عبدالزهرة زكي : مدنــي صالــــح (ملف/10)

abdulzahra zaki 3لم تكن بيني والأستاذ مدني صالح، رحمه الله، أية معرفة مباشرة حين التقيت به عام 1995. منذ سنوات، قبل ذلك العام، كنت أقرأ له ما كان ينشره في الصحافة، لكن لم نتعارف حتى زارني يوماً في جريدة الجمهورية، وقبل الزيارة كان قد أرسل للنشر مقالين طويلين..
ومن خلال متابعتي، كان لدي تصوّر واضح عما اختطه مدني صالح لمقالاته من أسلوب امتاز بجزالة التعبير اللغوي وحريته مع سعي للمزج بين ما هو أدبي وفلسفي وبما جعل من الفلسفة موضوعاً مقروءاً في الصحافة اليومية، وهذا وحده إنجاز ليس باليسير على أي كاتب ينشغل بالفلسفة ويدرّسها. وعبر تلك الأسلوبية ومن خلال تلك الموضوعات نجح مدني في تمرير الكثير من آرائه النقدية، سواء في حقل الثقافة أو في مختلف مجالات الحياة، وذلك برشاقة وخفة دم تخفف جانباً من أية غلواء قرائية متوقعة في تلك الأيام. بعد الفراغ من قراءة المقالين قدّرت أن حرجاً ما يمكن أن يتسبّب به نشرهما، مع هذا تجرأت ونشرتهما بفارق أسبوع بين المقال الأول والثاني. لم يحصل مثل هذا الحرج، فقد مرّا بسلام، لكني فوجئت بموظف الاستعلامات يتصل بي هاتفياً صباح اليوم الذي تلا نشر المقال الثاني ويبلغني أن الأستاذ مدني في الاستعلامات ويتعذر عليه الصعود لك ويرجو أن أجيء إليه.
نزلت مباشرة لينهض أستاذ الفلسفة الكبير ونتعانق، وفي أثناء العناق طلب مني، بحذر واضح، أن نغادر الجريدة إلى مقهى الجماهير، فما كان مني إلا أن أدعوه، بصوت مسموع من الجميع وبابتسامة، لتناول الشاي في المقهى ما دامت الشيخوخة تحول دون الصعود إلى الطابق الثالث في بناية الجريدة.. في الحقيقة حاولت تفادي الإرباك الذي كانت قد خلفته دعوته الحذرة في داخلي، أقلقني من احتمال أن يكون قد بلغه شيء مريب بصدد المقالين أو أحدهما، بدأت أشك بما كنت ظننته مروراً آمنا للمقالين، وهذا ما جعلني، في أثناء الطريق بين الجريدة والمقهى، أقلّب الأمور على أكثر من محمل متوقع وغير متوقع.
madani saleh 2في المقالين اللذين نشرتهما كان مدني قد أتى على تغير واضح في موضوعاته وحتى في أسلوبه. كانت الحياة تحت الحصار قد حطمت كل شيء، وقبلها كانت حرب 1991 الخاطفة قد فعلت في البلاد والعباد ما لم تفعله حرب الثماني السنوات، ولم تكن كتابة مدني صالحبمنأى عن التغيير. كان حقيقةً هذا هو ما أثار إعجابي في قدرته في الكتابة على الاستجابة لعواصف الأيام، زادت ثقتي بحرية مدني وشجاعته، وهو ينزل بالفلسفة إلى السوق والبقالين والشحاذين والجوع والألم ومرارة العيش وتغير الطباع وتردي القيم اليومية المباشرة لينتج مقالين، هما من أجمل ما قرأت من كتابة لعراقي عن حياتنا في تلك السنوات القاسية.
في المقهى، سألته عن هيت، مدينته، وعن الجامعة والكتابة.. بدا لي واضحاً في عبوره الإجابة عن هيت والجامعة واستثماره فقط لسؤالي عن الكتابة أنه جاء ليقول شيئاً محدداً بصددها: ” عيني عبدالزهرة، أنا أعرفك من خلال أصدقاء مشتركين، وهذا ما حفزني لأبعث لك بالمقالين، لكن الأصدقاء أنفسهم نصحوني بأن أخشى عليك، لذلك جئت لأعتذر عن الكتابة في الجمهورية ولأتحول عنها إلى صحيفة أسبوعية أكثر حرية، لا أحد يقوى على التحرش بصاحبها..”. لم أخطئ في عينيه، وهويتحدث، روح أب حريص، فكان ذلك آخر ما نشره في الجمهورية.. تواصل مع صحيفة أسبوعية قبل أن يتوقف عن النشر، بينما استمرت لقاءاتنا الإنفرادية حرة وصريحة تتكرر كل شهرتقريباً في صباحات مقهى الجماهير

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

د. قصي الشيخ عسكر: نصوص (ملف/20)

بهارات (مهداة إلى صديقي الفنان ز.ش.) اغتنمناها فرصة ثمينة لا تعوّض حين غادر زميلنا الهندي …

لا كنز لهذا الولد سوى ضرورة الهوية
(سيدي قنصل بابل) رواية نبيل نوري
مقداد مسعود (ملف/6 الحلقة الأخيرة)

يتنوع عنف الدولة وأشده شراسة ً هو الدستور في بعض فقراته ِ،وحين تواصل الدولة تحصنها …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *