تمثّل رواية ” تسارع الخطى ” نقلة نوعية في مسار السرد العراقي ، وتشكّل في الوقت نفسه امتدادا ً للمنجز الابداعي للقاص والروائي أحمد خلف ، المنجز المتمثل في أعماله الروائية : ” الخراب الجميل ” و ” موت الأب ” و ” حامل الهوى ” و “الحلم العظيم ” ومجموعاته القصصية : ” نزهة في شوارع مهجورة ” و ” منزل العرائس ” و ” القادم الجديد ” و ” صراخ في علبة ” و” تيمور الحزين ” و ” خريف البلدة ” و ” مطر آخر الليل ” ، وهو حصيلة أكثر من نصف قرن من رفقة حميمة مع الكلمة .
هذه الرواية الصادرة عن ” المدى للإعلام والثقافة والفنون ” جاءت في 152 صفحة من القطع المتوسط ولكنها رواية كبيرة بمحتواها الانساني وجرأة التناول ومتانة البناء السردي ومغايرته للمنحى التقليدي في السرد الواقعي . أما عنوانها بمفردتيه المتناغمتين والموحيتين، فيشي بالبحث عن الخلاص من محنة ، تعززه صورة الغلاف ( تصميم ماجد الماجدي ) التي توحي فيه حركة القدمين العاريتين بالهرب بحثا ً عن هذا الخلاص .
يفتتح أحمد خلف مبناه السردي بحوار يفترض أن يكون ثنائيا ً ، طرفاه رجل وفتاة ، يستهله صوت الرجل متسائلا ً عن المكان الذي هو فيه ، لكن جواب الفتاة يكون مستهلا ً لحوار أحادي الجانب ينفرد فيه صوتها وهي تملي على الرجل تعليماتها ووصاياها حول ما يتوجب عليه عمله وهي تيسر له عملية هروبه من أيدي خاطفيه . وإذ نتعرف على شخصية الرجل الذي تعرض للخطف ( والذي سيصبح شخصية الرواية المحورية ) ، نجده كاتبا ً مسرحيا ً وممثلا ً يدعى عبد الله ويعمل موظفا ً في المسرح الوطني، فإن الغموض يكتنف شخصية الفتاة التي تقول ان اسمها فاطمة دون أن تكشف عن أي تفصيل يلقي الضوء على شخصيتها .ولعل الروائي وهويعمد الى التعتيم على شخصيتها ويزج بها وسط عصابة الخطف وبشكل أحالها الى ما يشبه اللغز ،انما هدف الى جعلها مثار تساؤل لإثارة اهتمام القارىء ، لاسيما انها تحمّل المدينة مسؤولية العجز عن انقاذ المواطن الذي تعرض للخطف في وضح النهار ، فتدين من خلال ذلك من يمسك بزمام أمور المدينة نفسها : “ألم تستطع المدينة ، المدينة العامرة بالبنايات السامقة والبيوت الكثيرة والحانات والبارات ودور الدعارة والشوارع والأزقة الضيقة المعتمة المليئة بشذاذ الآفاق ، كلها لم تستطع أن تحميك أو تخفيك عن عيون القتلة ودعاة اختطاف الناس من مساكنها الآمنة التي يتواجدون فيها ؟ ” (ص 7 ) . ومن هنا يبدأ الروائي بوضع اصبعه على الجرح النازف ويزيح القناع عن أوجه هذه الحفنة من القتلة الذين يستهينون بأرواح الناس ، ليبدا عملية نشريح الواقع بمبضع نقدي حاد، عابرا ً مما هو شخصي أو خاص الى ما هو عام .
وبدا واضحا ً ان شخصية عبدالله ( وللإسم دلالته الخاصة ) تعاني من الاحباط . فقد فشل زواجه بعد ان كان قد تزوج زواجا ً غير متكافئ من امرأة أمية اكتشف ان هوة عميقة قائمة بينهما ، وكان مسكونا ً بحلم أن يكون كاتبا ًمسرحيا ً مرموقا ً ، وتسيطر شخصية هاملت على تفكيره ، وفشل في أن يكون ممثلا ً كبيرا ً . وترك هذا الاحباط بصماته على سلوكه الذي تجلى في استرجاعاته المتتالية وهو على طريق الهرب .
لقد مثلت الفتاة فاطمة دور شخصية المنقذ حين فكت وثاق الضحية وأزالت القماشة السوداء عن عينيه ويسّرت له سبيل الهرب من مخبأ الخاطفين، ثم غابت عن المشهد فيما بعد لتصبح شخصية عبدالله في بؤرة الاهتمام ، وحيث تيسرت له فرصة الهرب تبدأ مرحلة الاسترجاع التي تغطي نصف مساحة الرواية حين وصل الى منطقة سبع البور حيث ” يولدالمرء ويموت وحيدا ً ودون ضجة بل يسير كل شيء حسب مشيئة القدر ” ( ص 32 ) . لقد توغل الروائي داخل شخصية بطله وهو في مواجهة المحنة ، وجعلنا نكاد نسمع وجيب قلبه ونحبس أنفاسنا معه وهو ينظر الى ما صار في اعتقاده انهم الخاطفون الذين يطاردونه لاعادة القاء القبض عليه ” متخذين الوجهة التي يتنفس فيها عبدالله ، أنفاسا ً ثقيلة يسمعها تتردد ولها صدى لا ينقطع في أذنيه ، كذلك دقات قلبه لا تريد أن تهدأ ” (ص 28 ) . و ” من خشيته ارتمى على الأرض ” ( ص 24 ) و ” يذكر كيف اندفع منطلقا ً كالمجنون في بداية انطلاقته نحو المزارع والأحراش ، على أمل الوصول الى الشارع العام أو نحو المجهول كما فكّر ، تاركا ً لساقيه أن يتقذاه من مكامن الخطر ، سهم منطلق في الريح ” ( ص 27 ) . ووسط مخاوفه وقلقه تزايدت شكوكه حتى وجدت طريقها باتجاه الفتاة فاطمة التي كانت قد أنقذته .
لقد سيّرالروائي أحداث روايته في وسط اجتماعي ما زال محكوما بقيم وتقاليد الريف يعج بالفقراء أو أحياء لا يعرف أهلها الترف . فمن البياع حيث بيت البطل ، الى حي التراث حيث بيت أخته ، الى سبع البور الى حي طارق ، ليمنح المكان خصوصيته. فحي التراث هو ” حي المنسيين والمتروكين للأمطار والعواصف والشوارع غير المبلطة والمفخخات والعبوات اللاصقة والاغتيالات الكيدية ، في هذا الحي الذي هو نهب للفقر والجوع والمرض ” ( ص ص 47 ــ 48 ) . أما حي البياع فإن البطل ” بذل جهده في أن يتصور دخول هاملت ملك الدنيمارك الى حي البياع ذي الطبيعة الشعبية وشوارعه العتيقة التي أكلت دودة الأرض جدران البيوت والأزقة التي تمتلىء بالفضلات والمزابل ” ( ص 52 ) .
لكن الأحداث تختتم في حانة حيث يحدث منعطف آخر في مسارها عندما يجد عبد الله نفسه محاصرا ً فيها بعد تطويقها من قبل أشخاص يحاولون اقتحامها للقبض عليه وقد أصبح اسمه أيوب الآن ( كناية عن المعاناة التي وقع تحت نيرها طوال حياته ) ، ليواجه محنة جديدة ، يجد نفسه فيها مطالبا ً بتبييض صفحة الرجل الكبيرعن طريق انتحال التاريخ وتزويره . فهاهو صوت الرجل الأنيق ( وهو أحد أتباع الرجل الكبير ومريديه ) الذي عرض عليه هذا الطلب يقول : ” قلت لك ان الرجل الكبير حزين لأن تاريخ عائلته ليس من التواريخ التي يتشرف بها أو بالحري تاريخ مضحك … المطلوب منك المباشرة بكتابة تاريخ عائلة الرجل الكبير الذي بيده خبز أطفالنا وثمن خمرتنا وديمومة مسراتنا ووقوف عوائلنا بوجه الفاقة والعوز الذي يخشاه كل انسان في هذا البلد غريب الأطوار !! ،،،،، وهو رجل نهم بكل شيء حتى انتحال التاريخ وتزويره وكتابة صفحات لم تكن موجودة من قبل ، نهم وجشع في كل شيء حتى الهواء ” ( ص 148 ) . لكن عبدالله يسترد وعيه ويقرر المواجهة : ” سيقاوم أي تهديد يلوّح به الأخير ( الرجل الكبير ) وسيرفض أي ترغيب قد يعرض عليه ” ( ص 152 ) .
من الواضح ان الروائي محكوم بحسه ووعيه الطبقي وهو يلاحق مسار شخصياته ، ولعل أبرز ما يتمثل في هذا الجانب تناوله لورطة الطالبة الجامعية هند ابنة أخ البطل وقد ارتبطت بعلاقة حب غير متكافئة طبقيا ً مع زميلها في الكلية رياض الأميري . فهي من عائلة شبه معوزة وهو ” ابن تاجر معروف في سوق الشورجة ، واحد من تجار أدوات الزينة المستوردة من مناشىء مختلفة “(0ص 63 ) . ولم يكن غريبا ً أن يعبّر رياض عن أخلاقيات طبقته فيقود هند الى بيت سري تديره امرأة تدعى أم فيصل يصفها الروائي بـ ” السيدة الفاضلة ” تهكما ً ، لتمنحه جسدها وتفقد عذريتها ليتخلى عنها بعد ذلك .
ومما يلاحظ ان الشخصيات النسائية في الرواية تقع تحت وطأة صنوف من المعاناة ، بدءا ً من الفتاة فاطمة التي أنقذت البطل وكانت تبحث عن خلاصها هي الأخرى : ” أنا أيضا ً ينبغي لي الخلاص من المحنة قبل وقوعها لكي أغادر هذا الجحيم ” ( ص 9 ) ، لكنها لا تنجو من شكوك عبد الله بها . وكانت زوجته هو على خصام دائم معه لأنها كانت تريد منه طفلا ً . وباعت هند نفسها الى رياض تحت وهم الحب ( أهي مصادفة أن يتزامن مقتل أبيها في تفجير مقهى في العامرية مع فقدانها عذريتها ، بما ينطوي عليه هذا التزامن من دلالة ؟ ) أما أمها التي تكدح ليل نهار في التدريس فقد ” ظلت تكافح بعد موت الأب من أجل هند وأخوتها ، تدخر النقود مضطرة لكي تتخلص من أي عائق يعطل سيطرتها على حياة اسرتها ” ( ص 46 ) وقد” أقسمت على انها لن تسمح لرجل مهما كانت صفته أن يلمسها بعد الذي حصل لزوجها من حادث شنيع ” ( ص 48 ) مع انها كانت تحتفظ بجانب كبير من انوثتها ، ولكن ابنتها خذلتها حين تصرفت بحماقة فأساءت الى نفسها والى ذكرى أبيها وتضحيات أمها . وتتوقف الرواية عند مأساة أم عباس الكادحة ، بائعة الخضرة في سوق البياع والتي فقدت ابنها في ظرف غامض ، وقد راحت هي ومن معها ضحية عمل ارهابي حين وضع لديها شاب قال لها انه صديق ابنها عباس ، صرة ورجاها أن تحتفظ بها له لحين عودته ، وحين استبطأته فتحت الصرة فانفجرت . وكان هذا الحادث وراء رغبة البطل في كتابة مسرحية تتخذ من الصرة عنوانا ً ومادة لها .أما رقية أخت ( أبو العز ) صديق عبدالله ، فقد لاكتها الألسن في المحلة لأن أخاها سمح لصديقه أن يمكث في بيته اسبوعا ً .
ان أبرزما يتسم به بناء هذه الرواية انها جعلت حادث اختطاف بطلها لغزا ً يثير التساؤل : هل كان رياض وراء ذلك في محاولة للتعتيم على فعلته مع هند لإجبار خالها على الامتناع عن أي تصرف يثير له المتاعب ويسيء الى سمعة عائلته وموقع أبيه التجاري ؟ هل كان الادعاء بأن عبد الله يعمل وسيطا ً بين تجار عراقيين وآخرين من العرب دافعا ًيقف وراء ذلك ؟ هل تقف أم فيصل صاحبة البيت المشبوه وراءه للتستر على بيتها وقطع دابر أية متاعب يمكن أن تثار حوله ؟ هل كانت الرغبة في تبيض صفحة الرجل الكبير ومساومة عبد الله وراء ذلك ؟ ان القناعة بأي من هذه الاحتمالات أمر وارد . ويحتسب للروائي انه استطاع أن يشتت بؤرة الحدث المركزي، وأن يزرع التساؤل والتشكك في أذهان قراء هذه الرواية ألتي يظل هدفها الرئيس أن تدين ، ضمن ما تدين ، عمليات الاختطاف مهما كان الدافع الذي يقف وراءها.
حقا ً ان ” تسارع الخطى ” رواية كبيرة لروائي كبير !