في اقصى جنوب العراق حيث غابات القصب والبردي تتمايل مع نسائم الهواء العليل تناعم الحرف مع الطين في اولى الابجديات على الأرض المعمورة حيث (شبعاد)(1) تمسك بقيثارتها تعزف لحناً جنوبياً حزين كتب بماء دجلة والفرات وهما يشقان طريقهما صوب شط العرب وعلى نهر (الغراف)(2) جلس داخل حسن(3) يلاعب باصابعه مسبحته التي لم تفارقه حتى اخر لحظة.. وسمرة الوجه والاشياء والخضرة التي تمتد على طول الاهوار لذا سمي هذا الجزء من العالم بـ(أرض السواد) حيث للطين مع الإنسان حكاية يمتد تاريخها لاكثر من سبعة الاف سنة قدم خلالها للبشرية شريعة الحياة ونبت اولى الحروف مع حقول رز العنبر لذا بقية هذه الحروف عطرة حتى يومنا هذا.جنوب العراق حيث الحضارة السومرية والاكدية والمذار والبابلية منطقة قدمت لنا انجازات مازلنا نغترف من مناهلها وكانت السبب في دوران عجلة الحياة بفضل شريعة حمورابي ودولاب الماء والكتابة المسمارية التي تعد اولى الكتابات التي ظهرت على الأرض.عانت هذه المنطقة من تجفيف مصدر ثروتها وسر وجودها الا وهو حياة الاهوار فمات القصب والبردي هاجرت طيور الاوز بحثاً عن مأوى اخر واصبحت ارض جرداء لا ماء ولا سمك حتى (المشحوف)(4) الذي كان (يطر)(5) الهور و(الفالة)(6) بيد السمراء نام على جرف متصخرغادرته الحياة.وبعد هذه السنوات العجاف بدأ الماء ينسال بطيئاً الى الاهوار ليبث الحياة في ارض الحضارات والمعاناة.سبعة الاف سنة من عمر هذه المنطقة سجلتها عدسة الفنان العراقي المغترب احسان الجيزاني المقيم في المانيا عبر عدة معارض تناولت هذا الموضوع حاول خلالها اظهار جملة اشياء عن ربط الماضي بالحاضر وقصة الطين وعلاقته بالإنسان والماء والبردي والقصب والحياة والموت والامل الذي بدا حاضراً في عيون الاطفال وحالة الحزن التي طغت على ذويهم وجملة من تناقضات سجلتها عدسة الجيزاني، ولعل هذه الثنائية كانت حاضرة في معظم معارضه الفوتوغرافية التي اقيمت في داخل العراق وخارجه وكان لجذوره الجنوبية دور كبير في اظهار ملامح اناس هذه المنطقة ورسم خارطة وجوههم المتعبة والتي تحمل تفاصيل الحياة والموت معاً، هذا التناغم الثنائي ولد نوع من الالفة المعنوية التي ينشدها وراح عبر عدسته الفوتغرافية يلتقطها.. القوارب النهرية (المشاحيف) نامت على جرف الانهار والاسماك الميتة التي اصابها نوع من الوباء الجماعي والارض الخضراء متصحرة تعاني الظمأ بعد ان هجرها الماء قسراً الى المجهول الذي لا نعرف اسبابه، والتجفيف والسدود المصطنعة وأهم ما يميز لقطات عدس الجيزاني الثنائية انها لا تنهي ما بين الماء والطين لان كلاهما مكمل للاخر وبدونهما لا يمكن للحضارة ان تقوم على أي بقعة في العالم وكيف بأرض قامت على هذين العنصرين الماء يعني الحياة بكل معانيها الإنسانية وعادة اغلب الحضارات التي ظهرت وجدت على الشواطئ والانهار والبحيرات فهو يعني الطهر
والقداسة والنماء الذي يشق الأرض قمحاً وعافية وسلام، اما الطين فهو الجزء المكمل للعنصر الأول فمعه يتحول الى صور تجسد الحياة وتسجل تاريخ الاشياء وهو ورقة التدوين الأولى التي ملأت رفوف المكتبات والمعابد والاديرة واماكن العبادة وهناك حلقة وصل ما بين هذين العنصرين الا وهو القصب الذي كان اداة التدوين ورسم المعالم ونقشها على رقع الطين وهو وليد هذان الابوين الماء والطين ومشروع علاقتهما الزوجية التي اثمرت عنه، ولعل القصب هذا المخلوق النباتي الذي سكن الاهوار واتخذ من الطين بيتاً له اصبح يرمز للحياة بفرحها وحزنها بالرغم من ان الحزن السمة الطاغية على هذه المنطقة من الاف السنين وتواصل هذا الحزن حتى شربته جذور الاشجار وتنفسه الهواء وانسال على شكل تراتيل واناشيد يرددها الاهالي جيلاً بعد جيل حتى تحولت الى مواويل غنائية تعبر عن احساس العاشق وهو يحاكي القصب والبردي وصور الامه واهاته.حاول الفنان احسان الجيزاني نقل حالات ممتددة عبر الاف من السنين من خلال محاكاة الحضارة السومرية التي لا تعني فقط الانجازات الحضارية من ابنية واثار بل شملت الحالة المعنوية والعلاقة ما بين الإنسان والأرض من حيث هي كائن حي له وجدان وشعور والتعامل مع مفرداتها مثل القصب والبردي والماء والبحث عن سر هذه العلاقة الروحية والوجوه التي تغطيها مسحات الحزن ودلائل هذا الموضوع من خلال الرمز الذي كان حاضراً في اغلب لوحاته الفوتوغرافية التي غدت لوحات فنية تحمل ابعاد عميقة كلما تفحصناها اكثر نجد لها تفاصيل جديدة تعكس حالة منطقة من جنوب العراق ذات لمحات تاريخية مازالت حاضرة في صورة ابناءه وطريقة عيشهم واسلوب حياتهم الذي لم يتغير عن ذي قبل.
هوامش :
1-شعباد: ملكة سومرية.
2-الغراف: نهر متفرع من دجلة.
3-داخل حسن: مطرب ريفي عراقي عاش في القرن الماضي.
4-المشحوف: زورق نهري.
5-يطر: يشق.
6-الفالة: اداة لصيد السمك