كثرا ما كنت أرى الكلمات توضع في بعض البناءات الشعرية ، لمجرد توصيل المعنى ، و كأنّها اشياء قابعة على جانبي الطريق ، طبعا كان لها تأثيرها و دورها، الا انّها لم تكن تلبس البهاء الأكمل ، و كنت أودّ لو أنّها صيغت و وضعت بطريقة أخرى . طبعا هذه الجملة لا يمكن بيانها بسهولة ، لكن حينما وقع نظري على ومضات للشاعر العراقي الفذ قاسم وداي الربيعي ، و وجدت ذلك التوظيف و التقنية العالية ، التي تعطي الكلمات وزنها ، فلا تكون فقط موظَّفات على جانبي الطريق ، بل تكون كقمم شاهقة مبهرة تصنع عالما رفيعا من الفكر و الخيال ، هذا النموذج الذي تمّنيت ان تكون عليه الكتابة الفنية ، النموذج الذي تبرز به الكلمة و تتجلى ، انّه اختراق عمق المعنى بالكلمة البارزة ، انه التجلّي الكامل للغة ، انه طغيان اللغة .
حينما تقرأ ومضات قاسم وداي ، تجد أنك تبحر في عوالم و ليس كلمات ، و تتلمّس وجوها و ليس مفردات ، لا يمكن ان تتجاوز المفردة الى ما بعدها الا و تشعر انك قد قطعت اضعاف الزمن المطلوب للانتقال ، انّ هذا التباين الظاهر بين زمن الرؤية و زمن القراءة ، يعني و ببساطة طاقة تعبيرية للمفردات تزيد من زمن القراءة . و حينما يكون للكلمة ذلك البروز و الظهور تشعر انك تتلمّس جسدا ، و كيانا ثلاثي الابعاد ، انه بحق النحت بالكلمات. يقول قاسم وداي :
( أفكر أن أكتب لها ..لكني أعلم أن قلبها مثقوب من شدةِ الصدمات .. )
انّ الزمن البصري لهذا المقطع المكاني لا يتجاوز الثانية او اكثر ، لكن زمن القراءة أطول بكثير ، بل انّه من شدة طوله يتلاشى المكان و تحلّ الرؤية المعنوية بدل البصرية ، ان هذا المقطع حينما نريد أن نقرأه فانا مضطرون أن نقرأه بهذه الطريقة :
( أفكرُ ….
أن أكتبَ ….
لها …..
لكنّي ….
أعلمُ ….
أنَّ …
قلبها ….
مثقوبٌ ….
من شدة الصدمات …..)
انّ هذا النبر ، و التعمّق البوحي ، و التركيز على المفردة ، أضافة الى ما أشرنا اليه من ابراز و ظهور للكلمات بما لها من معاني ، يزيد من طاقة اللغة ، فانّ عالم الدلالة و الابحار في فضاءات المفاهيم ، و ما يتعلق بها من انثيالات ، يتسّع بسعة الزمن المستغرق في القراءة . و ربما لا نحتاج كثير بيان للاشارة الى عملية البروز و الظهور للكلمات هنا ، و انّها قد جاءت بصورة تختلف كثيرا عما نجده في بعض الكتابات من التسارع الكتابي ، بحيث تغرق الكلمة في النص ، و لا تجد لها اثرا كبيرا الا من خلال التركيب ، وفي هذا خسارة فنية و امتاعية ، بحيث يكون ثقل التعبير على كاهل الفكرة و المعنى الكلي .
ان ما يجب التأكيد عليه ان حجم الابداع الكتابي يتناسب مع مقدار الطاقة اللغوية ، و مقدار توهج اللغة ، و كل استثمار للغة يعطيها طاقة اضافية و توهجّا اكبر ، و اسلوب ابراز و اظهار المفردات او النحت بالكلمات هو توظيف فني عالي المستوى يكسب لغة النص طاقات اضافية و توهج اكبر .
في مقطع فذّ اخر يقول قاسم وداي :
( منْ يقول لها ..أنها أجمل عاصفة تنفسها الشراع )
نلاحظ و بوضوح الابراز التوظيفي و التقنية العالية في الصياغة :
( من يقول لها …
أنّها …
أجمل عاصفة …
تنفّسها الشراع )
ان هذه الصياغة جعلت من كلمة ( يقول ) غير التي نعرف ، و جعلت كلمتي ( اجمل و عاصفة) اكبر مما نرى ، و جعلت كلمتي ( تنفس و شراع ) بأحجام معنوية و زمانية اوسع مما لدينا .. اذن النحت بالكلمات ليس فقط يبرز المفردات و انما يوسّع مفاهيمها الآنية ، و بهذا التوسّع تتعاظم طاقة اللغة ، و تتوسع عوالم المعنى الكلّي للنص .
و في مقطع نحتي أخر يقول قاسم وداي :
( لا تحزني أيتها الأم ..هو خلف الأسلاك الشائكة يتوحد بالبياض )
نلاحظ الابراز و الاظهار للمفردات :
( لا تحزني
ايتها الام
هو خلف الاسلاك الشائكة
يتوحّد
بالبياض )
فاضافة الى التعبيرية الومضية و المعنى المركّز و البوح العالي في هذا النص ، فانه ايضا يمثل صياغة فذة تعطي للغة طاقات تعبيرية اكبر و تبرز الكلمات و تنحت وجوهها فكأن الكلمات تخرج من الورق بأجساد تامّة ثلاثية الابعاد .
و في مقطع ايحائي بوحي عاطفي يقول قاسم وداي
( حبيبتي …هم يكتبون ..يحتفلون …….ونحن ننتظر )
لاحظ مدى التعبير الايحائي و التوقف الاضطراري للزمن المصحوب طبعا بانثيالات معنوية :
( حبيبتي …
هم يكتبون …
يحتفلون …
و نحن ننتظر …)
و في مقطع اخر يتمدد به زمن القراءة :
(بمجرد أن أراها .. سأكشف عن صدري
كي ترى سوطها ورصاصاتها ..وكأس السم )
نرى بوضوح النبر في الصياغة ، الذي يخلق الابحار ، و ابراز للمفردات و ما خلفها من انثيالات و ايحاءات . انك حينما تقرأ هذه النصوص تشعر بوجود كيان بارز و خلفه اصوات و كيانات اخرى ، انها لغة ثلاثية الابعاد ، انه النحت بالكلمات . انه ابداع رفيع لقاسم وداي الربيعي .