* مدرس علم النفس
كلية التربية – الحمدانية
مما لا شك فيه ان الهم الانساني في التقييم هو هم ازلي إن صح التعبير ، وهو يعد مؤشرا للإحساس بقيمة الذات self-worth ونظرتها الى ذاتها . ان هذا التقييم evaluation الذي يأتي من الآخر هو عامل مهم في تشكيل صورة الذات . ونجد ان لهذا التقييم اثره ؛ ان كان سلبيا او ايجابيا ، دوره في تشكيل صورة الذاتself-concept لدى الطفل منذ اعوامه الاولى حتى تمام نضجه النفسي وبمختلف مجالاته وابعاده . ويمكن القول الشيء ذاته وعلى المستوى السايكولوجي عن رغبة الشاعر في معرفة رأي الاخر في شعره ؛ على اساس ان الشعر يعد منجزا معرفيا من قبل الشاعر او يمكن القول انه سلوك ذات صبغة معرفية يعد بمثابة رسالة موجهة نحو الغير . ان فعل النشر .. نشر النتاج الابداعي هو بحد ذاته اشباع لجانبين مهمين لدى الشاعر . الاول هو الاشباع الاستعراضي النرجسي وثانيهما هو تحديد موقع الشاعر باعتباره شخصا مبدعا بين غيره من الاشخاص في مجتمعه . وحتى نتفهم هذه الاشكالية لنبدأ تسليط الضوء على ظاهرة تعد صورة من الظاهرة التي نتعامل معها ولكن بصورتها الانسانية العامة . وهي ظاهرة صورة الذات عند الطفل في مراحل نموه الاولى . ونحن نعلم ان الطفل يبدأ التعلم لأنماط السلوك السوي طبقا لمعايير بيئته من خلال انتقاله من السلوك العشوائي الى السلوك المنظم من خلال ما يسمى بعملية التنشئة الاجتماعيةsocialization او صيرورة الكائن البيولوجي كائنا اجتماعيا . وبهذا التحويل او هذا الانتقال يصبح هذا الكائن الجديد مهيأً الى ان ينظم الى عالم النحن الاجتماعي . وبالتالي سوف يمتلك ما يمتلك غيره من حقوق وواجبات وسوف يدخل عوالم السواء النفسي والاجتماعي . ومن خلال عمليتي الثواب والعقاب وما يرافقها من إشارات الاستحسان او الاستهجان سوف يكتسب من خلال عملية التمييز ما بين السلوك المقبول والسلوك اللا مقبول في بيئته الاولى .. اعني البيت ومن ثم بيئته الثانية (من الحضانة حتى المجتمع الكبير) . من هذا المنظور سوف يحتاج الطفل الى مواقف الدعم المستمرة من الاخر لتقويم سلوكه . فاذا كان الطفل لم يتلقى النقد او العقاب سوف يعتقد بان كل السلوك الذي يخرج منه هو سلوك سليم وصحيح وبالتالي سوف يقع في فخ الغرور والنرجسية و تضخيم الذات والعكس هو الصحيح اي ان الطفل الذي لم يذق طعم الاستحسان والمقبولية في حياته او على سلوكه سوف يكون ضحية لما يسمى بعقدة النقص والدونية ولا يعرف اي سلوك ينبغي ان يسلكه لكي يكون مقبولا لدى الاخر . وسوف يعيش طوال حياته سجين ذاته ويتمحور حولها ويجتر ما يجتر من مشاعر الضياع وفقدان التوجه السليم نحو الحياة . الشاعر لا يختلف عن غيره من البشر الا في امتلاكه هذه الحس الوجداني الشفاف ازاء العالم اعني ما يمكن تسميته بهاجس التعبير الشعري . لقد اختلف الباحثون وعلماء النفس وحتى الشعراء انفسهم حول ماهية هذه الملكة او هذا الهاجس الذي يلاحقهم ليل نهار (1) . والشاعر الناضج او اذا استخدمنا التعبير العربي ” الشاعر الفحل ” هو ذلك الشاعر الذي لا يخضع لأهواء ذلك الهاجس اللعين !! ولمغرياته المختلفة .. بل هو الذي يسير ذلك الهاجس من خلال تهذيبه وصقله وتخريجه بالصورة الناضجة والتي تستطيع ان تكشف او تعبر عن خفايا او لا شعور الشاعر . ولنقف عن مفردة الشاعر نفسها لكي ندرك انها واحدة من مشتقات مفردات الشعور . فهو يشعر شعورا فهو شاعر . الشاعر بهذا المعنى يمتلك شعورا مرهفا ازاء ما يحيط به يختلف كما ونوعا عن من حوله الذين يمرون بنفس الخبرة او يقفون ازاء ظاهرة معينة من دون التأثر بها . الشاعر وحده هو الذي يمتلك هذا القدر الرفيع من هذا النوع من الشعور بحيث يحيله او يصبه بقالب لغوي له قواعده وقوانينه المعروفة والتي يطلق عليها الشعر . ومعلوم ان الفروق الفردية في السمات والقدرات تلعب دورها في اظهار هذه القدرة عند هذا الشاعر وبهذه الصورة عن ذاك الشاعر . ولذلك كان العرب قد قسموا الشعراء طبقا لقدرتهم الشعرية الى شويعر وشاعر وشاعر فطحل وشاعر فحل وغير ذلك من التسميات او التقسيمات . وسواء ادرك العرب الاسباب النفسية وراء تلك التسميات ام لم يدركوها فأنها تسميات قائمة على اساس الفروق الفردية في امتلاك الملكة الشعرية وما يلحقها من متطلبات اخرى مثل القاموس اللغوي ، الخيال ، عمق التجربة الشخصية وثراءها وغيرها من العوامل التي تسهم في خلق شاعر اصيل ومن ثم ظهور نتاج شعري يتسم بالأصالة والفرادة والعمق . اذن الشعر لسان الشاعر ووسيلته للتعامل او واحدة من تلك الوسائل التي يمتلكها الشاعر للتعامل مع المجتمع . وما نريد الوصول اليه هو ان الشاعر لا يولد شاعرا دفعة واحدة . على الرغم من انه يولد وهو يمتلك هذه القدرة على قول الشعر . هذه القدرة ان لم تصقل وتهذب وترعى لا يمكن ان تدعى شعرا . اذكر بهذه المناسبة عبارة لأستاذة لي ايام دراستي الجامعية الاولى في احد حواراتي معها عندما سئلتها ” فيما إذا كان بيتهوفن لم يظهر في النمسا ؛ البيئة الموسيقية العظيمة ، بل ظهر في قبيلة بدائية لا تعرف الموسيقى البتة ؟ فأجابت كان سيكون افضل عازف طبل في تلك القبيلة ” (2) . صحيح ان جواب هذه الاستاذة كان من انصار الوراثة وليس البيئة ؛ العاملان الاساسيان لظهور وتشكيل القدرات والسمات لدى الشخصية الانسانية ، الا انه لا يمكن اغفال دور البيئة وعواملها على ذلك التشكيل . على اي حال فان هذا الموضوع لم يحسم بعد على الرغم من وفرة الدراسات والبحوث في مجال تأثير الوراثة او البيئة على السلوك . نستطيع ان نقارن بين الشاعر والشجرة . ما قيمة شجرة عملاقة وافرة الاوراق والاغصان لكنها عاقرة لا تثمر ..؟؟ . المثل ينطبق على الشاعر تماما . ما قيمة الشاعر الذي يمتلك حسا شعريا وخيالا واسعا عميقا الا انه لا يستطيع ان يترجم او يحول ذلك الخيال الى صورا شعرية تعمل عملها الاخاذ لدى المتلقي ؟ انه شاعر عقيم بالتالي . لا يمكن وصفه بشاعر بحال من الاحول !! . هنا يقع الشاعر في محنة نفسية قاسية وهي موقفه من المتلقي وموقف المتلقي منه . واذا خدع الشاعر نفسه واعتبر اي متلقي لشعري بانه متلقي بكل ما تعنيه هذه المفردة من معنى فهو مخطئ إيما خطأ . عليه ان لا ينبهر بكم المتلقين بل بنوعهم . قلنا ان النشر او عملية اشهار النص أو اشاعته يعد اشباعا لنرجسية الشاعر كذات تحتاج الى تقييم واعجاب واطراء واستحسان . هنا الشاعر قدم ما لديه من مخزون ومتراكم ومكبوت و..و…و .. . والشاعر حينما يتلقى استحسانا جمعيا وهو يلقي ما عنده سوف يحصل على النشوة ecstasy التي تشبه تلك النشوة التي ترافق تناول بعض العقاقير المؤثرة على الشعور . وسوف ينسى كتحصيل حاصل ما نوع الانجاز الذي قدمه وهل هو بالفعل يمكن تسميته انجازا . ويستمر الشاعر تحت تأثير تلك النشوة في وجود عاملين هما :-
1- الاستحسان والاطراء المستمر من دون الاتكاء على اساس موضوعي .
2- غياب للمتلقي الناضج الذي يتلقى النص تلقيا سليما وموضوعيا . (الناقد الموضوعي الناضج ، العلمي الاكاديمي) .
ولا اريد ان احدد طبيعة هذا المتلقي اكاديميا او معرفيا وينبغي ان يكون معلوما ان حكم هذا المتلقي او ذاك يبقى حكما نسبيا يعتمد على نوع التأهيل العلمي والتراكم المعرفي وحيادية اطلاق الاحكام وهذه نقطة في غاية الاهمية في عملية تقويم لهذا النص او ذاك . وكلما اقتربنا من الحيادية كلما اقتربنا من الموضوعية والعلمية . وحيادية الناقد تتجلى بقوله ان قراءته ليست حكما قطعانيا على النص بل هي مجرد اثارة معرفية للغير لا اكثر . وكثرة الاثارات (القراءات) دلالة على اصالة النص وحيويته وفردته وهو كما يطلق عليه في منظورات النقد الحديث ، كما هو معروف ، ب” النص المفتوح ” مقابل النص المغلق الذي لا يحتمل الا على اقل القراءات الممكنة او المحتملة . الشاعر ليس سلطة . النص هو وحده من يمتلك سلطة التأثير على الوعي الجمعي (3) بأسلوبه وجمالياته وعمق خطابه وثراء رسالته وهو القادر على اخذ المتلقي الى عوالم مختلفة ومتباينة . انه مثل الحصان الذي يجر العربة لا العربة التي تجر الحصان !! . من هنا ثقة الشاعر بنفسه وبقدراته الشعرية وبمخيلته وثراءها وبقاموسه اللغوي وبكثافة تجاربه وخبراته الوجدانية والانفعالية والحياتية على وجه العموم . الا ان هذه الثقة ينبغي ان تكون ثقة الطفل النرجسي الذي لا يجد في قاموسه عبارات مثل ” هذا غير مقبول .. هذا غير صحيح .. هذا في غير موضعه .. هذا خطأ .. هذا لا يجوز .. وما الى غير ذلك من مفردات وعبارات تدل على عدم رضا وقناعة الآخر . مثل هذا الطفل لا يعرف ولن يعرف ما هو مقبول وغير من مقبول من انماط السلوك السوي وغير السوي . صحيح ان لحظة انتاج النص لحظة عسيرة وصعبة وجميلة ورائعة في الوقت ذاته . لقد شبه البعض ، مجازا بلا شاك ، لحظة ولادة المنجز الابداعي ايا كان شكله ، بلحظة الدجاجة وهي تبيض بيضتها !! . فهي تملأ العالم ضجيجا وصياحا .. انه الم الولادة وعسرها ومتاعبها . وبعد ذلك تأخذ بالتبختر!! تعجبا واندهشا وكبرياءا … ومن يجرأ ان يأخذ تلك البيضة المولودة منها .. ؟؟ اليست هي وليدها المنتظر ؟؟ . هكذا هو الفعل الابداعي على وجه العموم (4) . هكذا ينظر المبدع ؛ شاعرا او روائيا او قاصا او رساما او نحاتا او موسيقيا . وكلنا يعلم من خلال اليوميات او المذكرات التي تركها لنا كل المبدعين المأساة والعذابات التي تعرضوا لها اثناء عملية الابداع الخلاقة والاصيلة . ويعز على المبدع ان ينتهي عمله الذي انتهى من تشكيله او انهائه الى مصير مؤلم . نذكر في هذا المجال حادثة النحات الايطالي الكبير ” مايكل انجلو ” عندما انتهى من نحته لتمثال ” موسى ” والذي استغرق منه وقتا طويلا فوجه هذا النحات العظيم معوله على تمثاله بعبارة تدل من الناحية السايكولوجية على المرارة النرجسية ازاء الخلق والابداع الفني فقال له عبارته الخالدة ” انطق …” فسقط التمثال محطما .. هذه الصرخة التي وجهها انجلو انما تدل على عظمة ما صنعته يداه انجلو فتأسف ان هذا التمثال العظيم بقي تمثالا حجريا ولم ينطق !! . ينبغي ان تكون نظرة المبدع ؛ اي مبدع ، الى ذاته مثل نظرة هذا النحات العظيم وموقفه من موقف ابداع هو مثل موقف انجلو من تمثاله موسى . الا ان هذا لا يعني دعوة الى تبني مثل تلك النرجسية في العمل الابداعي . العمل الابداعي لا يعرف الحدود ..كما لا يعرف الانتهاء او الكمال .. من هنا موقف المبدع من النقد والتقويم او القراءة والتأويل . فالمبدع حينما ينشر نصا ما ؛ شعرا او نثرا او رواية ، لا يصبح نصه هذا ملكا له . النص صار بحوزة الآخر .. قارئا .. مؤولا .. شارحا .. متلقيا .. متذوقا .. معجبا .. مستحسنا .. مستهجنا .. أو لا مباليا حتى .. ينبغي على المبدع ذو الخطاب او الرسالة او القضية ان يمضي في طريقه غير أهاب لما يعترضه او يواجهه متخذا من مدرسة الشعر او الفن هدفا نهائيا له . هذه المدرسة لها بداية وليست لها نهاية . سوف يلتحق المبدع في الصف الاول من تلك المدرسة ولن يتخرج منها الا وهو تاركا بصمته الابداعية في سجل تلك المدرسة .. وذلك هو مؤشر تخرجه ونجاحه وتأهيله لأن يكون في معسكر المبدعين . الناقد او المقوم او القارئ او المؤول هم عقبات وحواجز ومطبات في ذلك الطريق الوعر .. الشائك .. الصعب .. اعني طريق الابداع .. على المبدع اذن ان يلتزم الصمت والشجاعة حاملا ابداعه بين يديه ولا يستجدي نقدا او تأويلا او قراءة او شرحا بل ينتظر ويبحث عن من يرشده الى الطريق السوى نحو الابداع . بهذا يكون مبدعا اصيلا يبني ابداعه مثلما يبني ذاته . قديما قال سقراط : اعرف نفسك .. واليوم نقول : اعرف ابداعك !!
الهوامش :-
1- لكاتب هذه السطور معالجة نفسية لهذه القضية وهي تحت الانجاز وبعنوان ” عذاب الشعر : رؤية نفسية ” .
2- هي السيدة ” امال صبري طعيمه ” مدرسة علم النفس في كلية الآداب – الجامعة المستنصرية عام 1981-1983 .
3- ” سلطة النص : قراءات في توظيف النص الديني ” هو عنوان كتاب للباحث المصري الدكتور عبد الهادي عبد الرحمن والصادر عن المركز الثقافي العربي عام 1993 ، بيروت ، لبنان .
4- يجد القارئ وصفا لمراحل العملية الابداعية وخصائصها في كتب علم نفس الابداع وهي كثيرة ومعروفة لدى القارئ العام والمتخصص على حد سواء فليراجعها ان شاء ذلك .