إشارة :
في عيد ميلاده الثالث والسبعين ، يسرّ أسرة موقع الناقد العراقي أن تقدّم هذا الملف احتفاء بالمنجز الإبداعي الفذّ للشاعر الكبير “حسب الشيخ جعفر” وإجلالاً لمسيرته الإبداعية الرائعة . وتدعو أسرة الموقع جميع الكتّاب والقرّاء إلى المساهمة في هذا الملف بما لديهم من دراسات ومقالات وصور ووثائق تتعلق بمسيرة مبدعنا الكبير . وسيكون الملف مفتوحاً من الناحية الزمنية انطلاقاُ من حقيقة أن لا زمان يحدّ الإبداع . تحية لشاعرنا الكبير حسب الشيخ جعفر .
المقالة :
اضاء الشاعر (حسب الشيخ جعفر) قصائده باضافات هامشية توضيحية.. وذلك لغرض فهم المناخ الشعري العام الذي كتب فيه هذه القصائد، واذ اشير هنا إلى هذه الاضاءات، فلأنها مجسات حقيقية تتحسس عمق تجربة وثقافة الشاعر، ولأنها كذلك اشارات دالة تتحايث مع وعي فني / جمالي يسيطر على مدركات الشاعر ويخرج به إلى فضاء العالمية بعد ان كانت المحلية تبرق إشاراتها هي الأخرى في دم القصائد بفولكلورية واستطالات ريفية قل نظيرها، من هنا، من هذه الاختلاطات.. ترتفع (نخلة الله) لتمسك بالطائر المحنط، الذي يكوره تارةً (مرمرياً) وأخرى (خشبياً).. غير ان المرايا (عبر الحائط) تساوي بين عيون (السيدة السومرية) وهبوط ابي نؤاس.. لأن الأشياء تقف محنطة في لحظة تأمل الشاعر، الذي يحاول ان يفضح الجفاف والبور برنين (الكران)..، والكران هو العود وقيل انه الصنج في وعي الشاعر القديم ووعي الشاعر حسب الشيخ جعفر الفني والجمالي.
إن هذه الاضاءات.. هي موجهات خارجية لقراءة شعر الشاعر وتذوقه، لذا اجدني محقاً في الإشارة اليها كونها مديات فولكلورية ورمزية وإسطورية وموسيقية توفر عليها الشاعر كقوى جمالية منحت قصائده البعد الذي لا يليق إلا بها.. حيث الاستخدام (الجديد) في مزج ما هو رمزي بأسطوري، وما هو إسطوري بالفولكلوري، وما هو موسيقي حاد بما هو حلمي منساب كالماء… الخ من التوصيفات التي التصقت بخصوصيات حسب الشيخ جعفر الفنية. كما ان الكشف عن هذه (المديات) يعكس الثراء البحثي الذي يقيمه الشاعر قبل توليد القصائد، والارتكازات التي يقوم عليها شعره بصورة عامة. وان مثل هذا الكشف / الجمع.. سيعين القارئ كثيراً على فهم واستقبال الشاعر الذي شهد عقوداً ضاجة بالتحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والابداعية..، إضافة إلى ذلك فان الاضاءات تعكس قوة تمكن عالية في الاستفادة من الاسطورة والرمز والموسيقى والفولكلور، واستدراج ما هو بعيد إلى عداد اللحظة الآنية (القصيدة المعاصرة).
ان استخدام حسب الشيخ جعفر لهذه المديات الواسعة يثبت بأنه منقب كبير في التراث الانساني والحضاري. وقد آثرنا وبقصدية فنية / بحثية ان نحصي مديات الرمز والاسطورة والفولكور والموسيقى في شعر الشاعر في محاولة لكشف الجذر الذي يمد القصائد بالنسغ الحي. وكخلاصة لهذه المديات / التوضيحات..، نجد ان القصيدة عند الشاعر حسب الشيخ جعفر لم تكن وليدة لحظة إنفعال أو استرسال مباشر وتجربة ذاتية محضة..، وإنما تقوم على تخطيط مسبق مدروس لعناصرها.. بحيث يختلط ما هو ذاتي وحسي مع ما هو معرفي قادم من (هوامش) قراءته منجزات العديد من المبدعين، أو من التراث الانساني بصورة عامة، وبما ينسجم ويتوالف مع حركة خيط القصيدة الاول الصاعد من قاع التجربة الاساس والمشدود إلى جذرٍ عميق ضارب في القدم. وفي خلاصة ثانية تعكس هذه (المديات) الوضع النفسي (الجمالي) الحلمي الذي يعيشه الشاعر وجوداً وشعراً، فالنشوة الازلية هي مسعى الخلاص الذي ينشده الشاعر باستمرار…، وهكذا يقتنص كل عناصر هذه النشوة وبدلالة مديات الرموز والأساطير والفولكلور والموسيقى، وبما يتطابق مع تجربته، ومن خلال (الاستعارات) المتنوعة يضفي على هذه التجربة تنوعاً معرفياً / فنياً بحيث يجعل من كل تجارب الآخرين.. تجربة حسب الشيخ جعفر دون ان تفقد خصوصيتها.
إن عناصر النشوة / التجربة.. يكشفها هذا الانشداد الحسي العالي لموضوعات (الهبوط).. هبوط ابي نؤاس، هبوط اورفي..، كما ان هذا التحنان إلى (الحانات) ما هو إلا ملاذ حسي يقع في دائرة النشوة الازلية. (في الحانة الدائرية مثلاً)..، وان وجوه الصبايا ووجه (السيدة السومرية) يأخذ من انتباه الشاعر كثيراً، بحيث يخلط سمات الجمال في توصيف دقيق (أوراسيا).. (لا اريد ان اعطي تفسيراً محدداً لكلمة اوراسيا. فاذا شاء القارئ ان يعتبر هذه الكلمة إسماً لسيدة القصيدة فليكن له هذا، واذا رغب ان يجد في هذا الاسم التقاءً جمالياً شكلاً وعمقاً روحياً بين إمرأة آسيوية فاتنة مشبوبة وأخرى أوربية شقراء فليكن هذا ايضاً، شرط الا يهرب من بين يديه ظل القصيدة الحلمي / الزمني).
الشاعر حسب الشيخ جعفر مسكون بالدهشة (وخطى الآلهة المتثاقلة).. مسكون بدهشة الزوال..، زوال المكان، زوال الجمال، زوال الرغبة، زوال الزوبعة الثلجية، زوال لينا، زوال الروح، وزوالات عديدة داهمت الشاعر، فاستيقظ من جديد يمسك اصابع النحات لتثبيت (اللحظة) ونشوتها الأزلية.
إن موقف الصمت الذي نراه في يومياتنا الحياتية مع الشاعر.. هو انسجام كلي مع الوضع الحلمي الذي يتمنى ألا يفلت من بين يديه.. باشارة فنية إلى ان النشوة الازلية هي (مادة) متحركة باتجاه زوال ما.. وانه ينصت مراقباً هذا الزوال / الفاجع.. وما عليه إلا ان يطمئن الروح والجسد باستعادات قد تروض القلق، قلق الشاعر الحقيقي من خسارةٍ كبيرة.. لا يصح وصفها إلا بالرماد.، (رماد الدرويش).. كما ان (الريح تمحو والرمال تتذكر).. وأرى في خلاصة ثالثة ان الشاعر (حسب الشيخ جعفر) صوت فريد في مواقفه الشعرية باتجاه كيان فني / جمالي لا يقف فيه، معه إلا طوله ونشيده ومدياته ومجساته المدببة في تحسس كل جديد قادم من (قارة سابعة) وقارات اخرى.
ومن مديات التجاذب مع الفولكلور والرمز والأسطورة والموسيقى تم إحصاء الكثير، وهنا اشير إلى البعض منها وكما اوردها الشاعر في توضيحاته:
1-في قصيدة (الراقصة والدرويش) يرد اسم (أوديت).. وهو الأسم الذي يطلق في الأصل على بطلة الباليه المعروف (بحيرة البجع).. وهو يطلق في هذه القصيدة على بطلتها الراقصة التي طالما حملت هذا الاسم على المسرح.
2-(السوناتا الرابعة عشرة) عمل موسيقى معروف لبتهوفن.. وهذه القصيدة محاولة تجسيد ايقاع شعري لهذا العمل الموسيقي.
3-فيدياس: النحات الأغريقي المعروف ويمثل في هذه القصيدة محاولة الامساك بالجمال الازلي.. والقصيدة هي (الملكة والمتسول).. ويمثل ابو نؤاس محاولة البحث عن النشوة الازلية، وفي هذه القصيدة تتحد النشوة الهائلة بالجمال اتحاداً ابدياً.
4-ايريش: ايريش كيجال.. مليكة العالم السفلي في الآداب السومرية والبابلية، وأخت إنانا آلهة الخصب والحب.. وفي القصيدة السومرية (هبوط انانا إلى العالم السفلي) تهبط انانا في مملكة الموت رغبة منها في ادراك اسرارها والتغلب عليها.
5-برناسوس: موئل ربات الشعر في الاساطير اليونانية.. وكان دانتي يرى، في المطهر، ان الشاعر يقف عاجزاً عن تصوير جمال (بياتريش) الرائع.
6-في الادب السومري.. أغنية حب تعتبر من اقدم اغاني الحب في التراث الانساني.. وهي ليست بقصيدة حب دنيوية.. انما تتلوها الزوجة الملكية المنذورة في المناسبة الدينية التي تعرف باسم الزواج المقدس.. تقول الزوجة في اغنيتها (لقد اسرت قلبي.. فدعني اقف بحضرتك وانا خائفة مرتعشة. ايها العريس دعني أدللك.. فان تدليلي أطعم واشهى من الشهد..).
7-في (الرباعية الثالثة).. يلتقي القارئ بوجه حبيبة تعمل في مخزن من مخازن (باتا).. ان لها جمالاً تراجيدياً خارقاً يذكرنا بالجمال البابلي القديم. وتاييس.. التي ينحسر المغول عن لحمها في القصيدة عاشت قبل غزو الغول بقرون عديدة.
8-في قصيدة (مرثية كتبت في مقهى).. محاولة رثاء فلاح من قرانا الجنوبية. سمع الشاعر بموته يوم كان بموسكو، وتشبثه هنا بالذاكرة محاولة إمساك بالوجه الطفولي الذي كانه، وفي القرى التي تقع قريباً من غابات البردي يقتلع الصبية سيقان هذا النبات الاخضر، بحثاً عن جذوره التي تشبه الخناجر البلورية، وفي الربيع يجنون لقاحه الاصفر الغزير، ويصنعون منه بطريقة التسخين شيئاً هو حلواهم ويدعونه (خريطاً).
في جانب معين من قصيدة (النيزك) سمحنا لأنفسنا ان نقترب قليلاً مما يقول الفيلسوف (كانت) وهو يفسر نشوء الكون. لقد وصف السديم الكوني بهاوية أزل.
10-في قصيدة سومرية قديمة يتوسل (إينمركار) إلى ربة الحب إنانا (إجعلي مزار معبد آبزوا المقدس يظهر لي كالكهف).
11-مهرج السيرك في قصيدة (الدورة) يبكي كلبته التي ماتت منذ ايام، كان يحمل معه عدداً من صورها التي ترافقه اينما ذهب، وفي القصيدة إشارة إلى اغنية (لوركا) عن السائر في نومه (خضراء، خضراء، أحبك خضراء) وثمة إشارة أخرى إلى قصيدة (إليوت) – الارض الخراب التي يقول فيها (والصيف فاجأنا إذ جاء على بحيرة (شتار نبرجرزي) بشآبيب المطر.. فاجتمينا منها ببهو الاعمدة) – والزيزفون هنا يشير إلى النغمة الرومانسية المعروفة في قصة (ماجدولين).
12-في قصيدة (القعر): في محاولة (فيدون) يقول سقراط (الا تريان عندي من روح النبوءة ما عند طيور التم؟ التي اذا ادركت ان الموت آتٍ لا ريب فيه ازدادت تغريداً عنها في أي وقت آخر، مع انها قد انفقت في التغريد حياتها بأكملها، وذلك اغتباطاً منها بفكرة انها وشيكة الانتقال إلى الله).
13-في قصيدة (عيد السيول): يخاطب الشاعر بيادق الشطرنج، في عزلته وقد حبسته الامطار الغزيرة المتواصلة، وتدفقت الازقة المنخفضة كالجداول المتراكضة.. ويقول للرخ والفيل:
إحملاني إلى (الرقتين) وهي حانة لم تعد قائمة.. فهي شبح حانة فيما وراء القناة والأمطار.
14-كارون حارس الجحيم الذي يحمل نفوس الموتى في قاربه عبر نهر الدموع، نهر (اكيرونتي) كما تزعم الاسطورة و(هبروس). هو النهر الذي ألقي فيه رأس اورفيوس.
15-في قصيدة (الطوار): لينا – صديقة الشاعر التي ورد ذكرها في قصائده الأولى.. هي ذاتها في هذه القصيدة غير انها لم تعد تلك الصبية وانما في الثامنة والخمسين من عمرها.. وهي لما تزل بالرغم من الزمن.. بهية الطلعة، جميلة، وقد التقاها الشاعر ثانية عام 1989م.. وتجولا في الزوبعة الثلجية المتلوية وفي الأمكنة القديمة نفسها.
ما تقدم هو بعض نماذج من تجاذبات الشاعر حسب الشيخ جعفر مع مديات (الاسطورة والفولكلور والموسيقى والتراث الانساني).. من هنا، يكون الشاعر في موقف معرفي سابق لتوليد القصيدة ولكن باتجاه القصيدة، وان مثل هذا (المزج) قد اكسب القصيدة الحضور والاستمرار، والتفرد الفني والجمالي وبالتالي يكون التوازي الحاصل بين المحلية والعالمية هو جوهر الفعل الشعري، هو المحصلة الابداعية في عودة (الطائر) إلى (النخلة