حين كبر البغل وشب عن الطوق ، كما يقال ، كتب مذكراته التي اختصر فيها معاناته . كتب :
وجدت نفسي في ملكية حمّار لايرحم في بيئة غريبة الاطوار تعتبر العمل من العيوب التي يجبر عليها جميع العاملين . وتكون المكافاة هي السوط الذي يقصم الظهر . ويؤلمني السوط ليس فقط لانه مؤلم يصفع الجلد صفعا ويكاد ينام فيه ، خصوصا في ايام الشتاء الباردة . بل لانه ياتيك من الخلف و من وراء الظهر من حيث لاتحتسب . وحين يمارس مالكي الجلف ، الفض ، الضرب لم يلمه يوما احد على ذلك بل وجد ان الجميع خرسان ساكتون وكان الامر لايعني احدا منهم او كانه امرا طبيعيا غير مستغرب . وحين يتفوه احد هؤلاء القليلون تجد صاحبه وقد مد لسانه سليطا حول امر لا يعنيهم من بعيد او قريب ، كما يقول هو ، لانهم يتدخلون في شان لايعنيهم . لانه اشتراه بماله وهو حقه كما يزعم . وحين تمادى احد المارة ونهر الحمّار على شدة ضربه لي ولان الرجل كان قويا ضخم الجثة وكان رياضيا فان الحمّار لم يتجاسر على الزعيق بوجهه كعادته ، خوفا منه وتقيّة . بل انه راح يقلبها نكتة في انني مجرد بغل قوي غبي لايخاف عليه احد .
بحثت عن امي لاشكي لها حالي وجدتها لاتشبهني فهي فرس وانا بغل . كانت امي تستخدم للركوب والسباقات . ولكن ابي كان حمارا مسكينا بائسا ضعيف البنية ، ضئيلها ، حتى انني رثيت لحاله عندما التقيت به ، مربوطا مثلي ، الى عربة يجرها . لاتتناسب مع حجمه لكبر حجمها وضالته ، في علوة من علاوي مواد البناء . سالت امي يوما ، وكانت مارة وفوقها رجل نبيل كما كان يبدو من هيئته . استاذنته في تركي مع امي لدقائق فتركنا وحدنا في غفلة من صاحبي الفضّ . فقبل راضيا .
قلت لامي ما الذي دعاها لارتكاب خطيئة ولادتي من حمار ؟ . حتى انني حين اسال عن والدي كنت اجيب قائلا ان اخوالي الخيول . لانهم يصمون الحمير بشتى الاوصاف . فالغبي عندهم حمارا . والصبور ومن يتحمل الاذى ، حمارا . والطفل المعاقب ومن يجلس في الشمس بارادته . كلهم يوصمون بالحمير . اجابتني امي قائلة :
– انها نزوة الشباب ياولدي ولم يكن لدي الوقت الكافي والارادة القوية ، ساعة النزوة ، لافكر فيما قد يحصل في الايام القادمة . واضافت امي :
– كانت الخيول كثيرة وكنت شابة جميلة ومطلوبة . لكن الخطيئة لايسكت عنها الا الحمار ، كما تبادر الى ذهني لحظتها ، وكان ابوك حمارا ابيضا و جميلا رغم انه يكبرني بسنين طويلة . و كنا قد القى بنا الحظ في اسطبل واحد .
سامحت امي والقدر على مافعلاه بي . فلقد وجدت ان المسامحة اكثر فائدة وراحة للقلب من حمل الضغينة والحقد . ولكن بمرور الوقت وتزايد المشاق وعنجهية صاحبي اكتشفت اشياء اخرى كثيرة . اكتشفت ان مايقتل المرء ليس هو العمل . فالعمل ومهما كان شاقا فكلمة او نظرة شكر وحمد وامتنان تكفي لازالة كل اثاره الشاقة . ولكن الجحود وسوط العذاب هو مايؤذي ويقتل . ففكرت في الانتحار بعد ان عانيت من مشكلة اخرى هي ام المشاكل . فالبغال تعاني مشكلتين ازليتين لاحل لهما لانهما تتعلقان بطبيعة الولادة . فالبغل يعاني اضافة الى ان والدته فرسا وهي انثى الحصان . الا ان والده حمارا . وهذا يدعوك الى عدم الانسجام . ولقد قضيت على هذه العقدة بالندرة والتندر فكما قلت لكم كنت اجيب من يسالني عن والدي وهو الحمار كنت اجيبه ” ان خالي هو الحصان ” .
المشكلة الاخرى التي لاحل لها الا الانتحار بالنسبة للذكر ، وعذرا لكم ، هي الاخصاء . فنحن معاشر البغال نولد بلا ذكورة ولا انوثة ، ولا اعضاء تناسلية لنا ، كما يعرف ذلك الجميع . فان تقتلك الحياة بمشاقها وتعود لتجد انثاك لتحدثها عما جرى لك في يومك وحين تنام تتوسدها بذراعك وتشعر بانفاسها الدافئة ، فهي ام النعم . فالانثى ذلك الكائن الصبور الجميل . هي اجمل الفضائل واوفرها . حتى ان من يتنعم بها يظن ان الاناث كائنات اخرى مختلفة تستحق الشكر والامتنان . لكني الوم من واشكو لمن انا الفاقد القديم الازلي لهذه النعمة و هذه الفضيلة ؟. اضافة الى ما يترتب خلفها من عقد نفسية تدعو المرء للانتحار . وفعلا كنت اسمع من اقراني وزملائي في العمل ان البغال الجبلية تلقي بنفسها من مكان مرتفع لتموت في الوادي . وكانوا يعتقدون ان سبب ذلك هو شقاء العمل . لكن الحقيقة هي ما اخبرتكم عنه . فمنذ شيبوبتي المبكرة ، وانا اعاني من هذه العقدة الدفينة .
اضافة الى ان الحمير والخيول حين ياتيها الولد تفرح . وحين اخبرت ابي بتلك الحقيقة ، وجدت له رايا مغايرا . قال لي ابي ” قيل للحمار افرح جاءك الولد فقال الحمار وعلام افرح وكل حمار يشيل حمله ؟ ” . واكد لي والدي هذه الحقيقة قائلا ” لاتوجد حقوق للحمير ولا تقاسم للعمل ! ” . يبدو ان الحياة جعلت من ابي حمارا حكيما .
بحث بغلنا المسكين عن مكان مرتفع يلقي بنفسه منه الى الوادي للتخلص من معاناته والامه . وبحث وبحث في اوقات فراغه التي يتركه فيها صاحبه ليتغذى على ازبال البيوت . لكنه لم يجد جبلا او واديا لينتحر . ولانه يعاني من الامه بصمت البغال فقد مات كمدا وحسرة .
ملاحظة : الغيت حسابي في الفيس بوك وتويتر . لاصدقائي ومن يود مراسلتي ايميلي :
“salam5336@gmail.com “
مسلم يعقوب السرداح : بغلٌ في محنة
تعليقات الفيسبوك