د. أنور غني الموسوي : اللغة الهامسة عند “عادل قاسم”

anwar ghani almosawi(سَأَجيئكِ \ هارِباً \ مِنَ الضجيجِ .. \ والضَجَر \ لِجَنَتَكِ ألصاخِبهْ \ بالسَكينهْ )
عادل قاسم
لطالما أبهرنا جمال الشعر ، الا انّه و منذ ظهور قصيدة النثر صار للشعر مفهوم اخر ، وصارت اللغة تبرز بقوة اكبر و تتمظهر بأشكال أوضح ، و صارت محور الجمال ، و مركز الابداع .
لقد اغدقت علينا قصيدة النثر عوالم رائعة من اللغة الجميلة ، و ما عاد الامر محتاجا الا الى تركيز و تأمل و تذوّق فذّ كي ترى كل ذلك السحر في لغة الشعر النثري .
لقد تناولنا و بواقعية أشكالا جميلة من لغة الشعر النثري ، و كان لبعضها حقيقية لا يمكن تجاوزها ، و من خلال تتبعي للغة التي يكتبها الشاعر العراقي الفذّ عادل قاسم ، دوما كنت احسّ انه يهمس في بوحه و كلماته ، و يتخذ هذا الهمس اشكالا و صور متعددة يكون من الجميل تتبع تلك الصور و الاشكال لثراء هذا اللون الجميل و اللغة المتفردة .
تتمظهر اللغة الهامسة في شعر عادل قاسم بمظاهر مختلفة و كثيرة ، منها ما يعتمد على الالفاظ و منها ما يعتمد على المعانى و منها ما يعتمد على الصور . تتجلى اللغة الهامسة في صور لا تميل الى الحدّة ، و كثير من جوانبها مؤجلة ، و يكون البوح واصلا الى المتلقي من خلال ارتدادات و هزات بعيدة عن التلقين ، بالفاظ همسيّة و معاني رقيقة ، و كلّ متابع لشعر عادل قاسم يجد ذلك شاخصا في كتاباته . ونجد ذلك جليا في مقطع بوح رقيق يقول فيه :
( سَأَكْتَفْي..
بِالتَبَصِرِ
ﻷنَ كُلَ ماخَلْفَ..
تِلْكَ السِتارةِ الباليهْ
الرَتِيبْة
ثلجٌ ناصِعُ البياضِ
أورُبَما سَوادٌ فاحِمْ
ﻻشيءَ
ثابِتَ
كلُ شيء ينهارُ
وَيَنْبجسُ من جَديد..ْ
بِوجْهٍ آخَرَ )

ان هذا المقطع عال الشعرية احتوى على مجموعة من العناصر الاسلوبية للغة الهامسة الا ان ابرزها هو الهمس التصويري ، فنجد الافعال ( ساكتفي ، و ينهار و ينبجس ) و الاعمال التي يفعلها المتكلم ( التبصّر ) و الاحوال التي تظهر بها اشياء الصورة ( الستارة البالية الرتيبة ، ثلج ناصع او ربما سواد ، و كل شيء ينهار و ينبجس من جديد ) ان هذه التشكيلة التصويرية ، تقدّم بوحا رقيقا و هامسا و تُوصِل الفكرة و المراد الى المتلقّي ليس عبر الصوت العالي و التلقين ، و انّما بهمس و بهدوء بوحي و فكري و تصويري .
و في صورة اخرى ، يكون فيها المسار للشيء الشفاف و الرقيق ، و الذي يبرهن على وجوده و حاله بالفعل و الوجود و ليس بالقول و الكلمات حيث يقول :
( سَأجيئكِ
مُختصِراٍ..
كُلَّ المسافاتِ، المَجَرآتِ،
السُدُمَ، النُجومَ،…
ألسابحهْ في هذا ألكونِ
ﻹُبَرْهِنَ للضوءِ
إنَ شَوقيَ إليكِ
كَفيلٌ بِهزيمَةِ
كُلَّ قَوانين الفيزياءْ )
ان هذا الشكل من المجيء و هذا الشكل من الوجود ، الذي يجتاز المجرات و السدوم و النجوم ، لا يمكن الا ان يكون اثيريا و رقيقا مكونا بذلك بوحا هامسا يوصل الفكرة و المراد الى المتلقي عبر هذا التصوير الرقيق .
و في لوحة رائعة و شاعرية و ببوح عال المستوى ، الا انه يعكس الروح الهامسة للشاعر ، و الميل الفريد للسكون و الهدوء ، البالغ حد الهروب من الضجيج و الضجر حيث يقول :
( سَأَجيئكِ
هارِباً
مِنَ الضجيجِ ..
والضَجَر
لِجَنَتَكِ ألصاخِبهْ
بالسَكينهْ )
لاحظ كيف امتلأت هذه اللوحة بحروف هامسة ، و كيف بلغ التعبير فيها مداه بالهروب من عالم الضجيج نحو عالم السكينة .
و في لوحة هائمة من الانتظار ، التي رغم تصاعد صوت البوح فيها ، الا ان اشياء الصورة لا تبرز الا ككيانات مكانية في لوحة معنوية مرتبة ، و رغم عمق الألم و البوح الا انّه بوح رقيق ، و بتعبير هامس أخّاذ قلّ نظيره ، يقول عادل قاسم :
( إنتظرتُك
أنا والليالي العِجافْ
والحَروبُ تَطْرَقُ…
بابي..
والمَوتُ وَالجَفافْ
إنْتَظَرْتُكِ
أنا وَالبلادُ القَتيلهْ
أَموتُ ألفَ مَرَّه….ٍ
كُلَّ لَيلهْ
ﻷنكِ البلادْ
ﻷنَكِ حبيبتي..
…………….بَغْدادْ )
ان هذا المقطع الذي استطاع الشاعر فيه ان يجمع بين المشاعر و العواطف المتأججة و بين بيان الواقع المؤلم و الميرير من جهة و من جهة اخرى ان يأتي كل ذلك بلوحة رقيقة تناغم الروح الهامسة و الشفافة للشاعر .
و في مقطع بوحي رقيق نجد الشاعر يعبر ايضا عن طلبه للسكينة في عالم فقدها بالكلية حيث يقول :
( هذا الصباحْ…
آليتُ أْبْرِد..
حَّرَّ ..
ماولى..
وَأَذرَتهُ الرياحْ
فمَرَرتُ
أَسْتَجْدي السَكينهْ
فَلَمْ أجِدْ
غَيرَ الشَواخِصَ
وَالنَهارَ المُسْتَباحْ )
و نلاحظ ايضا اسخدام افعال مهمة في صياغة الصورة الهامسة ( ابرد و اذرته ، استجدي ، مررت ) كلها افعال تعمل على نقل المعاني و التصويرات الى عالم من الرقة و الهدوء .
و يتجلى ايضا البوح الهمسي للفقدان و الخسارات في مقطع رقيق يقول فيه عادل قاسم
( أُحدِقُ
في الوجوهِ
لَعَلَّ
وَجْهِّيْ
أراهُ
مُعَلَقَاً
بَينِ الوجوهِ )
و في مقطع يعبر فيه الشاعر عن همسه بصراحة ، و انه يهمس بوجعه و شكواه ، فيجد يد الحبيبة مأوى يستعير يد أمّه حيث يقول :
( كُلما…
أهمسُ شاكيا..
وَجَعيْ..
تَسْتعيرينَ..
يَدَ أُميَّ
وَتُمَسِدينَ..
على. .
ماتَبقى من خُصﻻتَ..
شَعْري..
أزدادُ…يَقيناً..
إن أُمِّي..
لَمْ..
تَمُت بَعدْ )
من الواضح ان للغة عادل قاسم فرادة ، بألفاظ و معانٍ و تراكيب واضحة الخصوصية ، خلقت لها عالما خاصا ، و فضاء مميزا يقوم على الهمس و البوح الرقيق .

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| جمعة الجباري : قراءة الدلالات الشعرية عند الشاعر صلاح حمه امين في ديوانه “عقارب الساعة التاسعة”.

* صلاح الدين محمد أمين علي البرزنجي المعروف بالاسم الحركي صلاح حمه أمين،  شاعر وفنان …

| اسماعيل ابراهيم عبد : على هامش ذاكرة جمال جاسم امين في الحرب والثقافة – تحايثاً بموازاة عرضه .

الكاتب جمال جاسم أمين معروف بين المثقفين العراقيين باتساع نتاجه وتنوعه كمّاً وجودة , فضلاً …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *