إشارة :
احتفاء بتراث الفيلسوف العراقي الراحل الدكتور “مدني صالح” ، وبمساهماته الفذّة في الثقافة العراقية والعربية ، تبدأ اسرة موقع الناقد العراقي بنشر هذا الملف الخاص عنه ، والذي تدعو الأخوة الكتّاب الأحبّة إلى المساهمة فيه . وسيكون الملف مفتوحاً من الناحية الزمنية على عادة أسرة الموقع حيث لا يتحدّد الإحتفاء بالفكر بمساحة زمنية معينة .
المقالة :
Alihakim66@yahoo
في ما مضى من أيام ، وسنوات ، كنت ، كما كل عراقي بعيد عن وطنه، أستحضر بعض الشخصيات التي تظل تلازم الفرد أبداً، ومن بين هؤلاء كان الأستاذ مدني صالح . كما أنه يحضر في كل حديث مع صديق، قاسمني فترة الدراسة، والمعرفة المشتركة به، نسترجع فيه بعضاً من أسماء تلك السنوات. وكنت أتساءل مع نفسي أين هو الآن مدني صالح؟ وآخر ما عرفته، ومن خلال هذا الموقع الذي أبعث إليه هذه السطور، أنه رحل عن الدنيا والعراق في التاسع عشر من تموز أقسى الشهور.
الكثيرون سمعوا عن مدني صالح ، والكثيرون قرؤوا له، فهو أستاذ الفلسفة، الذي عني بالأدب، وهو أستاذ الفلسفة الوحيد تقريباً الذي داوم على الكتابة في الصحافة، وفي موضوعات أدبية، غالباً ما تكون لغتها، وأفكارها، غريبة ليس فقط على قارئ صحيفة، بل حتى على متخصص في الفلسفة ذاتها. إذ يكاد يكون ملغزاً في ما يكتب، بل، وهذا ما خبرته لبعض الوقت، ملغزاً في ما يقول.
وكان ملغزاً كما أظن بتعمد، وكان أيضاً ساخراً في (ومن) سنوات الجدية المتوحشة. فلكي يعرّف شيئاً ما يزيده غموضاً، في رحلة منهكة من السلب والنفي والتجريد، ثم يختم بالقول: إنه هذا. يجسد مدني صالح الصورة النمطية الشائعة عن الفيلسوف: إنه المهموم بما لا يعرفه، همٌ قادته إليه المعرفة، فانعكس ذلك على حديثه، وحركته، ومشيته، فيبدو لك كما لو أنه لا يرى الآخرين، لا يرى ما حوله، لأنه لا يرى حتى نفسه. ثمة فكرة ربما كانت تقلقه من بضع ليال، غير قادر على توطينها، أو ترويضها بمنهج، كما يفعل حسام الآلوسي، لأن مدني صالح وضع قدميه في ساحة الشعر والأدب.
تعرفنا عليه طلبةً في قسم الفلسفة بجامعة بغداد، كلية الآداب، وفي المرحلة الثالثة على وجه التحديد، أي في العام الدراسي 1986 ـ 1987. وأمضينا قسطاً كبيراً من هذه السنة الدراسية يدرّسنا (بمعنى خاص جداً) قصة حي بن يقظان لابن طفيل، وكتاب تدبير المتوحد لابن باجة.
فكان كما بدا شديد الاعجاب بقصة ابن طفيل. فمدني صالح، أعني الآن المرحوم الأستاذ مدني صالح، لا يرى الفلسفة إلاّ بعين الأدب والأديب، غير شغوف بمفاهيمها المجردة، أو لنقل يريد أن يستدرج هذه المفاهيم إلى عالم الحياة من خلال الأدب، ولكن ليس أي حياة، إنما الحياة التي يراها هو.
قبل هذه السنة الدراسية لم نكن نرى مدني صالح في قسم الفلسفة، كنا نسمع عنه، ونراه أحياناً في أقسام أخرى، حيث يدرّس الفلسفة لأقسام غير الاختصاص، وهذه سياسة درجت عليها الكلية لإبعاد من لا ينسجم مع توجهاتها إلى خارج حدود قسمه الأصلي.
لم نكن نقف عند حدود ما كتبه ابن طفيل في قصته الفلسفية حي بن يقظان، إنما كنا نجول في كل ما يمكن أن يخطر على بال طالب وهو يتأمل في صورة هذا الكائن، أعني حي بن يقظان، من حيث ولادته، ونموه، وقدراته، وحدود معرفته. فترانا نقفز مرة إلى الوراء نقف بين الزائلات وعيوننا نحو عالم المثل الأفلاطوني، ومرة إلى الأمام محشورين بين ممكنات ما يُعرف نظرياً (العقل النظري) وما يُعرف عملياً (العقل العملي) حسب التوصيف الكانتي. سياحة متاحة، تكاد تكون نوعاً من التمرين الذهني يهبه لك، ويشاركك فيه، أستاذ يعشق الأدب، فيجوز بما لهذا الأدب من خيال لا زمني محدداتِ الفكرة الفلسفية التاريخية…
نعم هكذا أراه اليوم، وهكذا أظنه كان يريدنا أن نفعل. درسه الذي يلقيه بصوته الواطئ، الأجش، غير المسموع إلاّ لمن يريد أن يتسمع، درس ممتع، فأنت تكون رفقة أستاذ يريد أن يتعلم معك!!
لم يكن يهمه عدد من يحضر من الطلاب، وهذه مهمة جنّد لها بعض الأساتذة أنفسَهم بمثابرة عجيبة، ولم يكن يهمه أيضاً عدد من يغادر منهم قاعة الدرس، بل لم يكن يهمه من لم ينتبه لدرسه، ولكنه كان معنياً بمن يتابع كلامه. ويجري ذلك كله ولم أره أبداً قد فارقته الابتسامة، التهكمية أحياناً، والمحيرة أحياناً أخرى، ولكنها في جميع الأحيان ابتسامة تشعرك بألفة مع هذا الكائن الذي رحل الآن.
كان البعض من الأساتذة قد استعذب خطاب السلطة السياسية، فصار بوقاً لها، لماذا لم تحضروا مسيرة أمس؟ لماذا غبتم عن ندوة أمس؟ بل إن أحدهم غرف بنهم حتى من لغة البيانات العسكرية، فكان يقول: “ولم يبق في قلب رابعة العدوية موطئ قدم لعشق الجسد”. وهكذا تنقضي المحاضرة. وبعض آخر، حمل نفس السلطة في مسلكه وتصرفه ودرسه وإن زعم بعدم انتمائه إليها، ولكنه كان يريدها لأغراض في نفسه؛ عمو أنت من أي مدينة؟ عمو أنت من أي قبيلة؟ وهكذا تنقضي المحاضرة. أما ذلك الطيف الجميل الأنيس الآخر الذي يجسده مدني صالح، والعظيم حسام الدين الآلوسي، وأساتذة (آخرون، أخريات) كانوا يشعرونك في محاضراتهم بعالم إنساني رغم كل الوحشية التي تحيط بالجميع. مدني صالح لم يكن يجسد اي سلطة من أي نوع كانت، حتى سلطة الأستاذ في صفه. وأنا أزعم أن هذا الصنف الإنساني من الأساتذة كان يفعل ذلك ليس فقط لأنهم كانوا يشعرون إنسانياً بذلك الجحيم، بل كانوا يريدون أن يصونوا أنفسهم من اي تلامس ولو من بعيد قد يجسد سلطة من نوع ما. فكان سلوكهم مع طلبتهم تعبيراً خاصاً لرفض أشكال السلطة القبيحة. وهؤلاء فقط، دون غيرهم، من سيظلون في ذاكرة الفلسفة بالعراق، وفي ذاكرة طلبتهم…
مشيته المتهادية، وأوراقه بيده اليسرى مضمومة إلى صدره، وابتسامته التي لم أره بدونها، حتى عندما يكون الصف ضاجاً غير مستمع لما يقول، والباب مشرعاً يحق لكل طالب يريد الخروج أن يخرج، ويقول ساخراً: “من حقهم أن يخرجوا، أو من حقهم أن يتكلموا، فأنا لو كنت في محلهم، وبجواري بعض الجميلات ما سكت”!!
وانعقدت بيني وبينه علاقة سواء داخل الصف الدراسي، أو خارجه، ولكنها علاقة وقفات عابرة، وقول بضع كلمات؛ بضع كلمات لا أكثر.
مرة صادفني خارج قسم الفلسفة ، فأوقفني ، وسألني : ” علي ما هذا ؟ مشيراً باصبعه ناحية بناية قسم الفلسفة .. “قسم الفلسفة” ، قلت له ، فردّ عليّ : ” في هذا القسم تجد كلّ شيء ، إلاّ الفلسفة”.
وداعاً أيها الأستاذ النبيل
جميل جدا أن نستحضر في واقعنا علمائنا ومفكرينا فكراً وامتدادا بما يسمح للغوص في المعاني والمباني التي وطنوا أنفسهم عليها…
شكراً علي حاكم