انه الخريف، الوقت لم يزل ظهراً والرحلة استغرقت وقتاًطويلاً لبطئ حركة السيارة بسبب ضعف الرؤية وسحب الغاز الكثيفة المنبعثة من عادم السيارةوحركة ماسح الزجاج المتقطعة. اطفأت المحرك وامتلأ المكان بهدوء وظلام ساكن، تمشي مطوطأةرأسها معتمرة قلنسوة المعطف، تشعر بالتفاف مقابض كيس الحاجيات البلاستيكي حول اصابعها،الكيس يتأرجح يميناً وشمالاً صافعاً ساقها بتكرار ممل.
الرصيف واسع ومغطى بفراش بني من اوراق الشجر المتساقطة،رائحة النيران المشتعلة تنبعث من الاراضي المجاورة، غبار ضعيف التصق بأعمدة الانارةفي الشارع منتجاً ما يشبه الغاز الاصفر.
الاصوات مكتومة والحركات خاملة، السيارات تنزلق ببطئفوق مياه الشارع الآسنة، عند بوابة البيت اخّرت نفسها، لم يحن وقت الشاي بعد لكن المدينةشبه نائمة. صف المنازل المقابل لها عانق انعطاف الشارع المتهاوي غيرالمنتظم نزولاًالى الهضبة الكئيبة. الوجوه الصخرية مغمورة باللون الرمادي، قرميد السقف المتكسر، جهازالستلايت، النوافذ البارزة وكل الاشياء المبعثرة، لوهلة من الزمن اصبح بيتها غريباًعليها، مجرد مقصورة بسيطة في خضم ذلك الهيكل الضخم المترابط.
طقطقت بالمفتاح وهي تضعه فتحة الباب، تميله الى الزاويةالمناسبة التي تجعله يفتح. دخلت البيت، يداها تتحسسان نقطة الاضاءة بينما تغلق الباب.
الدفء الخفيف لحيطان البيت شكّل تبايناً مرحباً بهمع برودة السطح الخارجي الداكن حيث عمل احد جيرانها القدماء على تدفئة البيت من جوانبهوسرعان ما كانت تسمع الضجة المريحة المنبعثة من المرجل القادم الى الحياة من جديد.
ابقت نفسها حبيسة تلك التفاصيل السعيدة عن رجوعهاالى البيت بينما كانت تمشي في الرواق المؤدي الى المطبخ، حملت كيس حاجياتها ووضعتهفوق المنضدة واخذت ابريق الشاي.
تقف وسط الغرفة ما تزال تلبس قلنسوتها مستمعة لصوتغليان الماء، شعرت ان البيت يؤقلم نفسه تبعاً لوجودها. لقد عادت الان لتقضي كل الاوقاتالتي احست انها قضتها غير واعية. الاشباح التي كانت تتجول في الغرف تنسل الان بترددلتدخل الجدران، حتى عندما غيرت الاشباح مكانها ظل البيت على حاله حافظاً لكل عيوب الزمنفي الزوايا المغبرة.
دموع الكآبة فوق جدران غرفة النوم، شمس باهتة اللون،صورة رجل ملصقة خلف خزانة مرتبة، طعجة في الطاولة، كسر في المرآة، كل هذه الاشياء كانتتمر عليها اللحظات وهي محفورة على جسد الدهر.
-2-
البخار بدأ يتصاعد ليصل الى السقف حيث يحول اتجاههمدركاً وجود بعض العيوب فيه. عبر النافذة كانت تستطيع رؤية الخط المحيط بالحديقة الصغيرة،الاشكال الرمادية غير الواضحة لاكوام السماد المنتشرة والمحاذية للسياج المتأرجح كسكران،بينما يحد الارض من الجانب الاخر سور مستقيم بارتفاع ستة اقدام.
ما هي الاجراءات التي تمنع القطط المضطجعة خلف ذلكالسور من الدخول (حقول الغام ام اسلاك شائكة، ربما؟)
كما لو انها تستجمع افكارها، رايتشل، عيون خضراء وذيلمتحرك، ظهرت تحت حافة النافذة بمواءها الهادئ، بابتسامة فتحت الباب لتدخل الهرة بخفةوباقدام مليئة بالطين طبعت اثارها على ارض المطبخ.
صوت غليان الابريق يزداد، قطرات الماء ظهرت على جوانبهتهتز بعنف لانها لم تعد قادرة على مواصلة الغليان داخله، فجأة توقف عن العمل واطفأنفسه.
مدت يدها الى الرف لتأخذ مرطبان القهوة ثم انحنت الىرف الاكواب، هنا توقفت لبرهة، احتارت بالتنوع الكبير لاكواب الشاي والقهوة والكؤوسالكبيرة المصفوفة محدقة اليها بنظرات جوفاء. لماذا احتفظت بكل هذا العدد؟ من اين جاؤوا؟تنهدت وهي تسحب كوباً من الحجم العادي ذو مسكة زرقاء فاتحة مزخرف بحروف ثلاثة ذهبيةSUE.
خلعت معطفها ووضعته على ظهر الكرسي المصنوع من خشبالسنديان ثم جلست، خلعت حذاءها ومدت رجليها الى المقعد الطويل خلف طاولة المطبخ منالجانب الاخر. من فوق المقعد رفوف مزينة مصفوف عليها صحون بدعامات حديدية، كوب ملصقعليه صورة الامير تشارلس والليدي ديانا (اوه، المزيد من الاكواب) ومجموعة من الصورالفوتوغرافية تعرض اما ابتسامات مجنونة او وجوهاً متجهمة لعدد من الاطفال، بينما هيتنظر الى صورة العائلة الكبيرة تراءى لها وكأنها تنظر الى خيال امرأة ضعيفة متضاءلة.
فجأة يأتي صوت الماء وهو يسيل ليصل الى فتحة البالوعةالمفتوحة، الحمام كان يشطف او ربما ماكينة غسيل كانت تفرغ نفسها، ادركت حينها ان كوبقهوتها قد برد، قامت الى مغسلة المطبخ وفتحت الماء الساخن.
تحدق بالعتمة خارج البيت، تنصت لسلسلة من اصوات الضرباتالبعيدة الصادرة من شبكة الانابيب، لمحت خيال امرأة تغسل كوب شاي، من هي؟ ولماذا هيتعيسة الى هذا الحد؟.
-3-
هزت رأسها وسحبت سدادة الحوض، انسلت مرة اخرى الىاللاوقت، هل من الممكن للدقيقة الضائعة ان تصبح ساعة ضائعة، والساعات الضائعة ان تصبحاياماً ضائعة؟ اين يمكن ان تكون الان لو انها لم تقدم على ….. ماذا؟ تعد الشاي، محجوزةفي زحمة الطريق، تقرأ الجريدة المحلية ام واقفة في طابور السوبر ماركت؟ الافضل ان تتجنبفكرة جفاف حياتها في هذه اللحظات.
تحاول ادخال الحاجيات، اخذت الحليب، البرتقال، علبةالبسكويت وطعام القطة ثم حاولت جاهدة ان تدخل قطعتي البيتزا في الفريزر ناثرة قطعاًصغيرة من الثلج على الارض. مجموعة واسعة من اكياس النايلون محشورة داخل اكياس نايلوناخرى تضعها في احد الادراج لتستعملها مرة ثانية، عندما فتحت الدرج حدث انهيار بلاستيكيامامها، رمت آخر مجموعة من الاكياس داخل الدرجثم اغلقت الباب.
عيناها تبعت رف البهارات ولوح تقطيع الخبز حتى وصلتلقنينة زيت الزيتون. مقعد خشب السنديان لم يكن مجرد محطة لاستراحة القدمين، اكتشفتذلك خلال حملة تنظيف عارمة قامت بها بمناسبة رأس السنة، تحت وسادة المقعد المتحركةوجدت نتوءً صدئً كسر لها اظفرين من اظافرها، حركته واذا به يكشف عن صندوق، رغم مرورلحظات بدت وكأن صدى دقات قلبها قد ملأ البيت كله، الا انها تذكرت ان لا شيء اكثر اثارةبالنسبة لها من كومة جرائد قديمة (قذارة اكثر لتنظيفها) وقد كان الصندوق قذراً بالفعل،كانت قد قررت انه المكان المثالي لتخزين شراشف المنضدة وادوات التنظيف لكنه بدأ يبتلعحتى اغطية السرير، اغطية المخدات والشراشف على مختلف انواعها. حقاً كان عدم التفكيربوجوده او نسيانه امراً يدعو للسخرية (هل كانت هي الشخص الوحيد الذي يغير شراشف السريروافرشة الطاولة؟).
كانت وما تزال تظن ان لا احد يشاركها سر هذا الصندوقوانه كان ملكاً لها فقط، فتحته واذا بها تحس بسيل فرحة عارم كفرحة الاطفال، شعرت بهيعود الى الحياة من جديد بينما كانت اصابعها تتلمس الطبقات القطنية الرقيقة باحثة عنعلبة التوفي الحديدية الباردة اللامعة.
-4-
وضعت العلبة على الطاولة، داخلها تضطجع ميدالية منالقوة الجوية البولندية، قطعة نقدية معدنية للذكرى، حصاة مأخوذة من شاطئ الـ(ليفرا)عام 1978 (هل تستطيع تذكر حرارة ذلك اليوم الشديدة ام انها تحتاج الى تلك الحصاة لتثبتفعلاً انها كانت هناك؟)، هدية اشترتها ولكنها لم تقدمها وثلاثة اظرف مطوية بعناية داخلحقيبة صغيرة. نظرت الى ما حولها في الغرفة، من مكان ما داخل الجدران سمعت احد الانابيبيصلصل، البيت ينفض ما في حلقه، اخذت الظرف الاول.
ظبي قافز في طابع ملون، بدا الظبي وكأنه فزع خوفاًمن ان يصطاده صياد ما من خلف الختم البريدي الاسود. الورقة داخل الظرف كانت سميكة ملونةبالوان خفيفة، رأس الورقة ازرق والتاريخ المكتوب اعلى زاوية اليمين كان تموز 2000.بينما عيناها تتجول فوق الورقة لاحظت انها على وشك ان تتفتت في جهات معنية وانها يابسةفي اماكن اخرى كما لو انها قد تبللت ثم جففت.
لا بد ان تكون هذه مفاجأة، اذا كانت كذلك فان الرسالةستصل اليك، تذكرت عنوانك بالطبع، لكن بعدها فجأة خطر ببالي انه يمكن ان تكون قد غيرتسكنك دون ان اعرف وخدمة البريد هنا على اية حال لا يمكن الوثوق بها، لهذا ربما اكوناكتب الرسائل لنفسي. رغم انني قد بدأت الان لا استطيع التفكير بما كنت اريد قوله، اعتقدانني فقط كنت اريد الكتابة وهذا شيء مهم لانني احسست بالتواصل مع الاشياء رغم كون وجودورقة بيضاء فارغة داخل ظرف سيبدو غريباً.
لا احتاج السؤال عن احوالك لان كل شيء يبدو انه يسيروفق ما خططت اليه واكثر لكني ما زلت اتمنى ان تكون بخير وسعادة. اخشى انه ليس لدي شيءممتع اقوله لك عني، مجرد سلسلة لا تنتهي من الاشياء المملة، لا شيء غير الحرارة المرتفعةوسحب البعوض المنتشرة فوق النهر والتي تجعل كل شئ يبدو اصعب مما هو عليه لكن هذا المساءعندما غسلت وجففت ثيابي فجأة شعرت بالرضا، غريب… خمسة اشهر من الكد والقلق ثم هدوءمنحدر كأنه شاحنة آيس كريم تجوب الصحراء.
-5-
المحتمل ان يكون هذا هو سبب كتابتي لهذه الرسالة،يمكن ان يكون تفكيري بانكلترا وقت الصيف، يمكن ان يكون صوت النهر عند المساء لكن عقلييرجع بتفكيره الى مكان تلك الامسيات الطويلة، الاستماع الى الاغاني الجميلة، هل تستطيعتذكر طعم الشراب الرخيص الذي تناولناه؟ الاحساس بالعشب الاخضر بين اصابعك والعالم كأنهاشعاع لؤلؤي؟
كل الناس اختفوا، كيف لنا ان نميزهم الان، من الممكنعن طريق ضحكاتهم؟ اخشى انني في احدى المرات عبثت بالطبيعة باسمك، اخذت سكين الجيب التيتحملها ورحت اخدش الصفصافة التي كنا نجلس عندها. اتذكر سؤالي ما اذا كان لحاؤها سينمومن جديد، اذا وجدت نفسك يوماً تقود السيارة متجهاً لنفس المكان لقضاء عطلة نهاية الاسبوع،ربما لن تفعل، فعلى الارجح انها ستكون ذكرى حزينة، لكني اعلم ان اسمك سيظل محفوراًهناك، على ذاكرة شجرة.
طوت الرسالة ونقرت بها عدة نقرات على شفتها العليا.انقضت ربع ساعة ولحظة… من السكون، الزمن توقف قبل ان ترد الساعة بوهن في غرفة المكتب.اخرجت الظرف الثاني، بينما تبحث اصابعها عن طيته نظرت الى ظل الملكة الفضي، الرسالةكانت مكتوبة على ورقة بيضاء ورقيقة لدرجة انها عندما نظرت اليها خيّل لها انها رأتظلاً ازرقاً، التاريخ كان نيسان 1976.
هل اتذكر ذلك المساء الايلولي عندما التقيتك اول مرة؟هل من الممكن تذكر اصابع المنوم المغناطيسي وهي تمر على جفنك؟ انا اعلم ان ذلك الشيءقد حصل فعلاً لانني في مرحلة ما كنت قد استيقظت.
بعض الاشياء واضحة، بقايا حلم متكسر، مكالمة تليفونيةفي عيد الفصح، كلانا شعر بالكآبة من وضعه لانني كنت اعمل في محل من الطراز القديم وانتفي مكتب حديث ومرتب. كرهت هذا الامر وسألتك هل ان الاشياء تمر ببطئ معك، اجبتني انالامور على مايرام وانه غير مهم لان كل شيء سينتهي وان الوقت يمضي رغم كل شيء. اخبرتنيان اذهب وابحث عن السعادة واجلب لك معي بعضاً منها عندما اجدها لكن لا يمكن ايداع السعادةفي مصرف، لا يمكنك الاحتفاظ بها لحين الحاجة اليها ولا يمكن اعطاؤها لشخص اخر وببساطةعندما تمتلكها.
-6-
اعتقدت انني سأشعر بالرضا عند مشاهدة تدفق النهر وهويتبع عبق رائحة الزنبق، شاهدت نهارات تتحول الى ليالي وليال تفسح المجال بلطف للنهاراتمعتقدة انني كنت اتخلص من قلقي وهمي بينما الحقيقة انني كنت اخزن ندمي. الان اعلم انالقراءة هي الحلم والحلم هو تراخ وكسل، عندما استيقظت وجدت ان كل ما تيقى لي هو خيالك.
الضجة التي تحدثها القطة عندما تقفز بشكل اخرق، الاحساسبها وهي تتحرك بتعاقب، مخالبها المتعلقة بشرائط القطن. هذه المرة الظل ليس ظل ملكةولكن ظل (نهرو)، رأس ابيض على خلفية برتقالية، الطابع ملصق بالزاوية بشكل غريب (لكنهلم يزل ملتصقاً رغم مرور الوقت). الرسالة مكتوبة على ورقة دفتر مدرسي مخططة، التاريخالمكتوب بطريقة ممدودة هو تشرين الثاني 1968، بقع صفراء، ما هي؟ هل كانت هنا طول الوقت؟
لا استطيع ولحد الان تصديق انك قررت الرحيل، لماذاالرجوع الى الكآبة، القذارة، الضجة والاستعجال؟ هناك متسع من الوقت لاختبار تلك الاشياء.اعلم انك تطارد حلمك لكن الحلم مؤجل هنا، هنا احس وكأنني ابتلع اشعة الشمس والوقار.منذ ان رحلت ونحن انتقلنا غرباً حيث الارض والطعام يشوبهما لمسة من الاحمرار. اليومالتقينا بمجموعة من الاميركان قمنا بجولة معهم على سطح عربتهم المغلقة وساعدناهم فيجمع الحطب، يقولون ان هناك رجلاً عجوزاً يبيع الخرز التي كنت تريدها امام كوخه الذييقع على ارض مساحتها ثمانية اميال من الرمل الابيض.
اكتب لك هذه الرسالة وقت الغروب، اعتقد انه الوقتالامثل للتحدث والقراءة، العالم كله يذوب في الكلمات، احياناً يكون لدي عبارات كثيرةجميلة اود قولها لك لكني اعاني الكثير لاجعلها تستقر على الورق. احدى هذه العباراتجعلتني افكر فيك (( افعل الشيء الذي يجعلك سعيداً لانك ستؤديه على اكمل وجه)).
طقطق البراد ثم صمت، ادركت حينها انها لم تكن تعيكل تلك الضجة الصادرة عنه، في غيبته بدا البيت وكأنه متعلق بنفس السؤال، كيف يمكن انتكون حياتها لو انها استطاعت ان ترسل ولو رسالة واحدة من تلك الرسائل؟ لكن هواء البيتلم يعطها رداً ولا جواب ورجع الى دورته البطيئة.
-7-
في وقت ما كانت ستطوي الرسائل وتضعها في الاظرف، تضعالاظرف في الحقيبة، الحقيبة في العلبة، العلبة في الصندوق وستغطيها بطبقات من القماشثم ترجع المقعد وتغلقه، لكن الان هي تجلس فقط بينما انفاس القطط المبتهجة تملأ المنزل.