لقد كُتِب الكثير عن العواقب الكارثيّة لحرب الخليج عام 1991، وللحصار المفروض على العراق، وللنظام السياسيّ القمعيّ في البلاد؛ ولكن لم يُوجَّه إلا النزر اليسير من الانتباه إلى حالة الشعراء العراقيّين العديدين الذين اضطروا إلى العيش في المنفى في أصقاع شتّى من العالم، على الرغم من أنّ لدى هؤلاء الشعراء، الذين يمثّلون أيديولوجيّات متنوّعة، الكثيرَ مما يقدِّمونه من آراء حول محنة العراق في السنوات الأخيرة.
من الصعب أن نذكر رقماً موثوقاً به لعدد الشعراء العراقيِّين الذين يعيشون في المنفى. فطبقاً لتقرير نشرته وكالة الأسوشيتد برس للأنباء، ” فإنّ ثمّة مقولة قديمة مفادها أنَّ الشعر العربيّ وُلِد في العراق. والآن، مع وجود المئات من العراقيّين، شعراء ومثقَّفين آخرين، في المنفى، فإنّه بات من الواضح أنَّ الشعرَ العربيَّ أوشكَ أن يُقبَر أجمعه هناك.” (1997). وفي حين يبالغ هذا التقرير في مسألة انقراض الشعر في العراق، فإنّه يساعد على تأكيد حقيقتَين هامّتين:
الأُولى، الدور القياديّ والرياديّ الذي اضطلع به الشعراء العراقيّون تاريخيّاً، سواء في العصر الحديث أو العصور السابقة؛
والثانية، العدد غير المسبوق من الشعراء الذين هجروا العراق خلال العشرين أو الثلاثين سنة الماضية.
هذا، مع العلم، أنّ هذه ليست المرّة الأولى في تاريخ العراق الحديث التي يبحث فيها الشعراءُ العراقيّون عن منفىً لاعتبارات سياسيّة. فمن المؤسِف أنّ قيود الدولة التعسفيّة في ظلّ أنظمة مختلفة أجبرت معارضين وشعراء وكُتّاب وفنّانين ومهنيّين آخرين إلى مغادرة العراق واللجوء إلى أقطار أُخرى. ولعلَّ ما يميِّز الموجة الراهنة من المنفيّين العراقيّين هو عددهم الكبير الذي يفوق أعدادَ الموجات السابقة بكثير، وكذلك تشتُّتهم في أصقاع العالَم.
طلب العديد من الشعراء العراقيِّين اللجوء داخل وسطهم الثقافيّ، أي في الأقطار العربيّة الأخرى. ولكنَّ شعراء آخرين، ربّما أكثر عدداً، وجدوا ملجأً في الغرب: أوربا، واستراليا، والولايات المتّحدة الأمريكيّة، وغيرها. ولا حاجة بنا إلى القول إنَّ أولئك الذين انتهى بهم المطاف في الغرب هم أشدُّ معاناةً في التكيُّف للحياة الجديدة في المنفى. فإذا وضعنا جانباً الصعوبةَ الجليّة التي قاساها هؤلاء الشعراء عند انتزاعهم من عالَمهم المألوف، فإنّهم وجدوا أنفسهم محرومين كذلك من احتياجاتهم الأكثر جوهريّة التي تمدّهم بأسباب البقاء بوصفهم شعراء، تلكم هي الينابيع الوطنيّة لإلهامهم، والتفاعلات اليوميّة مع أصواتِ لغتهم وإيقاعاتها، والجماهير المتلقّية التي خلّفوها وراءهم. هذا بالإضافة إلى خيبتهم الناتجة عن إدراكهم أنَّ الشعر في الأقطار المضيِّفة لا يحظى بالأهميّة التي يتمتّع بها في ثقافتهم الأصليّة.
ولكي نتفهّم بصورة كاملة حالة الشعراء العراقيّين في المنفى الغربيّ، ينبغي أن ننظر إلى الرابطة الوثيقة بين الشاعر وجمهوره التي استمرت قويةً خلال الأربعة عشر قرناً الماضية. لا يوجد إلا عددٌ ضئيل من الدراسات الأمريكيّة التي تسعى لفهم أو تبيان أهميّة العلاقة بين الشاعر وجمهوره في المجتمع العربيّ. ومن هذه الدراسات الجادّة القليلة التي اطلعتُ عليها دراسة هربرت ماسون، وهو باحث أمريكيّ بارز ومستعرِب وشاعر ومترجِم. لقد كتب ماسون عام 1988 عن انطباعاته حول مهرجان المِربَد الذي عُقِد في بغداد في تشرين الثاني/ نوفمبر 1987 قائلاً:
” إنَّ الشعراء العرب هم من أرباب المسرح في تقاليد أدبيّة لم تعرِف، إلا مؤخّراً، الممثِّلين والكتّاب المسرحيّين. فالشعراء يقفون وحيدين على خشبة المسرح وليس في معيَّتهم من مُعين إلا ينابيع لا تنضب من ذكريات أرواحهم، وخيالهم، ومهارتهم، ونهم الجمهور وتشجيعه وتصفيقه. إنّهم يحيون ويموتون على المسرح الكبير بما يستطيعون من إثارة قلوب جمهورهم وجذبها إلى جانبهم.”
وتشتمل انطباعات البرفيسور ماسون على التمييز الواضح بين مواقف الغربيّين ومواقف العرب من دور الشعر في المجتمع. فيشير إلى أنّ ” الشاعر الأوربيّ أو الأمريكيّ، الذي درج على اعتبار الشعر عملاً أكاديميّاً أو كهنوتيّاً، عملاً خاصّاً وليس للتسويق، عملاً لا يمكن إخراجه مسرحيّاً أمام الجمهور؛ يستطيع أن ينظر إلى ذلك المهرجان بوصفه ملاذاً ذاتيّاً ” تقليديّاً” “.
ويُشبه الشعراءُ المنفيّون الأجيالَ السابقة من الأدباء العرب في المهجر ـ خاصّة في شمال أمريكا وجنوبها ـ من حيث تجشّمهم أعباء مهمّة شاقّة ترمي إلى إعادة خلق أو اختراع عالَمٍ يماثل عالمهم المفقود. إنَّهم يواصلون الإبداع في لغتهم القوميّة، على حين أنّهم يحاولون ـ في الوقت نفسه ـ التواصل مع الآخرين بلغة الأقطار المضيِّفة. ولكي يخفِّفوا بعض الشيء من صعوبات عزلتهم وألم الإحساس بالاغتراب، أسَّسوا، بالتعاون مع أدباء آخرين، عدداً من النوادي والحلقات الأدبيّة، والصحف، ودور النشر الصغيرة التي تساعدهم على الاستمرار في محاولاتهم الإبداعيّة. وقد برهن الشعراء العراقيون في المنفى بهذه المنشورات والإجراءات المذكورة الأُخرى، على نجاحهم النسبيّ في استعادة بعض المقوِّمات الرئيسة على الأقل لخلق عالَمهم المألوف، ذلك العالم المفقود.
ويبدو أنَّ عاملَين إضافيَّين أسهما في نجاح الشعراء العراقيَّين في محاولاتهم تلك:
الأوَّل، توفُّرهم على وسائل التواصل الإلكترونيّ، التي مكّنتهم من الوصول إلى قرّائهم أينما كانوا، ومن الحصول على المادّة اللازمة من دون خوف من الرقابة.
ويكمن العامل الثاني في أنّ نفيهم في الغرب وفَّرَ لهم فرصةَ تناولِ طائفةٍ عريضةٍ من الموضوعات، بانفتاحٍ أكثر وحرّيّة أكبر، بما في ذلك معارضتهم للنظام العراقيّ ولصدام حسين على الخصوص.
ومن أجل توضيح تلك الموضوعات، اخترتُ ستَّ قصائد لشعراء عراقيّين منفيّين حاليّاً في أستراليا، وألمانيا، والسويد، وبريطانيا. وبالإضافة إلى قيمتها الأدبيّة، فإنّ هذه القصائد المختارة تزوّدنا بفكرة عن الحدّة التي تعامل بها الشعراء العراقيّون مع همومهم، ومشاعرهم، وأفكارهم، وهم يجاهدون لمواصلة حياتهم ودورهم الأدبيّ في المنافي الغربيّة.
يمكن ملاحظة الموضوعتَين التوأمين، المُتمثِّلتين في البكاء على فراق الوطن وفي الإحساس بالانتماء إليه، في عدد من هذه القصائد المختارة. ويصدق هذا القول على وجه الخصوص في حالتي الشاعر السماويّ الذي هاجر مؤخَّراً إلى أستراليا، والشاعر الصايغ الذي هاجر إلى السويد. فكلاهما يندب بألم مُبَرِّح فراق الوطن، ويناغي أحلام العودة المراوِغة. وكلاهما يسرد بإيجاز ذكرياته السعيدة وكذلك الوقت العصيب الذي يمرّ به الوطن تحت وطأة نظام تعسفيّ قمعيّ. وسواء تغنّى المنفيّون العراقيّون بذكرياتهم السعيدة أو بكوا محنة وطنهم الراهنة وظروفه العسيرة، فإنّهم، كما يبدو، استسلموا لحقيقة مرّة وهي أنَّ لا خيار لديهم: إنّهم لا مفرَّ لهم من وطن يلاحقهم أينما ذهبوا، ويسكن عقولهم وقلوبهم حيثما حلّوا.
وكما يظهر من القصائد المختارة، فإنّ الشعراء المنفيّين استقوا كثيراً من الرموز والإشارات والتلميحات من جغرافية العراق وتاريخه الطويل ( السومريّين/ البابليّين/ الآشوريّين/ العرب المسلمين). أمّا النغمة التي تهيمن على قصائد المنفى بصورة بارزة وملفتة للنظر هي النغمة الحزينة، الغاضبة، العاطفيّة. ويبدو هؤلاء الشعراء أحياناً وقد استولى عليهم الاستسلام للإحساس بأنّ وطنهم لن ينجو من هذه المحنة ولن يعود كما عهدوه من قبل؛ وبعبارة أخرى، إنّه جنة مفقودة. هذه النظرة المتجهِّمة الكئيبة عبّرت عنها قصيدة سعدي يوسف ” رؤيا”.
بهذه النغمة الحادّة، يحاول هؤلاء الشعراء وكثير من الكتّاب العراقيِّين في المنفى أن يعبِّروا ليس عن معاناتهم الشخصيّة وإحساسهم بالفقدان فحسب ، وإنّما كذلك ـ وهذا أهمّ ـ عن التعذيب والإذلال والمعاملة اللاإنسانيّة التي تعرّض لها العراق وأبناء جلدتهم خلال العقود الأخيرة من السنين. لقد وَلَّدت الحرب الأخيرة على العراق ردودَ فعلٍ سلبيّة جداً لدى الشعراء العراقيّين والشعراء العرب الآخرين. ويكشف ما نُشِر حتّى الآن عن الشعور بالغضب والنقمة ليس على الحرب والاحتلال الأمريكيّ ـ البريطانيّ للعراق فحسب، وإنّما على نظام صدام حسين الاستبداديّ وبقية الحكومات العربيّة ومؤسّساتها كذلك. وكما لاحظ جاسبر مورتيمر، مراسل وكالة الأسوشيتد برس للأنباء ، في تقريره بتاريخ 19/5/2003، فإنّ الشعراء والفنّانين والكتّاب العرب يرون في الحرب على العراق ” أكبر صدمة لعالَمهم منذ أن هزمت إسرائيلُ ثلاثةَ جيوش عربيّة عام 1967″.
مِن المُبكِّر وضعُ تقييم دقيق لتوجّهات الشعر العراقيّ في المستقبل بصورة عامّة، غير أنَّ ثمّة ما يكفي للدلالة على أنَّ التقاليد الشعريّة المُتجذِّرة بعُمق ستنشغل بصورة كبيرة في موضوعات التحرير الوطنيّ ومقاومة الحلول التي تفرضها القوات الأجنبيّة. وقد أعرب الشعراء العراقيّون في المنفى عن شكوكهم في إنهاء غربتهم والعودة إلى أرض الوطن تحت الاحتلال. ويبدو أنّهم ممزَّقون بين مشاعر الرضى والاستنكار لأسباب مفهومة: فالعراق تحرَّر أخيراً من حكم صدام حسين، ولكنّه وقع ضحية ما يعتبرونه شكلاً جديداً من أشكال الاضطهاد الاستعماريّ، وهذا ما ظهر جليّاً في عدد من قصائد أمل الجبوريّ وسعدي يوسف.
قصائد مختارة
عبد اللطيف أطيمش (4):
وطن بلا أصدقاء
لقد أخطأتكَ المقاديرُ..
حينَ وُلِدتَ زمانَ الفجائعِ، يا وطني.
أيا بلدَ الزرعِ والماءِ،
( ما بينَ نهرين، أو بينَ سيفين )،
تشكو الظمأ
وتشكو المجاعةَ،
مُذ رافداك استحالا دما
فحتّى متى ـ آه يا وطني ـ
تجرعُ العلْقما..؟
تَشرَّدَ في الأرض ـ يا وطني ـ
أهلُكَ الطيِّبون.
فيا مُدُنَ الأرض .. مُدِّي المَدى
ألا اتَّسعِي لهُمُو،
يا دروبَ العزاءْ
ألا انشعبي ..
مثلما انشعبَ القلبُ،
من خيبةِ العونِ بالأصدقاءْ.
فوسِّع لهم، يا عَراء الحدودْ
فأنَّهمُ اليومَ،
قد نصبوا خيمةً للبكاءْ.
لندن ـ مارس 1991
الموتى لا يخافون
خرجتُ.. كمن سارَ في نومهِ..
أيقظتْني الكوابيسُ،
رحتُ أفتشُ عن وطني..
بين شتَّى العوالمِ، في الأرضِ، في دَرَجات السماءِ
أُصلِّي .. أرتِّلُ كلَّ دعاءْ
على كتفي أحملُ الأضرحةْ
وجيلاً من الشهداءِ اليتامى
وجيلاً من الشهداءِ القدامى
وآخرَ ينتظرُ المذبحةْ
* *
سيذهبُ جيلٌ..
ويُقبلُ جيلْ
ولكنَّ يوماً سيأتي
ويُبعثُ كلُّ شهيدٍ وكلُّ قتيلْ
سينتصبونَ شواهِدَ فوق القبورْ
جَسورين كالموتِ..
إنّ بني الموتِ يَستيقظونْ
حَليقي الرءوسِ،
وقد خرجوا بالكفنْ
كأنهمو خرجوا مِن وراء الزمنْ
يصيحون : يا وطنَ الأبرياءْ
أكنتَ لنا جدثاً أم وطنْ؟
الجزائر ـ مارس 1986
أمل الجبوري(5):
أنخدوانا(6)
” الآخرون ” الأقسى من الطغاة والعسكر
حان الوقت
أيّتها الأبراج، لتتركي جسد السواد،
أرض التنهدات
يكفي ما حرثتِ من الأموات
وأنتِ تجترّين من المكائد والنهارات
المتفسِّخة
حان الفراغ أنْ يملأ عروقي المتهدلة
بالندم
على ما فاتَ من قلبيَ المهجورِ في معبد
البافاريين
مثل قمر خانه ضبابٌ عابر
أيّتها الأبراج
لا عاصمَ وإياك غير صمتي وصحرائك
الكاذبة
ارحلي.. افعلي ما شئت
ضعيني فوق فَمِ الريح
وزِّعي لذّتي على خارطةِ الغيوم
والوشايات
قولي ما شئت
ها هنا مرَّت.. ها هنا رقدت
يصرخ في ضميرها الجان
في شفتيها حدود أوروك وسرُّ أكد
في جسدها كلّ الجنائن المعذَّبة
هي تاجُ الخرائب
لم تكن سوى درة سركون وكاهنة
الشتات
قولي ولا تنسي ألواحك الملعونة
إنّ قلب انخدوانا كان أكبر من أناجيل
الطغاة.
ميونيخ 1998
يحيى السماوي(7)
أذلَّني حُبِّي
أذلَّني حُبّي
وجرحيَ الممتدُّ من جَدائلِ النخلِ
إلى أرغفةِ الشعبِ
أذلَّني حُبي !
وحينما حاصرني المغولُ ذاتَ ليلةٍ
عبرتُ سورَ الوطنِ المذبوحِ
زادي قَلَقي
وكوثري رُعْبي !
طوَّفْتُ في حرائقِ الشرقِ
وفي حدائقِ الغربِ
وليسَ من صُبْحٍ ومن صَحْبِ
إلا بقايا من رمادِ الدارِ
من طينِ الفُراتَينِ على ثوبي !
أذلَّني حُبّي
فتّشتُ، في ذاكرةِ الأيامِ، عن طفولتي ..
فتَّشتُ، في كلِّ نفاياتِ حروب القهر، عن مدينتي..
وعن جوادٍ خارجَ الرَّكْبِ
فتَّشتُ عن حبيبتي بين سبايا العصرِ..
عن مدينتي..
فتشتُ عن أرومتي
وعن فُراتٍ ساحرٍ عَذْبِ
وفجأةً
رأيتُ نخلةً على قارعةِ الدَّرْبِ
هززتُها
فانهمرَ الدمعُ على هُدْبي
وعندما هززتُ جِذْعَ الأرضِ يا ربِّي
تساقطَ العراقُ في قلبي !
سعدي يوسف(8)
رؤيا
سوف يذهبُ هذا العراقُ إلى آخرِ المقبرةْ
سوف يَدفَنُ أبناءه في البطائح، جيلاً فجيلا
ويمنحُ جلادَه المغفرةْ…
لن يعودَ العراقُ المسمَّى
ولن تصدحَ القُبَّرةْ..
فامشِ ـ إنْ شئتَ ـ دهراً طويلا
وادعُ ـ إن شئتَ ـ كلَّ ملائكة الكونِ
كلَّ شياطينه،
ادعُ ثيرانَ آشورَ
عنقاءَ مُغْرِبةً…
ادْعُها
وانتظرْ في دُخْان التهاويلِ
معجزةَ المَبخرةْ.
عمّان 8/3/1997
عدنان الصايغ(9):
يوليسيس
على جسرِ مالمو
رأيتُ الفُراتَ يمدُّ يديهِ
ويأخذُني
قلتُ أينَ
ولم أُكملِ الحُلمَ
حتّى رأيتُ جيوشَ أُميَّة
من كلِّ صوبٍ تطوّقُني
وداعاً لنافذةٍ في بلاد الخراب
وداعاً لسعفٍ تجرِّدُهُ الطائراتُ من الخُضرةِ الداكنةْ
وداعاً لتنورِ أُمّي
وداعاً لتاريخِنا المتآكلِ فوقَ الروازين
وداعاً لما سوفَ نتركهُ في اليدينْ
وداعاً
نغادرُ الوطنَ المُرَّ،
لكن إلى أينْ؟
كلُّ المنافي أمرّ…
…………
النخيلُ الذي ظلّـلتني طوالعُهُ
لم يَعُدْ منه غير بقايا تصاوير شاحبةٍ
ومصاطب فارغةٍ
وجذوع مشانق ترنو لأعناقنا الحالمةْ
والفراتُ الذي عمَّدتني مواجعُهُ
لم يزلْ سادراً بأنينِ القرى الهائمةْ
آه.. عوليس
ليتكَ لم تصلِ الآنَ
ليتَ الطريق إلى Malmo كانَ أبعدَ
أبعدَ
أبعدَ
أبعد
…………………
…………………
أيهذا الغريبُ الذي لم يجدْ لحظةً مبهجةْ
كيف تغدو المنافي سجوناً بلا أسيجةْ
مالمو 18/8/1997
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش :
(1) ظهر هذا المقال باللغة الإنجليزية في مجلة ” الأدب العالمي اليوم ” World Literature Today في عددها أكتوبرـ ديسمبر 2003.
(2) الدكتور صالح جواد الطعمة، أستاذ اللغة العربية والأدب المقارن في جامعة أنديانا، بلومنغتون، أمريكا. شاعر وباحث ومترجم عراقيّ يقيم في الولايات المتحدة الأمريكية منذ سنة 1963. له مؤلَّفات عديدة باللغتين الإنجليزيّة والعربيّة عن اللغة العربيّة وآدابها، بضمنها دراسته المقارنة عن اللغة العربيّة الفصيحة واللهجة العراقيّة، ودراسته الهامّة عام 1997 في العدد الخاصّ عن الأدب العراقيّ المترجَم في “مجلة الدراسات العربيّة الفصليّة” Arab Studies Quarterly. كما ظهرت ترجماته لقصائد شعراء عراقيّين في مختارات شعريّة باللغة الإنجليزيّة مثل: كتاب ” شعر النساء العربيّات: مختارات معاصرة” 2002The Poetry of Arab Women ، وفي كتاب ” شعراء ضد الحرب 2003Poets Against War ، وفي عدد الربيع لعام 2002 من ” المجلة الأدبية” 2002 Literary Review . والقصائد الملحقة بهذا المقال تشكّل جزءاً من كتاب “مختارات من الشعر العراقي” تدور حول حرب الخليج 1991 ترجمها الدكتور الطعمة إلى اللغة الإنجليزيّة. وإضافة إلى موضوعة المنفى التي تتردّد في هذه المختارات، هنالك عدد من القضايا الأُخرى المتعلّقة بمعاناة الشعب العراقيّ خلال اثني عشر عاماً من طغيان رهيب، وضربات عسكريّة بقيادة الولايات المتحدة، وحصار طويل لا مثيل له.
(3) الدكتور علي القاسمي كاتب عراقي مقيم بالرباط.
(4) عبد اللطيف أطيمش (ولد سنة 1938)، حصل على الإجازة في الأدب العربيّ من جامعة بغداد، ودكتوراه من جامعة لندن. والقصيدتان من مجموعته الشعريّة الصادرة عام 1993 بعنوان “جمرة على حافة القلب”. وكانت مجموعته الشعريّة الأولى، ” كلمات طيبة” قد صدرت عام 1969، والثانية، ” مدن وقصائد ” ، عام 1982. يقيم حالياً في لندن.
(5) أمل الجبوري (ولدت سنة 1965) شاعرة عراقية ومترجمة. تقيم حالياً في ألمانيا. حصلت على الإجازة في اللغة الإنجليزيّة من جامعة بغداد. نشرت ثلاث مجموعات شعريّة، آخرها “لك هذا الجسد لا خوف عليك ” عام 1999.
(6) انخدوانا: أقدم مؤلِّفة معروفة في الأدب العالميّ (حوالي 2300 ق.م.). كانت أميرة سومريّة وكاهنة وشاعرة مرموقة. عُرفت بترتيلاتها للإلهة عنانا(= عشتار) وبنفيها لفترة قصيرة.
(7) يحيى السماوي (ولد 1949) يعيش لاجئاً سياسيّاً في أستراليا. صدرت له أكثر من ثماني مجموعات شعريّة. يُعنى في أعماله الأخيرة بالموضوعات السياسيّة التي تعالج ـ من بين ما تعالج ـ محنة العراق في السنوات التالية لحرب الخليج ومعارضته للنظام. لاحظ إشارتيه “للوطن المذبوح ” و ” المغول ” (والأخيرة رمز يُستعمل أساساً للغُزاة الأجانب).
(8) سعدي يوسف (ولد في البصرة عام 1934): يعدّ واحداً من أعظم الشعراء العرب المعاصرين ومن أغزرهم إنتاجاً. نشر أكثر من ثلاثين عملاً شعريّاً ونثريّاً، بضمنها ترجمات لقصائد مختارة من والت ويتمان، وغيوسيبي أونغريتي، ويانوس ريتسوس، وقسطنطين كفافي. عاش منذ عشرات السنين في المنافي العربيّة والأوربيّة بسبب انتمائه اليساريّ. وصفه أحد النقّاد الكبار بأنّه شاعر القصيدة السياسيّة العربيّة. وقد اضطلع خالد مطوع بترجمة مجموعة مختارة من قصائد سعدي يوسف إلى اللغة الإنجليزيّة بعنوان ” بدون الغبار بدون وجه “(Graywolf 2002
(9) عدنان الصايغ (ولد في الكوفة عام 1955) نشر أكثر من عشر مجموعات شعرية آخرها بعنوان ” تأبّطَ منفىً ” وفيه تلميح إلى أحد شعراء الصعاليك في العصر الجاهليّ الذي عُرف بلقبه ( تأبّط شراً). أمّا إشارته إلى ( جيوش أمية ) فهي إشارة مزدوجة: إلى استشهاد الإمام الحسين، وإلى الذين ساعدوا النظام الحاكم على اضطهاد الشعب العراقيّ.