إشارة :
مرّت الذكرى الرابعة والخمسون لرحيل الفنان العراقي العظيم “جواد سليم” (توفي في المستشفى الجمهوري ببغداد إثر نوبة قلبية يوم 23/1/1961) عابرة وباستذكارات لا تليق بفنان أثبت أن الإبداع يمكن أن يكتب للإنسان الخلود ، وأن المبدع يمكن أن يحفر اسمه في صخرة الوجود حين يلتحم بتراثه وبتراب وطنه المقدّس ويعبّر عن آلام إنسانه المعذّب. تدعو أسرة الناقد العراقي الأخوة الكتاب جميعا إلى المساهمة في هذا الملف الذي سيكون مفتوحاً من الناحية الزمنية حيث لا حدود زمنية للإحتفاء بالإبداع.
المقالة :
بعض الاعمال تعيش وصفا فريدا مرتين .مرة في بنائها الذاتي ؛ ومرة عبر الزمن ؛ عند الانعطافات ؛ عند التغييرات ؛ عند التجارب .وقد اضاف اليها الناس تفسيرات ان جواد سليم يمنح بغداد سلطة .
ثم جاذبية للمكان الثقافي .انها مدينة اخرى مخبأة في قلب رجل محب؛ انها مدينة مثالية – انها بيت الطفولة الذي نرجع اليه بعد عشرات السنين .
وكما في الصور الرمزية والاحلام التي يعاد ترتيب دلالاتها عند اليقظة لتتحول الى نسيج آخر عند اليقظة من اقتباسات نفسية وعاطفية .
ان فن جواد سليم ليس توثيقا لمدينة تشكل متحفا اثنو غرافيا صغيرا ؛ يدعى بغداد .على شكل صفوف متراصة على النحو التالي:
1- صف للتحف ؛ من شناشيل ؛ وأوان ؛ ودلال .
2- صف للحكايات والاسرار .
3- صف للمشـــاهد المدينية .
وكل هذه المصفوفات ؛ لها اسلوب صناعة ؛ وجمالية فنية ؛ وتضمين رمزي .في مكان رحيم يتساوى فيه الفقير والغني – الامي والمثقف – الجدي والهازل.
انها بغداد التذكاريه – انها ايضا رحم الام الدافئ ؛ الذي يتفرع من جذره تماما في القلب ؛ وتماما عند لحظة أمتزاج الالم والفرح ؛ في مدينة فاضله ( يصنعها جواد بتخطيطاته ) مدينة مسالمه يتآخى فيها الجميع ويجدون فيها الاشباع واللذه .
(من مقابلة شخصية مع الناقد سهيل سامي نادر )
أن الباحث يجد ان جهده قد وقع في منطقة محروثة سابقا لكنه يعتقد انه وفي نطاق مسعاه للكشف عن ذلك التكوين ( الحسي – الحدسي – المثالي – الواقعي)؛ لرجل حصل على تدريب ثقافي ممتاز وأطلع على ثقافة غربية بشكل مبكر .واستطاع ان يعبر عن نفسه بوضوح .مما اضاف عليه اعباء أخرى .لكنه كان مشتبكا في حياته النفسية والعاطفيه .. (حسيا – مثاليا – رغيبا – مهذبا يتسامى عن وضعه الشخصي ولايرد ان يخدش حياءه ويخسر بجسارة طائشة ؛ قد لايعرف نتائجها – تجار حسية غير مؤذية – ملامسات – لذاذات سرية تمنحه اياها غرف النساء الدافئة).
حدود البحث عقد الخمسينات في القرن الماضي ؛ حيث تشكلت رؤى جواد وكشوفاته الفنية الخاصة ( رفض الجمال التقليدي الذي اجتاح عصر النهضة والاكاديميات – التحرر من المنظور والاستغناء عن البعد الثالث- اهمال التشريح والحركة العضلية الاشورية والاغريقية – التأكيد على الخطوط المعبرة – الاكثار من الفراغات والمساحات البيضاء – اقحام الاهلة والاقواس – اعتماد الزخارف الاسلامية – المنمنمات الشعبيه والكتابة بخطوط ساذجه- استعمال الالوان البراقه والزاهية ).
اهداف البحث
الكشف عن المضامين ؛ الدوافع النفسية ؛ بدراسة اللوحة باعتبارها نصا منقطعا عن المنتج .
آلية منهج النقد النفسي في الفن التشكيلي
أن على الناقد ان يصطحب معه علم النفس ؛ فالنقد لايتنكر للعامل السايكولوجي ؛ ودوره الفعال في الخلق الفني ؛ على الرغم من أن هذا العلم لايزال متعثرا في نظرياته ؛ لم يستقر بعد . ورغم تجني علماء النفس على الفنانين ؛ فهم يزعمون ( ان الفنان انسان لايصلح للاتصالات الاجتماعية ؛ ويحاول ان يعبر عن عواطفة المتسمة بطابع الخطيئة ؛ عن طريق الصور والمنحوتات )
وان نظرية التحليل النفسي (تعتبر الفنون جميعا فنونا رمزية ؛ والنزعات الرمزية جميعا نزعات جنسية وأن الاثار النفنية مطايا للمزية االجنسية ) *1
وقد غالت نظرية التحليل النفسي ؛ في تفسيرها لرموز الاثار الفنية حيث ادعت ( ان كل قائم في صورة ؛ انما يرمز الى عضو الذكورة ؛ وان كل تجويف يعني اعضاء المرأة التناسلية ؛ وان التمثال المنحوت ؛ لجسم منتصب لم يكن في الاصل غير رمز لعضو التناسل ؛ وان الجزء الداخلي من المــبنى ؛ يرمز الى رحم المرأة ).
ويرى فرويد :(ان الفن تصعيد لعقد نفسية ..وان الفنان شخص انطوائي يعجز بسبب دوافعة المفرطة ؛ عن التجاوب مع متطلبات الواقع الواقع العملي.فيلجأ لاشباعها عن طريق عالم الوهم ؛ حيث يجد بديلا عن الارضاء المباشر لرغباته ويستعين للوصول الى تحويل مطالبه اللاواقعية الى غايات قابلة للتحقيق من الوجهة الروحية في الاقل ) *2
ان اعمال الفنانين ؛ منحدرة من لاوعي كل منهــم في شكــل رمزي .
ان تصور فرويد في تصنيف الفنانين في خانة العصابيين كما يزعم ؛ ويقتضي بموجب ذلك فصلهم عن المجتمع .
ان الفنان- هو الان – في نفسه انطوائي؛ يقترب من العصاب ؛ وهو تحت وطأة دوافعه المهتاجة ؛ يود انتزاع الاحترام ؛ والنفوذ الفني ؛ والمجد والحب- حب النساء – ولكن ليس لديه الامكانات لتحقيق رغباته هذه ؛ لذلك وككل رجل غير راض عن وضعه يتحول عن الواقع ؛ ويركز انتباهه وغريزته الجنسية ؛ لاعن الرغبات التي اصطنعها في حياته الخيالية ؛الامر يقوده بسهولة الى العصاب .
(1- سيجموند فرويد – الهذيان والاحلام في الفن .تر : جورج طرابيشي .دار الطليعة – بيروت 1981
2- سيجموند فرويد – مدخل الى التحليل النفسي .تر جورج طرابيشي ح دار الطليعة – بيروت 1980 )
يرى الباحث قصورا في منهج فرويد في دراسة شخصية الفنان من الداخل ومايجول في النفس من الامور الكامنه تحت الشعور الكلي وما يحيط بها من غرائز ونزوات بدءا من مرحل الطفولة الى الشيخوخة واعتماده وثائق ( ضمن منهجه التبريري )تثبت وقائع – وعوامل مكبوتة في حياة ليوناردو مثلا .
وعالم النفس يونغ ارجع ابداعات بيكاسو الى مرض فصام الشخصية ؛ ورجال التربية يصرون على اخفاقات جنسية محضه . ومن الضروري ان نبسط افكار يونغ في تفسير العمل الفني وفق منطقه الخاص ؛ فقد اعتمد مبدأ اللاشعور الجمعي بتحريك غرائز الانسان .؛ المشحونة بطابع رمزي لموروث بدائي ؛ حيث ان اللاشعور الجمعي مترسب في احلام البشر وعند الذهانين .
فلابد للفنان ان يعيد التوازن النفسي الى الحقبة التأريخية. لان الفنان ليس سوى مجرد اداة في عمله الفني بأعتباره كائنا يحمل ترسبات الاسلاف (البدائية) انه انسان جمعي حامل للواء الروح الفاعلة للاشعور الانسان .
اما ادلر فيرى ان الابداع الفني يكمن في الشعور بالنقص الذاتي للكائن البشري؛ ما يدعى بآليات التعويض ؛ او التعويض الاعلى ؛ بفعل مايشعر به المرء من نقص او قصور نفسي او فسيولوجي .
وبذلك يصبح القصور عند أدلر قوة وهاجة لتحريك مشاعر الفنان ؛ وعاملا فعالا لنشاطه الابداعي ؛ اذ يخضع الفنان للنزوع اللاشعوري من حيث هو قوة دافعة لرغباته الطموحه والى مبدأ أرادة التفوق في محاولة اثبات الذات وتأكيد الوجود 2 .
اما بريغسون حامل لواء الحدسية في تأويل العمل الفني الذي سيطر على الفكر الانساني بمبادئه التي يمكن اجمالها بقوله ( ان الحدس هو الذي يهدي سلوكنا اليومي نوعا من البصيرة ؛ أو ان عمليات الاستدلال السريعة المجملة اللا شعورية وفي حالة تكون البصيرة والحدس ضربا من الاستدلال العقلي) 3 .
فالحدس البرغسني فيض داخلي – نشاط وجداني – تحريك رواسب اللاشعور خارج مشاعرنا ونعيشه في اعماقنا ؛ ونصبو اليه اذا وجدنا متنفسا لائقا يدخل في قالب الفن الرفيع ….
ولقد ادرك العرب – الخصائص الداعية لتحريك القرائح على انها تشكل صعوبة في العملية الابداعية ؛ وقد جاءت محاولااتهم في هذا الباب عرضية بوصفها احكاما شامله. 4
يقول بيرتليمي ( ان الانا السرية العميقة هي اللاشعور التي تتكون من مجموعة الذكريات والاندفاعات والصور التي تفلت منا ولانحسها وتقودنا دون ان نعلم ).
ان النرجسية والعقد االخفية للابداع وغير ها من العقد غربت عن بال الناقد ولم يتلمس لها طريقا الا بجهود علماء النفس تقتضي ان تكون هناك مزاوجة ومؤاخاة بين علم النفس والنقد الفني .
ان علينا الاشتغال على ظاهر النص فنعلي منه على حساب سلطة المؤلف .
ومع ان التحليل يطرد المنهج الا انه لابد من ان نسقط تلك النشاطات النفسية المصاحبة ساعة انجاز المبدع (من انقباض وشد ؛ وتصلب وجمود ؛ وشعور بالضيق ؛ وتحرر من المشاعر الكبوتة). حيث تتحدد افكاره من خلال استعادة نشاطه وحيويته .
1- للمزيد – انظر ابراهيم زكريا : مشكلة الفن .دار الطليعة – بيروت 1981
2- د.مصطفى سويف : الاسس النفسية والابداع الفني – دار المعارف 1970 ص 80
3- ويليهام رايش ؛ وآخرون : الانسان والحضارة والتحليل النفسي – بيروت 1990 ص 47
4- د.عبد الكريم فيدوح : الاتجاه النفسي في نقد الشعر العربي – منشورات اتحاد العرب – 1992ص43
وسائل جمع المعلومات
اعتمد الباحث في هذه الدراسة على المصادر والمراجع والابحاث المتوفرة التي تخص الموضوع .
وقد حاول الباحث الاستئناس بآراء المختصين بعلم النفس والذين سبق لهم الاشتغال في ميدان التحليل النفسي للاثار الفنية واساتذة النقد والفنون المجاورة .
مجتمع البحث
شمل الاعمال الموسومة بالبغداديات والتي تشكل المنهج الفني الخاص بجواد سليم المستند الى ثقافته الخاصة والمستلهمة من سلفه الواسطي ؛ وتأثيرات الفنون الرافدينية على جواد .
عينة البحث
تم انتقاء عينتين بشكل قصدي من مجتمع ( بغداديات جواد ) في عقد الخمسينات من القرن الماضي .ويرى الباحث ان القراءة ممكنة للنص في ضوء الرموز التي يطلقها والتي يمكن تأويلها وقراءتها وتحميلها مدلولات في ضوء المنهج النفسي في النقد الفني .
لوحة الشجرة القتيله 1958 أذا ماصحت رواية شاكر حسن آل سعيد من تسمية هذه اللوحه (عيد الشجرة) فان صدمة الفنان أزاء قطعها ؛ هي التي دفعته لتناولها كمفارقة؛ في يوم عيدها ومولدها هي التي دفعته لاطلاق صرخة احتجاج ضد (القتل – القطع).. فقد ترسبت في لاشعور جواد تلك الحكمة المدرسية (ازرع ولاتقطع) وهي حكمة اجيال لاتنتهي راقدة وكامنة في الدماغ البشري… وهذه التركيبات اللاشعورية.والتي يمكن ان تكون للمخلوقات البشريه مرشدا لايضاهى 1
لكن هذه الشجرة – المهيمنة في مركز السياده في اللوحة هل هي مجرد شجرة ام هي رمز ؟
لوحاولنا التجرد من المفهوم الفني واجتهدنا في جانب التحليل النفسي فهذه الشجرة هي : انثى !
الجذع جسد أمرأة …وهناك غصن – يشبه اليد الممدودة الى السماء ..
ولو تخلينا عن المعاني الظاهرية في اللوحة؛ وحولناها الى موضوع انساني ؛ نجد ان لهذه الشجرة وجه نسوي يحمل دلالاته النفسية ؛ والميثيولوجية .. واذا ما اتخذناها كترميز نفسي (فأن التأويل يمضي بنا من قبول مبدأ رفض الصورة المجردة من الصورة الاخرى التي تظل خفية..وهي حجر الزاوية في النظرية التحليلية الرمزية )2
أذن ستكون هناك احالة من مجرد جذع شجرة – الى حياة وبقايا رؤى وحلـــم وأنوثة مرأة …
السؤال هو : هل رسم جواد كل ذلك بوعي تام ؟
روعة هذه اللوحة – مثلما هي مسرحية هاملت – كونها أسفنجة تمتص كل التفسيرات مرة واحدة .واحدة و هذه التفسيرات الممكنة : هو ان الانسان محكوم عليه بالكارثيه في يوم ميلاده !2
لو عدنا ثانية لتأمل الصورة ؛ لو جدنا ملامح القاطعين ( حامل المنجل – حامل الفأس)عنيفة .
انها وفق المنهج النفسي تسفر عن معان تفيد بأن هناك من لايقدر قيمة المرأة ؛ فهو اذن انسان سادي .3
لعل هناك تأويل آخر يمكن قبوله وهو : ( ان المرأة التي تقف بوجه رجل – بتلك المواصفات – يهشمها ويقطع أوصالها !
المرأة في اللوحة في عالم سفلي مغلق (انها مهيضة الجناح ؛ تلم حطام خطايا)4
هذه المرأة تسكت عن آثام الرجل – نلاحظ هنا تدويرة رأسها الى الارض؛ منكسة كسيرة ؛ كسيرة ؛حزينة ..وأذا ما أخذنا تفسيرا يوافق هذه المرأة فأن ادلر يرى ان الموقف الموافق لموقفها (هو أن تتخذ الحل غير السلـــيم بالاعتراف بقوته ؛ والخضـــــوع له تماما ؛ رغم انها تفقد انسانيتها وتعيش في حالة عصابية! ولاتعيش متكيفة مع نفسها وألاخرين …) تصلح هذه اللوحة للتفسير اسقاطيا .. فاذا مافسرناها طبقا لعقدة أوديب ( على اعتبار ان الشجرة امه والقاطع ابوه )..
فأن جواد داخل ضمن هذا التفسير ؛ لان فرويد لايستثني من هذا التفسير احدا …
(يمكن هنا ان يختار – لاشعوريا زوجته بملامح تشبه ملامح امه ؛ ربما لان في عينيها ومضة ؛ وفي تدويرة وجهها مايشبه تدويرة وجه الام )…
بالامكان ان نرجع الى الواقع .. هل كان جواد يميل الى أمه ؟ رغم اننا جميعا نميل الى امهاتنا ؛ فهن ملجأنا حيث الحزن والملاذ وموطن الدفء.
* عن صحيفة الزمان