانوى” بالفرعيات والأمور الثانوية تأتى فى المرتبة الثانية بعد الاستيعاب العميق للأصول الجوهرية، و كتب د. مراد وهبة:” التجريد لغة هو التعرية، وسل السيف من غمده، ونزع الأغصان من الشجرة. وفى اللغات الأفرنجية اللفظ مأخوذ من الفعل اللاتينى ويعنى الانتزاع وهو المعنى الوارد عند ابن سينا، حيث يقول إنتزاع النفس الكليات المفردة عن الجزئيات على سبيل تجريد لمعانيها عن المادة وعن علائق المادة ولواحقها”. أما فى المعجم الفلسفى الذى أصدره مجمع اللغة العربية بالقاهرة، فقد جاء فيه :” التجريد سيكولوجياً: عزل صفة أو علاقة عزلاً ذهنياً وقصر الاعتبار عليها. والذهن من شأنه التجريد لأنه لا يحيط بالواقع كله ولا يدرى منه إلا أجزاء معينة فى وقت واحد، وتسوقه التجربة أيضاً إلى التجريد لأنها تعرض له الواقع مجزءاً أو تظهره على صفة ما. وفى المنطق الصورى: عملية ذهنية يسير فيها الذهن من الجزئيات والأفراد إلى الكليات والأصناف. وعند المتصوفة: إماطة الأغيار والأعيان عن السر والقلب، فتنكشف الحجب ويكون الاتصال”. ( بتصرف ) (2) يقول نوري الراوي : لقد بقي الفنان الحديث، زمنا طويلا، وهو في حالة من الاندهاش في هذا العالم الغريب الذي لابد له في اختياره، مثلما ظل يحمل خوفه الغامض من المجهول والمحتجب والآتي من الغيب دون تحديد لبواعثه ومأتيه ودونما جواب لما سيؤول اليه، وهكذا، عمد في مقابل هذه الحالة الى البحث عن “العالم البديل ” ضمن اشتراطات حسية – شكلية – فكرية – رمزية، شعرية، تجري وفق مناهجها وقيمها التي تعتمد بالدرجة الأولى على الانطباعات البصرية الدائمة التردد، مثلما تعتمد على رواسب اللاوعي والذاكرة الملغزة. وهكذا تحولت الرؤية الفنية الى ما يمكن أن يوصف بـ(الرمزية التجريدية) التي تتميز عادة بقوة حدس عالية تتصل أساسا بالبواعث الغريزية العميقة لحفظ النوع، وهذا الاتجاه الرؤيوي في مجمله، يؤلف ما يشبه الحصانة إزاء القلق والعذاب اللذين يعانيهما الفنان في عصر مضطرب، كما يؤدي الى احتياز الصور الذهنية الثابتة والمتغيرة عن العالم، بما في ذلك، المدركات الحسية له.(3)
برغم من اننا لم نعثر على تعاريف واضحة للغة التجريدية و لا للشعر التجريدي او التجريدية الأدبية فيما تيسر لنا من مصادر حتى باللغة الانكليزية الأصلية ، الا انه و في ضوء ما تقدم ، و انطلاقا من فكرة انّ الابداع اللغوي و خصوصا الشعر لا يتجه بالأساس نحو البناء المعرفي و المفاهيم ، و انّ محور الابداع هو عالم المعنى و الشعور و الاحساس ، فاننا يمكن فهم اللغة التجريدية بانها اتجاه عميق نحو صور خالصة و مجردة وكلية لموضوعات الادب و عوالم الجمال و الشعور و الاحساس و المعنى ، التي تعصف بنفس الشاعر و تلهمه ، و تختلف هذه التعبيرية بشكل واضح عما يتجه نحو الجزئي من تجرية و جماليات و موضوعات قريبة ، و ينعكس ذلك بشكل ملحوظ على لغة التعبير لان خصوصية الموضوع لها تاثيرها الحاسم في شكل اللغة التي تتحدث عنه ، فبينما الجلاء و الوضوح و القرب و الاحتفاء و المجاز التعبيري وحتى الرمزية الموظفة من سمات اللغة المعبرة عن التصورات الجزئية لموضوعات الابداع و الجمال الجزئية بلغة تعبيرية جزئية تشخصية ، فان التجسيد الخالص ، و التصورات الكلية و الرمزية المبتكرة و التحليق الحر و العمق البعيد من سمات اللغة التي تتجسد فيها التصورات الكلية لموضوعات الابداع و الجمال الكلية بلغة تعبيرية كلية تجريدية .
لا بد من القول و بشكل حاسم و واضح ان الانطلاق بالكتابة من العوالم العميقة و الكلية للمعنى و الشعور لا يكفي لتحقيق التجريد ، بل لا بد من ان يظهر اثر ذلك في اللغة ايضا ، و لا تكفي الرمزية مع توظيفها و حكايتها و وصفيتها ، بلا لا بد ان تكون في وضع الاشعاع و التوهج المرئي بدل الحكاية .
انّ من الامور التي حصل فيها شيء من الابتعاد هو اعتبار الكتابة نظاما زمانيا و هذا شيء لا يمكن المساعدة عليه ، بل الكتابة كما الرسم نظام مكاني ، بل جميع الامور الحياتية تنتهي الى المكان حتى الزمن نفسه و الزمنيات المحضة، لحقيقة واضحة ان جميع ذلك ينتهي في عملية الادراك الى التصوّر ، و التصوّر منتزع مكاني في جميع احواله و ان كان بمقدمات زمانية ، فالتمييز بين السمعي و البصري ان اريد به الزماني قبال المكاني انما هو تمييز بما هو قريب و ظاهر و ليس بما هو عميق و حقيقي . الالوان و المفردات ، بمكوناتها الظاهرية الفيزيائية السمعية و البصرية ، تخضع لعمية انتزاع تصوري ، فلا يتعامل في الحقيقة الا مع ما هو ذهني منها ، و انظمتها في العقل ، لها مجالات واضحة منها مجال قريب تشكلي تشخصي تحضر يه الشخوص و الاشكال الطبيعية ، و تكون المفردات و الألوان مجرد وسائل للتعرف على تلك الاشكال ، و الاعمال الابداعية بما هي خطابات قبل التجريدية كانت تسبح في هذا الفلك حتى في التعبيرية الاصطلاحية فانها انما عكست الصورة الداخلية للمحكي و لم تتجاوز مجال الحكاية هذا . خلف هذا المستوى في جهة العمق هناك مجال معنوي اخر للمفردات و الالوان تكون في وجودات حرّة خالصة ، في تشكلات هي انعكاسات مجردة لمجال التشكل و التشخص ، هذا المجال الخالص يفتقر الى التشكل و التشخص و انما هو وجود مجرد تعبيري للمفردات و الالوان و انظمة و علاقات فيما بينها بوجودها الخالص . وحلف هذا سكون عالم الجوهري و الوحدة العريضة .
اذن بالاضافة الى عناصر الابداع من الفنية و الجمالية و الرسالية التي يجب توفّرها في العمل الشعري الناضج ، لا بدّ ان تتصف لغة الشعر بصفات محددة اهمّها ان تكون تعبيرا عن عالم عميق للمعاني و الاحاسيس ، بوجوداتها الخالصة الحرة ، البعيدة عن التشكل و القصد ، ببوح كلي و كوني و انساني عميق ، بمفردات و تراكيب لا ترى فيها الا تجليات و تجسيدات لتلك العوالم و عناصرها من خفوت شديد للقول و الحكاية و التوصيل ، بلغة تشع و لا تقول . حينها نكون امام لغة تجريدية لغة الاشعاع التي تتجاوز مجال القول و التشخّص .
هوامش :
1- جريدة الاتحاد : الكاتب : كريستين زيباس ، التعبيرية التجريدية في فن الرسم الامريكي مجلة ايزني ارتكالس الترجمة :جريدة الاتحاد
2- محمد عادل زكي ، التجريد كمنهج للتفكير ، جريدة الحوار المتدن
3- نوري الراوي : تجديد اللغة الشعرية في الفن الحديث “اقترابات من شواطيء التجريد” مجلة نزوى
تقديرنا الكبير دكتور أنور على الموضوع القيم ..شكرا لك
شكرا لك احتنا وفاء السد دمت بكل الخير
موضوع قيم للتوسع والتطرق اليه بما انه تجديدي نود ان ترفدنا بكذا مواضيع للأستفادة مع تقديري الجزيل لما تكتب من درر وتنشر من كتابات لها دور كبير بوضع النقاط على الحروف بمميزات اكثر وضوحا