عبد الحسين ماهود : العصرنة الخلاقة للأسطورة
قراءة: حسين سرمك حسن

” عبد الحسين ماهود ” شخصية فنية عراقية تعمل بهدوء وبلا ضجيج وتنحت في الصخر كما يُقال ، نحتا صبورا لكن عزوما حتى انطبعت بصماته في مجال بالغ الفرادة وهو عصرنة الأسطورة أو إعادة توظيفها وفق رؤيا واقعية اشتغالها الأساسي ينصب على هموم الحاضر وتمزقاته وويلات المجتمع المعاصر الجائر . ورغم أن ماهود يبرع في مجالات ابداعية مختلفة فهو يكتب المقالة الصحفية والنقدية والقصة والقصيدة ( قصيدة التفعيلة ) وسيناريو الفيلم الروائي والتسجيلي والمسلسل الإذاعي والتلفزيوني بالإضافة إلى كونه مؤلفا ومخرجا مسرحيا ، إلا أنني أعتقد أن فعله الخلاق والمميز كان أكثر نصوعا في هذا المجال : عصرنة الأسطورة التي جاء آخر نتاج له وهو ” لون السماء ” – دار الينابيع – دمشق – 2009 ، شاهدا على ذلك . ويتحدث ماهود في مقدمة هذا الكتاب التي حملت عنوان ” مسرحة الاسطورة ” عن أسس مشروعه وعن الإطار الفلسفي الذي يحكمه فيقول : ( وعند حافات التاريخ المثيولوجية نعيد صياغة الأسطورة مع فيض من خيال يحيلها إلى شكل من صور ورموز تشير إلى معان فلسفية تكشف حركة الديمومة التي تحيل الأشياء إلى مادة حية لا تدرك بطريقة علمية ، بل بطريقة إدراك حدسي يعلن عن العالم الأسطوري بصورته الإبداعية القائمة على توحيد الغرض من الأسطورة إلى مواجهة مرارة الواقع ، باستثمارها حلاوة الخيال لا الهروب من مرارة الحقيقة إلى حلاوة الخيال ، ذلك لأن الأسطورة في حد ذاتها لن تقدم غير حلول وهمية لمشاكل الحياة ، فبكرامات الصوفية مثلا يُعفى الإنسان من العمل بصدى الإحساس بالعجز حيال ظلم الملوك والجبن عن الثورة في وجوههم – ص 13 ) . وماهود لا ” يعود ” إلى زمن الأسطورة ليغرق في معطياتها وإيحاءاتها القديمة ، بل هو ” يأتي ” بها ليزاوج بين شكلها الذي يمرر تحت أغطيته أفكاره ورؤاه ، ويحمّل موضوعاتها المركزية إيحاءات معاصرة جديدة تتعلق بمأساة الإنسان في حاله الراهن الموغل في التمزقات والمهانة والإنحطاط .ومثلما كانت الأسطورة بلا وطن بمعنى أن الأساطير متناصة أولا وأن حياتنا الراهنة تنسج من أساطير مستترة تحت طبقات من المتون العلمية المعقدة التي تلوب النوازع الأسطورية في أحشائها ثانيا ، فإن ماهود في استدعائه للأسطورة القديمة يخلق أسطورته الجديدة ، أسطورة يتواشج شكلها ، ولا ينطبق تماما ، مع الشكل القديم ، ولكن دلالاتها مربكة ، متراكبة ، شديدة الإحالة إلى حقيقة أن حياتنا هي تمظهر معقلن بالغ المراوغة للمركبات الأسطورية القديمة التي لا غنى عن فعلها العلاجي المرتبط بمكبوتات لاشعورنا الميّال للأسطرة في لعبة تشكل سلاحا مخيفا ذا حدّين يمكن أن يجهض أحدهما الآخر . وفي استعادة مقتدرة للعبة التناص الأسطوري يقدم ماهود نصا عنوانه ” إيشوبا ” يخلق فيه عالما موازيا لموروث سومري تثيره حرب دويلات المدن التي هدمت الحضارة السومرية العظيمة ، حيث يحتل ” كازالو ” معبد الإله مارتو ويأسر “إيشوبا ” كاهنته وابنة ” نينابي ” الذي اقتطعه بلا تحسب قطعة أرض صارت منطلقا لعدوانه ، فيجتمع زابو ونينابي وشينابي مع الكاهن للتداول في أمر الهجوم على كازالو ومحقه ، لكن الكاهن يقرّر أن الإله مارتو لن يبارك حملتهم إلا إذا أريق دم أضحية على مذبحه ، فيقرر أن تكون ” مايا ” ابنة زابو هي القربان فتُذبح ، لكن شينابي العاشق للحياة متيم بمايا ، ولا يجد صلة بين الهجوم على كازالو وهزيمته وبين ذبح امرأة يحبها . لكن الكاهن يصر والأب الملك يوافق ، فتمتليء روح شينابي بالنقمة الساحقة على القسمة المجحفة فيقتل زابو الأب ويسلم عدته الحربية لأيميش العازف .. وفي النهاية يحل الخراب الشامل ليصيب الدمار الجميع ، فيقدم شينابي إيشوبا – بعد أن هربت من كازالو الذي افترعها ولوث جسدها – وليمة مفاجئة لأبيها نينابي الذي يقتله ، ليواجه المصير نفسه – لكن غرقا في البحر – بأمر كازالو المنتصر ، وتنبعث إيشوبا لتعانق إيشوب ( ولاحظ الطابع الجناسي للإسمين ) . ورغم أن هناك الكثير مما يُقال عن هذا النص في مجال صراع دوافع الموت ودوافع الحياة وانتصار الأخيرة الرمزي ، وتأثير السلطة والقوة في السلوك البشري ، وفلسفة الأضحية وإطلاق احتباس غريزة العدوان الذي يحققه سفك دم القربان البريء ، ورغم الاختصار المؤذي حيث كان من المكن للمؤلف أن يوسع مسارات النص ، إلا أن ما يهمنا هنا هو إطار إعادة توظيف أسطورة قديمة هي ” الإلياذة ” لتتناص وقائعها مع متخيل أسطوري قديم المبنى ولكن بمعنى يصلح لكل زمان ومكان ، وهذا ما عبر عنه المؤلف بدقة حين قال : ” تقترب الأحداث والشخوص في مسرحيتنا هذه ” إيشوبا ” من ملحمة الإلياذة بأحداثها وشخوصها ، لكنها ترتدي الزي السومري ضمن بنية اجتماعية متخيلة في إطارها الدرامي المصوّب لسهم حاد نحو الواقع المعاصر بقصد زعزعة مألوفيته – ص 16 ) . ومن خلال نفس المقترب المبتكر يستثمر الكاتب موروثا أغريقيا معروفا – هو في الواقع من طقوس الشعوب القديمة – ويتمثل بـ ” طقوس العبور ” التي يموت فيها الفرد وينبعث رمزيا – خصوصا المقبل على التحولات الجنسية الحاسمة التي تضعه على أعتاب الرجولة التي تؤهله عضويا بعد أن كان خطرا نفسيا – ليحقق دوافعه الأوديببية المسمومة المتمحورة حول رغبة مركزية في قتل الأب ، فيصوغ نصا مكثفا هو ” الرجل بلا كنغر ” يلعب فيه بصورة مبطنة على أوتار الجريمة التي شكلت مفتاح الحضارة وخلق القانون والعدالة والدين والفنون التي أنجبها الوجدان الآثم الذي شكل أول محاولات تكفيره في تصميم الطوطم ( الرجل الكنغر مثلا ) . ومن المخزون الأسطوري اليوناني يقلب ماهود أسطورة حصان طروادة ” على بطانتها ” حسب الوصف العامي . فبعد أن يعود أغاممنون قائد جيوش الأغريق ظافرا بعد حرب العشر سنوات ” حرب طروادة ” مستصحبا سبية جميلة هي ” كساندرا ” إبنة الملك بريام يجد في استقباله زوجته المخلصة ” كليتمنسترا ” – نحن نعرف أنها التي قتلت في حكاية سابقة ليوربيدس ابنتها فتصدت لها ابنتها ” إلكترا ” لتقتلها متعاونة مع أخيها ” أورست ” – التي حافظت على عرشه وشرفها من الطامعين . ولأن طروادة قد هزمت بالخديعة الشهيرة ” حصان طروادة ” ، فإن الكاتب يصمم خديعة مقابلة يسميها ” حصان أرغوس ” مملكة أغامنون عبر حصان كساندرا الناعم – غريزة الجنس – الذي دمر مملكة الأغريق كثأر مقابل . العدوان علاجه العدوان – مبرقعا باللذة المغوية – والدم لا يولد إلا الدم ، هذه أيضا العبرة الأساسية من جريمة راسكولينكوف في الجريمة والعقاب لدستويفسكي .
لكن ماهود لا يكتفي باستعادة الأساطير القديمة الموغلة في القدم في النصوص التي أشرنا إليها ومعها مسرحية – مونودراما – ” فأس من اللازورد ” التي استثمر فيها الخزين المتضخم حول إلهة الخصب – والدمار أيضا – عشتار / إنانا ، وخصوصا حكاية اغتصابها من قبل الفلاح البابلي ” شوكاليتودا ” في سابقة ذات معان خطيرة جدا حيث كان هذا أول بشري يغتصب إلهه ، بل يعمد إلى خلق أسطورة من واقعة تاريخية راهنة هي فاجعة الإستيطان الصهيوني في فلسطين ، حيث تصل براعته درجات باهرة في مسرحية ” لون السماء ” التي حمل الكتاب عنوانها ولم يتعرض لها الكاتب في مقدمته أبدا رغم أنه قدم وقفات نقدية تفسيرية وافية لكل النصوص الباقية . لون السماء هي أسطورة مأساة العصر ، مأساة عذاب إنساني مديد ومتطاول يلخص عذابات البشرية جميعا في انفلات غرائز عدوانها المسعورة المنقولة من عالم الداخل الفردي الضيق إلى ساحة الكوني الجمعي معبرا عنه بالجهد الصهيوني الكلبي الساعي وحثيثا إلى إبادة شعب فلسطين . ومن خلال ست شخصيات يهودية ( سممت إدراكاتها التطلعات الصهيونية الاستيطانية المغلفة بتفسيرات ماكرة للتعاليم الدينية ) يضاعفها الكاتب بذكاء لتصير اثنتى عشرة بفعل استحالات موقفية مدروسة فيصبح ناظر المحطة – محطة التاريخ التي يعبر فيها القطار المحطة بلمح البصر تاركا المسافرين يبحثون عن هوياتهم الشخصية – حاخاما يتهجد بنقاء العرق وعزلة العنصر وتفوقه وأفضليته على شعوب الأرض قاطبة . وقد منح الكاتب الشخصيات الست الأولية التي أدمنت لعبة الإنتظار والبحث رموزا لا أسماء ( م1، م2،م5 .. ) لتعميم النماذج وتوسيع حضورها كممثل شامل لعدوانية منفلتة ونكوصية تفتش عن الثأر في رماد التاريخ كما يفعل الحاخام وهو يخاطب التماثيل السومرية والفرعونية متشفيا منها بأن مشروع إسرائيل قائم وسيسير إلى نهاية الزمان . هذا المشروع الذي يعكسه المؤتمر الذي يلم اليهودي الألماني والروسي والأمريكي ( الشتات ) الذين يتفقون على استعباد العالم تحت تاج ملك من نسل داود بعد تحطيم الضمائر بالذهب ووسائل الإعلام التي تخلق الفتنة بين الشعوب . لكن نظرة ماهود إلى الوقائع متوازنة وموضوعية فليس كل يهودي صهيونيا ، وهذا ناطور المدينة الذي يصوم احتجاجا على قيام دولة إسرائيل ، يواجه النازح اليهودي النرويجي بقوله : ” أنا لي علاقة جيرة مع العرب ، جئت أنت لتهدد يتدميرها ” ، وهذا النازح جاء يبحث عن أرض كنعان التي ستطعمه عسلا وتسقيه لبنا حسبما يقوله كتابه المقدّس ، هذا الكتاب الذي تقرأ منه الشخصيات وقد استحالت إلى شخصيات جديدة بعد أن تضع القبعة وتقرأ الكتاب الذي عثرت عليه م2التي صارت راحال ، بعد المرور الخاطف للقطار ؛ تقرأ منه نصوصا عجيبة متخمة بالعنصرية والعدوان الدموي والوعود الاستيطانية وأسطورة الشعب المختار التي قال عنها “سجموند فرويد” متهكما : لأول مرة أسمع أن إلها يختار شعبا !! . ولكن يبدو أن هذا الشعب الذي ” اختاره ” الله لم يتم انتقاؤه ليكون أنموذجا للشعوب في السلوك المجسد للنبل الإلهي الرحيم ، ولكن كمثال حيواني لأحط ما في النفس الإنسانية من نوازع كلبية مسعورة . فهاهم يهاجمون القرى الفلسطينية الآمنة فيبيدون الرجال والنساء والأطفال ويرقصون على أشلائهم . لكن الفنان لا تغشي بصيرته الحادة غشاوة الإنكسارات وعدم توازن القوى المؤقت ، فهو منذور للحلم البشري في كل مكان ، لذلك يختم ماهود مسرحيته بمشهد تسيطر عليه الظلمة التي تنجب من أحشائها طقل العاشرة المقاوم .. طفل الحجارة .
لقد خاطبنا عبد الحسين ماهود – نحن المتلقين – في مقدمته قائلا : ” دعوني إذن أهتاج في الحفر لغاية رحم أسطوري أتسكع فيه . سأمزق عندها يافطات التفتت والبوار وأمسك بزمن موصول يتخذ من التجريب مسارا للعودة إلى ماض يتصدى فيه العقل إلى أسئلة كبيرة مفروضة عليه إلى ماض لا أعيشه في حاضري الذي يؤكد التقاطع بين متطلبات العصر والضغوط الماحقة للتراكيب المعمقة للنزاعات السلفية فيه – ص 11 و 12 ” .
وقد اهتاج عبد الحسين وحفر عميقا .. وتسكع طويلا .. لكنه التسكع الخلاق الآسر .

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. ميسون حنا : الرغيف المر.

شخصيات المسرحية نعيم رشدي أبو عمر         اللوحة الأولى ( ساحة أمام …

حــصـــرياً بـمـوقـعـنــــا
| رياض ممدوح جمال : “سيد المنزل” للمؤلف ستانلي هيوغتون .

                   (ستانلي هيوغتون حصل على شهرة كبيرة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *