*مدرّس مادة علم النفس/ كلّية التربية/ جامعة الموصل
إذا كان ( أدونيس ) ، يحمل بين جوانحه خطابا ، لم يستطع ، في بعض جوانبه ؛ أعني جوانب هذا الخطاب ، أن يبثه إلى الآخر ، فأن حالة اللابث هذه قد أوجدت لديه حالة من الشعور بالاغتراب ، حاولنا تلمس إبعادها في دراسة سابقة عنه (1) . الا انه ، وعلى ما يبدو ، ومن خلال عينة أخرى من قصائده ، وعلى وجه التحديد ، مجموعته البكر والمعنونة ( حدود اليأس ) ، أن هذه الحالة ، أعني حالة الاغتراب ، لم تكن مقترنة بمسألة بث خطابه إلى الآخر ، بل هي سمة ، يمكن القول ، مقترنة به ، أعني هي سمة أساسية من سمات شخصيته . فهي إذن لازمة له منذ أن اصطدم بالوجود ، أعني منذ أن أدرك ذلك الوجود كموضوع مستقل عنه . ومن هنا جذور ومنشأ مشاعر الاغتراب لديه . ومن هنا أيضا تبدأ رحلته وصراعه وعذاباته مع هذا الوجود !! . وسوف نرى ، فيما بعد ، عبر مسارمنجزه الشعري على وجه الخصوص ، كم هي معاناته وتعاساته … ولذلك فأن من الطبيعي أن يكون الارتداد إلى الطفولة والنكوص الى عوالمها هي من البدائل التي لجأ إليها الشاعر للتخفيف من وطأة تلك المأساة . ونظرة الى طروحاته المعرفية ، تكشف لنا ، عن عمق المحنة المعرفية التي عاش شاعرنا تفاصيلها . وهذه النظرة ، إنما عرجنا إليها ، لتكون تأييدا لرؤيتنا للاشاكلية التي واجهها ( ادونيس ) ، على الأقل من خلال الصور التي قدمها لنا في خطابه الشعري ، لاسيما في بواكيره الأولى . والنقطة التي نود التركيز عليها ، هي أن الشاعر ما زال متعلقا بذكريات الماضي ، اعني بخبرات الطفولة . ولم يتمكن بعد من تجاوز أثارها ؛ أيا كانت طبيعة تلك الآثار . وسوف نلاحظ من خلال القصائد التي تتضمنها مجموعته هذه والتي كرسها لموضوعات لها علاقة بموضوع هذه السطور ، اعني ذكريات الطفولة وخبراتها . ولاشك فأنه ليس بمقدورنا .. ولن يكون كذلك ، أن نغطي كل التفاصيل لقطاع طفولة ( ادونيس ) . ولذلك فان مهمتنا سوف تتحدد بالنصوص التي سنقف عندها ، اعني نصوصه الشعرية التي يتحدث من خلالها عن ذلك القطاع . وقبل الخوض في عوالم الطفولة عند شاعرنا لا بد من وقفة قصيرة لطبيعة هذه الفترة من فترات النمو الإنساني . وستكون نقطة انطلاقنا للتعرف على أبعاد هذه المرحلة هي وجهة نظر مدرسة التحليل النفسي الفرويدية حصرا ، لاعتقادنا أن الشاعر كان متأثرا بتصورات هذه المدرسة ، على الأقل ، تلك التصورات التي تتعلق بالحضارة والشخصية ومسار الثقافة الإنسانية على وجه العموم . وعلى أساس هذا التأثر حاول توظيف تلك التصورات في خطابه الشعري . و لا نفترض أن يكون( أدونيس ) محللا وفق الصورة التقليدية حتى يتمكن من عملية التوظيف تلك . ذلك أن نتاجه الشعري شاهد عيان لا يحتاج إلى وقوف أو إمعان حتى تكون دليلا – على الأقل من وجهة نظرنا – على قدرة الشاعر في استلهام وتوظيف تلك التصورات . وسوف نرى ، سواءا في موضوع هذه السطور أو موضوعات السطور الأخرى ، كيف أن الشاعر كان موفقا الى حد كبير في عمليته الشاقة تلك . لذا فإننا سنقف عند موضوع ذكريات الطفولة كما وردت في مفاهيم التحليل النفسي ومصطلحاته . وثمة مصدر أساسي يساعدنا عل تحقيق هذا الغرض ، وهو المعجم الذي وضعة كل من ( لابلانش) و( بونتاليس ) ( 2 ) . فقد ورد في هذا المعجم عدة مصطلحات استخدمت للتعبير عن مخلفات وآثار الطفولة وهي :-
1- أثر ذاكري memory trace :- ويستخدم ( فرويد ) هذا المصطلح خلال أعماله كلها للدلالة على كيفية تسجيل الأحداث في الذاكرة . تحفظ الآثار الذاكرية ، تبعا ل( فرويد ) في مختلف الأنظمة ؛ وتبقى هناك بشكل دائم ولا تثار الا بعد أن توظف نفسيا . ( ص42-44)
2- ذكرى ساترة screan memory :- هي ذكرى طفلية تتميز في آن معا بوضوحها المميز وبافتقار محتواها للمعنى بشكل جلي . يؤدي بنا تحليلها الى تجارب طفلية دامغة و على هوامات لا واعية والذكرى الساترة هي كالعارض تماما ، عبارة عن تكوين يتخذ طابع التسوية ما بين العناصر المكبوتة والدفاع . (ص 250-251)
3- رواية أسرية :- وضع ( فرويد ) هذا التعبير للدلالة على الهوامات التي يغير الشخص خياليا من خلالها علاقاته مع والديه ( إذ يتخيل أنه طفل لقيط ) . نجد أمثال هذه الهوامات أساسا لها في عقدة الاوديب . (ص 272-273) .
4- نسيان طفلي infantile amnsia :- هو ذلك النسيان الذي يشمل عادة وقائع السنوات الأولى من الحياة . ويرى فيه ( فرويد ) شيئا آخر غير مجرد تأثير العجز الوظيفي الذي يعاني منه الطفل عن تسجيل انطباعاته ؛ فهو ينتج عن الكبت الذي يصيب الجنسية الطفلية . وينسحب عل كل أحداث الطفولة تقريبا . تمتد الحدود الزمنية للمجال الذي يشمله النسيان الطفلي الى فترة أفول عقدة الاوديب ، والدخول في فترة الكمون . (ص542) .
5- رمز ذاكري mnmic symbol :- شاع استخدام هذا المصطلح في كتابات ( فرويد ) لوصف العارض الهستيري . ( ص 272) .
6- عودة المكبوتreturn of the repressed :- أنها العملية التي تنزع من خلالها العناصر المكبوتة التي لم يقض الكبت عليها مطلقا ، الى الظهور ثانية ، وتتمكن من الوصول الى ذلك بطريقة محرفة على شكل تسوية . ( ص374) .
تلك هي إذن المفاهيم التي اقترحها ( فرويد ) وهي جانب مهم من جوانب الشخصية الإنسانية عموما ، وخبرات الطفولة التي تؤثر على بنية تلك الشخصية خصوصا . وسوف ننطلق من بنية تلك المفاهيم لقراءة عينة من نصوص ( أدونيس ) الشعرية . وما يعزز هذا الانطلاق هو الصور النفسية والعنوانات الدالة في هذه القصائد . والهدف الذي نرمي الى تحقيقه هو دراسة هذه العينة من قصائد ( أدونيس ) على ضوء تلك المفاهيم التي وقفنا عندها . ويبدو أن الشاعر (أدونيس) كان قد اهتم بتحليل ذاته ، ولذلك نرى أن أغلب قصائد المجموعة تنطلق من ضمير الانا . وحتى قصائده التي تنطلق من ضمير الهو، فأنها ، في تقديرنا ، إشارة إليه هو ذاتيا . وإذا كان ( أدونيس ) قد قام بتلك الممارسة ، فلا غرابة أن نجد لديه محاولات للكشف عن خفايا وبقايا خبرات طفولته . وأول ما يمكن ملاحظته في تلك الخبرات هو الالتصاق بالمكان ، بمعنى آخر فأن ( أدونيس ) لا يعيش طفولة زمانية مجردة ليس للمكان دور فيها . ولذلك فهو يشير الى مكانية الأحداث التي عاشها إبان تلك الفترة . فلدى الشاعر إذن مشاعر الالتصاق بأرض معينة ومحددة بالنسبة إليه ، لها معالمها وأنساقها وحلاوتها وما الى ذلك . وهذا ما نلمسه في قصيدته المهداة الى ضيعته والتي سوف نحاول قراءتها أولا وانطلاقا من الاعتبار الذي يضع في حساباته زماكانية أحداث الطفولة . صحيح قد يغلب أو يسبق الإحساس بالمكان على الإحساس بالزمان ، لان النمو الذهني للطفل يبدأ بالمحسوسات لينتهي بادراك المجردات ، ولذلك فمن الطبيعي أن يكون للمكان أثاره على نمو الشخصية أقوى من الزمان ، لا سيما في المراحل الأولى من ذلك النمو . ولا شك فأنه لا يمكن فصل بعد المكان عن بعد الزمان . و ليس من شأننا ، هنا ، الدخول في ماهية كلا البعدين ، لان هذه المسألة هي الآن من القضايا المهمة والرئيسية لعدد من العلوم الإنسانية والطبيعية على حد سواء .
يمكن القول إذن أن شاعرنا ( أدونيس ) وعلى أساس هذا الاعتبار ، قد أدرك أبعاد هذه الإشكالية . ولذلك بدأ مجموعته ( حدود اليأس ) بذكريات المكان قبل ذكريات الزمان . وليس من داع الى الدخول في تحديد الدوافع التي جعلت من شاعرنا أن يسمي مجموعته الأولى هذه بهذا العنوان ، ذلك لان الخطاب الذي تتضمنه قصائد هذه المجموعة هو الذي يؤكد تلك الدوافع بصورة جلية وواضحة . وسوف نرى طبيعة تلك الدوافع من خلال قراءتنا المتأنية لتلك القصائد . … و لنبدأ بقصيدة ( صلاة الى الضيعة ) وهذا الابتداء قائم على الاعتبار الذي انطلقنا منه قبل قليل ، حيث يصلي ( أدونيس ) الى ضيعته قائلا :-
ضيعتنا في التل شبابة
مصدورة اللحن
تغفو على أنغامها
تغفو بلا جفن
أطفالها نوافذ أغلقت
في وجهها الأرض
كأنهم فيما يعانونه
ما رضعوا ثديا و لا عضوا .
ضيعتنا تبكي ففي دمها
يغتسل المحل
وتلها الاجرد والسهل ،
ضيعتنا تبكي بلا جفن
مصدورة اللحن
تقول هدمت فمن يبني ؟
( الأعمال الكاملة ، المجلد 1 ، ص 11 )
***********************
تلك هي إذن صلاة ( أدونيس ) الى ضيعته . وهي ، على ما يبدو ، صورة من صور الرثاء ، توجه بها الشاعر الى تلك الأزقة والبيوتات التي تتكون منها تلك الضيعة . وهذه الصلاة هي على مقاطع .. ألا أن هذه المقاطع تربطها وحدة الموضوع ألا وهو التعلق بالمكان والتثبيت عليه . والسمة الرئيسية لهذه الصلاة هي سمة الحزن والأسف على ما آلت إليه تلك الضيعة التي عاش ( أدونيس ) بين أزقتها وشوارعها أعوام طفولته الأولى . ويمكن أن نلاحظ علامات الحرمان والفارغ العاطفي لدى أطفال الضيعة ، و( أدونيس ) هو واحد منهم ، إن لم يكن هو المعني على وجه الحصر . كما أن المكان مقفر وخرب وصور الجوع والتشرد والبيوت الهرئة هي علامات مميزة لهذا المكان . وهذا الوصف للمكان إنما هو ، على ما يبدو ، امتداد للجو الأسري أو البيئي المشٌبع بالحرمان والذي عاشه ( أدونيس ) . وهناك تأويل آخر يمكن أن نستفاد منه . هذا التأويل عبارة عن فكرة مفادها أن أحساس ( أدونيس ) بالآخر والتعاطف معه ومع ما يعانيه ، إنما هو أحساس نشأ معه منذ نعومة أظفاره . و ( أدونيس ) يبكي على ضيعته هذه ، سواءا أكان هذا البكاء نتيجة لانجراح المكان ( الضيعة ) وتمزقه ، أو لانهياره أمام الآخر وخضوعه له . وفي كلتا الحالتين فأن موقف ( أدونيس ) هو موقف الراثي … موقف المتفوق … موقف البطل … وفي هذا الإحساس وحده إشباعا لجوعه وارواءا لعطشه !!! . ولذلك يرى ( أدونيس ) في هذا العالم ، منطلقا في بناء تصوره هذا من وحشة ( ضيعته ) وخرابها ، خراب العالم ووحشته . ويجد ( أدونيس ) نفسه وحيدا في هذا العالم منعزلا عنه ومغتربا فيه . وذلك الإحساس وصفه لنا ( أدونيس ) في قصيدته اللاحقة والمعنونة ب ( صورة ) . حيث يقول :-
ماش على أجفانه سادرا
يجره مديد آهاته
تلطمه الحيرة آنى مشى
كأنها سكنى لخطواته
علق بالغيب فأجفانه
رملية الأفق
كأنها ، من يأسه ، شمسه }
تغيب في الشرق } هنا الإحساس بالاختلاف عن الآخر
يكاد في مثقل أناته
تعثر بالموت شرايينه
ويولد اللاشيء في ذاته
( المجموعة الكاملة ، المجلد الأول ، ص12)
************************
ذلك هو ( أدونيس ) إذن . انه الضياع بحد ذاته . ألا تنطبق هذه الصورة التي قدمها لنا ( أدونيس ) عل المتشردين والفقراء واليتامى … بل حتى المجانين ؟ ونحن قد قمنا من خلال دراسة سابقة بقراءة هذه القصيدة على أنها صورة ل( أدونيس ) وهو يبحث عن الحقيقة ويسعى الى فهم معنى العالم . إلا أن هذا لا يمنع من أن تكون هذه الصورة أو قل هذه الحالة state التي يعيشها ( أدونيس ) هي امتدادا لطفولة بائسة ومفعمة بالحرمان والنبذ والشقاء . وها هو ( أدونيس ) يؤكد لنا هذه الحقيقة من خلال قصيدة أخرى تحمل عنوانا يقبل مثل هذا التأويل . وهذه القصيدة بعنوان ( حديث جائع ) ، حيث يقول :-
جوعان ، أرهقني المسير
وأنفت قلبي .
يا جوع ، سد على دربي
حتى يقر بي المصير
متفسخ القدمين ، مسلول الطريق
متيبس الأعماق والدم والعروق
امشي كمن يتقهقر ،
وبحاله يتعثر
مالي أسير و لا أسير ؟
ويشار ألي : هذا فقير
جمد الزمان على يدي
جمدت يدي
وتهدلت عيني وجرحها السؤال
وإذا تشربني عذابي ،
وأنهد في صدري شبابي ،
جمعت حال وانطويت
وعلى تهدمي ارتميت .
جوعان . . يأكلني النزيف
و يعيش في دمي الخريف
ويكاد ينكرني الغد
والموسم المتجدد ،
ويكاد ينكرني الرغيف .
( المجموعة الكاملة ، المجلد الأول ، حدود اليأس ، ص18-19)
******************
لم يكن الوقوف عند هذه القصيدة تجاوزا لقصيدتيه السابقتين هما ( أغنية الى الطفولة ) و( البيت ) بقدر ما كان محاولة للربط بين هذه القصيدة والقصيدة السابقة وقراءتها على ذات الأساس . وهذا الأساس هو الحرمان منذ بواكير الطفولة الأولى . والواقع أن أغلب عنوانات قصائد هذه المجموعة .. أن لم يكن جميعها ، تحمل هذه الدلالة وهذا المعنى . فالمجموعة وفق هذه النظرة مخصصة ، بشكل أو بآخر ، لهموم الطفولة عند ( أدونيس ) . ها هو ( أدونيس ) يصف لنا عبر مقاطع هذه القصيدة قطاع يومي من أيام الطفولة تلك . وهو يبدو فيها مشردا فقيرا يحتاج إلى من يمد إليه يد العون . وسواء أكانت الحاجة مادية ، أعني تتعلق بإشباع الحاجات الأولية ، أم كانت تتعلق بإشباع حاجات الحب والانتماء والتقبل ، فهي أمر واحد على المستويين . إذن ( أدونيس ) هنا يعيش حالة الولد الفقير واليتيم المشرد الذي هجره الآخرين . فهو بهذا المعنى منقطع عن الآخرين وليس من جسور لتواصل بينه وبينهم . فالإحساس بالاغتراب كان ملازما منذ بواكير طفولة ( أدونيس ) . وهذا الاغتراب سيتحول ، كما سوف نلاحظ فيما بعد ، الى اغتراب يشمل كل جوانب الحياة لديه . ولكن ما دمنا في فترة الطفولة فأننا ملزمين بالبقاء في دائرة هذه الفترة . وإذا كانت القصيدة تصف لنا ( أدونيس ) وهو في الخارج ، فقصيدة ( البيت ) تصف لنا الجو الأسري وما يكتنفه من ملابسات ومفارقات عاشها الشاعر في سماء ذلك الجو . هاهو يقول :-
حكاية العفريت يا بيتنا
بعد ، على شفاهنا تخطر
يخبئها المحراث والبيدر
فيك تعرفنا على حالنا
فيك حلمنا بالمجاهيل
نقفز من كون الى آخر
نطفر من جيل الى جيل
( المجموعة الكاملة ، المجلد الأول ، ص 17)
************************
الصورة التي يصفها لنا ( أدونيس ) في هذه القصيدة هي صورة لبيئة قروية ريفية صرفة . بمعنى آخر فان ( أدونيس ) لم يكن حضريا في النِشأة ، أي أنه لم يعش أجواء المدينة ولا تعقيداتها في الحياة اليومية . لكن هذا لا شأن لنا به ، على الرغم من أهميته ، على النمو النفسي للشاعر . وما يهمنا ، هنا ، هو أسلوب ونمط التنشئة التي رزح تحت تأثيرها ( أدونيس) . وأسلوب التنشئة ، على ما يبدو ، هو أسلوب تسلطي تفوح منه رائحة القسر والتخويف والإلزام . وصورة العفريت أو مفردة العفريت ، إذا صح التعبير ، إنما هي رمز لذلك الأسلوب من أساليب التنشئة . و لا نريد أن نمضي الى ابعد فنقول أن العفريت لا يعني فقط صورة الحيوان الخرافية في الحكاية الشعبية بل الى كل ما هو خرافي في النظرة الى العالم في بيئة ( أدونيس ) الأسرية . فتلك البيئة المشبعة بالخرافة والتهويل قد حركت مخيلة الصبي ( أدونيس ) ليعيش حالما في أفق تلك الخرافات ، من جهة ، وحفزته ، أعني حفزت قدراته العقلية ، فيما بعد على ما هو عليه ، أي يتحول من ( علي أحمد سعيد ) الى ( أدونيس) من جهة أخرى . وهذه نقطة مهمة في التكوين الروحي لأدونيس . ولهذا نجده فيما بعد باحثا ليس فقط في تراث أسرته أو انتمائه بل في تراث أمته وحضارتها على وجه العموم .
ومن هنا التمرد والرفض والانسلاخ عن كل ما لايمت الى دائرة المعقول بصلة . وهذه هي النقطة الرئيسية والأساسية في خطاب ( أدونيس ) الى الآخر . أعني الى أمته تاريخا وحضارة . فهو بهذا المعنى ، نبي العصر الجديد . ولعل الباحثين في سيرة ( أدونيس ) سيقفون عند هذه النقطة بعناية أدق . ولكن ( أدونيس ) نفسه قال أنه صاحب خطاب ثورة وتغيير وانقلاب في المفاهيم …. كل المفاهيم !! . وهو بهذا المعنى شخصية قلقة في الأمة ( 3 ) شأنه شان الشخصيات القلقة التي ظهرت في أمته عبر تاريخها الحضاري . ولم يجد ( أدونيس ) من يوجه إليه ذلك الخطاب . فعاد القهقرى ووجهه إلى أخوته … أبناء جلدته …. أبناء الأمة . وذلك هو ما نجده مبثوثا في قصيدته الواضحة القصد والمعنونة ( الى أخوتي ) حيث يقول :-
سننحت للفقر تمثال حب نقي
كنطفة شهد ، كدمعة
ونحرقه في الدياجير حرقا
سنخبئه في المحابر حرفا
من الفجر أحلى من النور أصفى
ونكتبه قصة – كل سطر شعاع
ورعشة قلب وخرقة
وبقيا رغيف
ودوخة حس ووعي وشهقة
وخضرة ريف
سألتكم عن خوان عتيق
كسير الجناح
ترى بعده حلف رتق وفتق
ونضو جراح ؟
وهل ، يا ترى ما يزال فراشي
على عهده- صدئ الحاجبين
هرئ الحواشي ؟
وكيف ، ترى بيتنا – هل تداعت قرانيه ، أم لا تزال تقاوم
وتحضنها من هنا وهناك دوال وأغصان توت روائم
وطاقاته ، حين كنا نوعوع منها ونزقو
فيجمح فينا دم قزحي ويشرد عنق
ترى ، بعد أهدابها لا تنام
مقرحة غاب عنها حبيب وفر مرام ؟
سألتكم عن قريب مريض وحار فقير
سألتك عن حصير
يشق يرقع لا هو يبلى ولا الرقع المأتمية تبلى
قدرنا البقاء له وللخلود ولو تخ عودا وخيطا وشكلا
احباي عندي لكم كل سر فسيح كهذا الوجود الفسيح
أوائله أن نغير معنى الحياة ونشرب كأس المسيح
( المجموعة الكاملة ، المجلد الأول ،ص26)
****************
ذلك إذن هو الخطاب الذي وجهه ( أدونيس ) الى من له أذان للإصغاء . إلا أن هذا الخطاب لم يحرك ساكن ، لآن ( أدونيس ) يكرر ذلك الخطاب عبر مجاميعه الأخرى وعلى لسان شخوص قصائده . فخطابه بهذا المعنى خطاب يتيم … لم يكن له ذلك الحضور الذي كان ينشده . وهاهي قصيدة ( اليتيم ) تعبر عن فحوى ذلك الخطاب . حيث يقول :-
شارد كالظل ، يحدو طيفه
الم داج وآهات ثقيلة
ظامئ ، تمرح في مهجته
وعلى جفن مناه حلم
عالق ، يأبى هداه أن يزيله
عشق اليقظة لا غفو الهوى
ونبات القفر لا زهر الخميلة
وجنة كفٌنها ثوب الرؤى
وجفون بندى الغيب بليلة
خلع اليتيم عليه حللا
يحسب النذر من العطف دمى
وأراجيح وأفياء ظليلة
وهي الدنيا ، يروي فم اليتيم فصوله
هيكل مقلوعة أحجاره
من بطاح بالأساطير غسيلة
سكب الحب على أعطافه
صورا رائعة الوشي جميلة
أيها العاثر في منهجه
شمعة راجفة الضوء ضئيلة
لملم الآمال واسفح طيفها
فوق جفنيك ودفق سلسبيله
وأرو للناس أقاصيص النهى
ولدنياهم ، حكايات الفضيلة
رب يتم’ علم الناس الهدى
وكسا الدنيا غلالات البطولة
قصة التاريخ يتم ، يممت
صهوة المجد هواه وسبيله
( المجموعة الكاملة ، المجلد الأول ص28)
*********************
تلك هي صورة أخرى يعبر من خلالها ( أدونيس ) عن قطاع الطفولة من حياته ، وهو قطاع يتصف بمستوى فريد من الطموح ورغبة جامحة في الأمل . الا أن هذا الطموح وهذا الأمل ، لا ينصب إلا في خدمة الانا ، أعني ( أدونيس ) نفسه ، لكي يصبح كائنا منفردا بطلا فوق جميع الأبطال !! ويغزو أمجاد التاريخ ، وهذا ما يتجلى في القسم الأخير من القصيدة . فالشاعر يوجه السؤال الى نفسه بطريقة لا تفوت الدارس اللبيب ! وأيا كان اليتيم ، فان المعنى واحد ولا يغير من الأمر شيء . ف( أدونيس) هو اليتيم الذي علم الناس الهدى !!! وإذا لم يكن كذلك ، فهو قد تماهى بالرسول العربي الذي وجه إليه الخطاب القائل ( ألم يجدك يتيما فأوى ..ووجدك ضالا فهدى…) والقصد واحد وهو أن ( أدونيس ) يريد أن يكون مثل ذلك الذي كان ضالا فوجد . وهذه أمنية ما بعدها أمنية وقد تفيد هذه الملاحظة أولئك الذين سيقمون بعملية أرخنة للسيرة الذاتية ل ( أدونيس ) ، خصوصا إذا وضعنا في الاعتبار انتماء الشاعر الى الفرق الباطنية … والتي تسعى وراء التأويل ومناغاة المجاهيل . وهذا ما نجده متجليا في مقدمة المقطع الثالث من القصيدة . ونتيجة لهذه الآمال وهذه الطموحات ، فأن ( أدونيس ) حمل نفسه أحمالا أكثر من طاقاته . ولذلك فقد أدركه اليأس حالما أدرك انه لن يصل الى ما يريد . وهذه النتيجة قد عبرت عنها قصيدته ( صورة وصفية ) من نفس المجموعة (4) .
لقد عاش ( أدونيس ) خبرات طفلية مؤلمة تسودها المرارة والحرمان والحزن . ألا أن ( أدونيس ) لم يكن بطلا كما كان يريد ، أعني أنه لم يتجاوز مرحلة التماهي بالرمز ومحاولة تكوين رمز شخصي منفرد له ولذلك كان هذا اللجوء والاعتماد على الأب أو قل الله …. أو ما شئت من مسميات . المهم هو أن ( أدونيس ) لا يزال محتاجا الى الحماية وتملأ قلبه مشاعر الاعتماد . وهذا ما نراه واضحا في قصيدة ( عباءة ) حيث يقول :-
في بيتنا عباءة
فصلها عمر أبي }
خيطها بالتعب } مشاعر الاحترام والتقديس للقوي
تقول لي – كنت على حصيرة
كالغصن المتجرد
وكنت في ضميره
غد الغد
في بيتنا عباءة
مرمية مبعثرة
تشدني لسقفه } مشاعر النكوص الى فترات مرحلة الاعتماد
لطينه للحجرة
المح في ثقوبها
ذراع المحتضنة
وقلبه ولهفة في قلبه مستوطنة
تحرسني تلفني تملأ دربي أدعية
تتركني شبابة وغابة وأغنية
( المجموعة الكاملة ، المجلد الأول ، ص 37-38 )
*********************
ذلك هو ما يريده ( أدونيس ) من الداخل ، أعني من داخله … أن لا يكون متروكا يتيما ، مشردا … وحيدا …. مرفوضا .. بل تحرسه أدعية الأب … عناية السماء ، ليعيش في الغابة أي في العالم ممتلئا من نشوة الانتصار والظفر .
وإذا كانت تلك الذكريات التي حاولنا أن نسلط الضوء عليها .. قد علقت في ذاكرة ( أدونيس ) فهي ذكريات تعبر عن محنة عاشها الشاعر في فترة طفولته ولذلك فإنها قاومت النسيان وأصبحت ذات سطوة عليه …
الهوامش :-
1- بهنام ، شوقي يوسف ، هذا هو أنا أيها الأخر أو أدونيس والحاجة الى تحقيق الذات ، مجلة أفق الثقافية ، 7/10/2005 على موقع أفق على شبكة الانترنت .
2- لابلانش – بونتاليس ، 1987، معجم مصطلحات التحليل النفسي ، ترجمة ، د. مصطفى حجازي ، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر ، بيروت ، لبنان .
3- استعرنا هذا التعبير من كتاب ( شخصيات قلقة في الإسلام ) للدكتور عبد الرحمن بدوي ، 1977 ، ط3 ، وكالة المطبوعات ، الكويت .
4- بهنام ، شوقي يوسف ، المصدر السابق .