وريقات قديمة في معطف قديم*
تأليف د. زكي الجابر
إعداد وتعليق د. حياة جاسم محمد (ملف/23)

Zeki aljaberإشارة :
يهم أسرة موقع الناقد العراقي أن تقدّم هذا الملف عن الشاعر المبدع والإعلامي الكبير الدكتور زكي الجابر بمناسبة الذكرى الثالثة لرحيله حيث غادر عالمنا في الغربة يوم 29/كانون الثاني/2201 . وتهيب أسرة الموقع بجميع الأحبة الكتّاب والقرّاء المساهمة في هذا الملف بما يملكونه من مقالات أو دراسات ووثائق وصور ومعلومات وذكريات عن الراحل . وسيكون الملف – على عادة الموقع – مفتوحاً من الناحية الزمنيّة .ويهمّ اسرة الموقع أن تتوجّه بالشكر الجزيل إلى الناقدة السيّدة د. حياة جاسم محمد على مساهماتها البارزة في هذا الملف ودورها الأصيل في حقظ تراث المبدع الراحل .

المقالة : 
ذلك المعطف ارتديته سنين طوالا، عجافاً وسماناً، وخلال تلك السنين كنت أزرع في جيوبه وحشاه وثنياته وريقات أحداث وأحاديث عركتها وعركتني. ثم كان ودبّ التهرؤ إلى تلك الوريقات، اصفرت الصفحات وتساقطت الأطراف، وإذ بدأتُ بقراءتها من جديد ساورني الظن بأنها تماثل كرمة ميخائيل نعيمة**، تتدلى على الدرب وفيها الحصرم وفيها العنب، وعابرو السبيل يقطفون، فمنهم من يضرس، ومنهم من يحلو له المذاق، ومنهم من يعتصرها رحيقاً يدبّ في العروق دبيب النمال في الرمال. فإليكم يا عابري السبيل، وكلنا عابرون، بعضاً من تلكم الوريقات، انتزعتها من جيوب معطفي القديم وحشاياه وثنياته.
********************************************
حكاية أول فيلم تلفزي سينمائي عراقي***
بدأت حكاية هذا الفيلم مع النشأة الأولى لتلفزيون بغداد، ولعلك تدري بأن العراق أول دولة من دول العرب يتأسس فيها تلفزيون تديره الحكومة، وكان ذلك في عام 1956 حين أقدمت الحكومة العراقية على شراء أجهزة البث التلفزي التي جاءت بها شركة ’’باي‘‘ البريطانية بوصفها جزءاً من مشاركتها في معرض بغداد التجاري الدولي، وكانت الغاية من شراء تلك الأجهزة هي تقديم برامج رياضية وتربوية. وقد استأثر هذا المخلوق العجيب باهتمام البغداديين، حيث نصب حافظ القاضي في مركزه التجاري وسط العاصمة كاميرة تلفزية وجهاز عرض، فترى الناس يتوافدون للمرور أمام الكاميرة ورؤية أجسادهم ماثلة على الشاشة! ثم أقيمت (بنكلة) ضمت أجهزة البث في مبنى دار الإذاعة، وارتفع برج الإرسال، واختفت الغاية الأساسية ليتحول تلفزيون بغداد إلى أداة سياسية ودعاية، وخصوصاً بعد ثورة 14 تموز، واحتلال وقائع محكمة الشعب ورئيسها المهداوي معظم ساعات البث.Zeki_Al-Jabir_play_photo_2
وعليّ الآن التوقف لأعود بك إلى الأيام الأولى لذلك البث. كانت الأفلام الغربية والكارتون قوام البرامج، وكان هناك بث حي للأخبار، ولم يكن للفيديو وجود بل كان حلماً من الأحلام. وفي ذلك الأوان جاء البصرة المدرس المصري نجيب منصور ليدرس الطبيعيات، وكان له انشغال بالمسرح والإخراج المسرحي، فتلاقى مع شاب طموح هو المرحوم أحمد عبد الوهاب، شقيق القصّاص محمود عبد الوهاب، وقد انتهى لقائي بهما إلى تقديم مسرحيتين، الأولى هزلية هي ’’السلك المقطوع‘‘ والثانية جادة وهي ’’شمعدان الأسقف‘‘ المقتبسة عن رواية البؤساء لفكتور هوغو، وقد جرى تعريق الأخيرة وإبعاد الطابع الغربي عنها. وتولى أحمد عبد الوهاب القيام بدور رجل الدين، أما دور اللص (جان فالجان) فقد كُلفتُ بأدائه، وكان النجاح باهراً، والإقبال ندر مثيله على قاعة الطلبة في ثانوية العشار وعلى خشبات مسارح متنقلة في أبي الخصيب والزبير. وقد عشق بعض طلبتي الذين دربتهم المسرح، فصاروا نجوماً، أذكر منهم المرحوم طعمة التميمي والمرحوم جبار صبري ونجيب روفائيل وعبد الإله عبد القادر. وقد ترك الأخير المسرح لينشغل بالنشاط الأدبي، وهو يحتل مكانة مرموقة في الخليج العربي.
أصاب النجاح أحمد عبد الوهاب بالهوس، فحمل أصداء عروض البصرة ببراعة لسانية إلى مسؤولي تلفزيون بغداد، فأقنعهم بأهمية عرضها على الشاشة الصغيرة حية على الهواء.
ركبتْ مجموعتنا المسرحية القطار الصاعد إلى بغداد، وانشغلنا بالتدريبات أمام كاميرتي التلفزيون وما زال غبار الدرجة الثالثة يملأ رئاتنا ويغطي وجوهنا وثيابنا. وتولى عملية الإخراج التلفزي الفنان أنور ألبير، إذا ما تذكرت اسمه الأول صحيحاً. كان ألبير هذا مجموعة كفاءات، فهو على مطلع على هندسة التلفزيون والتصوير والإخراج. لم يكتف ألبير بإخراج المسرحية، بل سجلها على فيلم تلفزي سينمائي 16 ملم (أبيض وأسود)، ولقي عرض المسرحية في تلفزيون بغداد ترحاباً بغدادياً مشهوراً. وقد دفعت هزة النجاح أحمد عبد الوهاب على أن يطوف دكاكين شارع الرشيد متعرفاً على أصداء المسرحية ومشيراً إلى دوره.
اصطحب أحمد عبد الوهاب الفيلم معه إلى البصرة ليعرضه على جمهورها باعتباره فيلماً سينمائياً. كانت قاعة الطلبة مزدحمة بالمشاهدين من مختلف الأعمار، وليس ذلك بعجب، فهم يشاهدون أول فيلم أبطاله بصريون، وعند بداية العرض تعطل الجانب الصوتي من الفيلم وتململ المشاهدون، فلم يكونوا على توقع بأن الفيلم صامت، فما كان من أحمد عبد الوهاب إلا أن استعان بميكرفون وأخذ يقلد أصوات كل الممثلين. لقد كان حافظاً لكل الأدوار عن ظهر قلب.Zeki_Al-Jabir_play_photo_1
ضاقت أجواء البصرة بأحمد عبد الوهاب، فانتقل إلى تلفزيون بغداد ليعمل مديراً لقسم الأخبار المصورة في ذروة نشاطات ثورة 14 تموز، ولم يتحمل جهازه العصبي ضغط العمل وخيالات الطموح، فارتبك سلوكه واختلت موازين عقله، فانتقل إلى رحمة ربه مأسوفاً عليه وعلى حماسته.
قبل سنوات، وكنت مقيماً في المغرب، أرسلت إلى الفنان أحمد فياض المفرجي**** صوراً من هذه التمثيلية ليضعها في أرشيف مؤسسة السينما والمسرح، ويبدو أنها ضاعت مع الحدث المأساوي الذي أنهى حياة الفنان المفرجي، أو أنها صارت سلباً من الأسلاب تلاقفته أيدي اللصوص إثر احتلال بغداد، ولعلها بيعت في سوق السراي وربما سوق الهرج. وربما تسألني: وماذا عن الفيلم؟ ذات مرة التقيت صدفة بالفنان ألبير وسألته أين انتهى المطاف بالفيلم، أجابني والأسى يتكسر في حنجرته: ’’لقد احترق مع الحريق الذي شب في ستارة تلفزيون بغداد، فالتهم الحريق الفيلم وجهاز عرض الأفلام (التلي – سيني) وعدداً من الأشرطة الإخبارية والغنائية‘‘.
لعلك تجد أيها القارئ بعض العزاء في الصورتين المصاحبتين لهذه الحلقة من الوريقات القديمة، وفيهما يظهر اللص جان فالجان، كاتب هذه السطور، وهو يحمل الشمعدان المسروق وعلى وجهه علامات الدهشة حيناً وعلامات الأسى حيناً آخر.

هوامش : 

* نشرت في مجلة القيثارة، ديترويت، الولايات المتحدة، العدد 7-8، 2005.
** إشارة إلى كتاب ميخائيل نعيمة (لبنان، 1889-1988) المعنون “كرم على درب” (دار المعارف، 1946).
*** أشرتُ، حين نشرتُ “حوارية” زكي عن بدري حسون فريد، إلى أنه مارس المسرح ممثلاً على خشبته، وفي هذه المقالة توضيح لتلك الإشارة.
**** أحمد فياض المفرجي (بغداد، 1936-1996)، درس التمثيل في معهد الفنون الجميلة. عني بتوثيق المسرح والسينما في العراق.

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| فراس حج محمد : تخليد الأصدقاء في الكتابة أمر بالغ الأهمية.

كم بدت لي هذه المسألة مُهمّة، الكتابة عن الأصدقاء، هكذا فعلتُ- على سبيل المثال- في …

حــصـــرياً بـمـوقـعـنـــا
| رنا يتيم : إشكاليّة المثقّف والحداثة .

بطيئة كانت عجلة التاريخ فيما يتّصل بالابتكارات، والتحديثات. ثم كانت الثورة الصناعية، بمآزره فكريّة فلسفيّة، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *