(1)
فوجئنا حين قرأنا مقدمة رواية علاء الأسواني الشهيرة “عمارة يعقوبيان”، فوجئنا بها طبعة رديئة، لم يكلّف الكاتب ولا الناشر أو أي شخص له علاقة أنفسهم بتنقيحها وتصويب أخطائها الطباعية والنحوية واللغوية والإملائية الكثيرة، وكأن الطلب على الرواية وما يجلبه ذلك من أرباح للناشر والكاتب قد أعفاهما من أي حرص لفعل ذلك. بل إن الناشر والكاتب لم ينتبها، في خضم الطباعة التجارية السريعة، حتى إلى تعديل سنة الطبع، فبقيت السنة 2005، التي من الواضح أنها سنة الطبعة السابقة عليها، بدليل أننا نجد في نهاية قائمة الطبعات المدرجة في الصفحة الأولى، طبعة تاسعة مؤرخة بسنة 2006، وبما يعني بالضرورة أن تكون التي بين أيدينا التاسعة، إن لم تكن العاشرة، وأنها لا بد أن تكون في سنة 2006 أو بعدها. وتعلقاً بذلك أيضاً وبلا مبالاة الكاتب وتكاسله وعدم احترام القارئ والفن أو الحرفة فإنه يكتفي بتغييرات طفيفة جداً يجريها على مقدمة الطبعة الثامنة لتكون مقدمة للطبعة الحالية، ولتأتي في النتيجة مكررة ومرتبكة.
هذا يقودنا إلى تذكّر ما أثارته الرواية، قبل إعدادها فيلماً وبعده، من ضجة ولغط كبيرين، وهي الأمور التي، مهما تبنّينا من مناهج حديثة، لا يمكننا تجاهلها، بل هي صارت منطلقنا ودافعنا الأول لكتابة هذه المقالة/الدراسة. بعبارة أخرى نقول: لأننا لا نريد أن نتجاوز بعض الكتابات التي تناولت الرواية وتحديداً تلك التي أُلحقت بالطبعة التي بين يدينا بوصف هذه الكتابات هي من تلك الضجة والاهتمام غير العادي بها، فقد كنا مضطرين إلى أن نتناول الرواية من منطلق التحليل الذي لا يتحرج من ربط العمل بالماحول ومن الخروج في قراءة النص منه وعدم الاكتفاء به، كما تدعو مناهج النقد الحديث، خصوصاً أن تلك الكتابات عن الرواية التي شكلت بعض منطلقنا قد فعلت ذلك أصلاً، وأن الرواية لم تكتسب أهميتها وصيتها إلا من خلال ربط عالمها بعالم حقيقي، كما رأته الرواية ومن خلفها الروائي. وهنا يرتفع أمامنا السؤال الآتي: هل يصح النظر إلى العمل الأدبي على أنه يمثل مجتمعاً ما أو ينبثق منه ليمثّله؟ وهل، وقفاً لذلك والأهم منه، يصح محاججته وعالمه بواقع ذلك المجتمع، بمعنى محاججة المتخيَّل بالحقيقي.
بدايةً، لعلنا لا نكون محقين في النظر، تعلّقاً بالسؤال الأول، إلى أي عمل إبداعي على أنه يمثل بشكل أو بآخر مجتمعاً، أو على الأقل ليس من حقنا محاججته انطلاقاً من هذه الافتراضية، وهذا ما ينطبق على “عمارة بعقوبيان” كما على غيرها. لكن الحقيقة التي تواجهنا مع هذه الرواية، وكما أشرنا ضمناً وصراحة، هي أنها- وإلى حد ما مؤلفها- قد أقنعا كل المثقفين الذين كتبوا عنها بأن عالمها هو مصر أو جزء من مصر، في مرحلة بعينها من تاريخها الحديث. إذن لنسلم بهذا، سواءُ قصده المؤلف أم لم يقصده، لأن المهم هو أن الرواية قد أوحت بذلك وأفهمت القارئ به. أما الجواب على السؤال الثاني فنعتقد نعم، تصحّ محاججة المتخيّل بالحقيقي، ولكن بحدود هذا التمثيل المفترض ولا يتعداه إلى فنّية هذا التمثيل، ومن هنا كانت ملامستنا لهذا الربط بين الرواية ومؤلفها والمجتمع. فكيف ظهرت مصر من خلال الرواية؟ الجواب بكل بساطة هو: أنها ظهرت مرعبة. ويبدو أن الرواية قد أفصحت عن بعض هويتها وتوجهها، في هذا الخصوص، بشكل مبكر، حين قالت:
“في عام 1952 قامت الثورة فتغير كل شيء. بدأت هجرة اليهود والأجانب خارج مصر ، وكانت كل شقة تخلو بهجرة أصحابها يستولي عليها أحد ضباط القوات المسلحة، أصحاب النفوذ في ذلك العهد”- الرواية، ص22.
ولكن كيف وصلتنا هذه البشاعة؟ وعن أي طريق أو أداة موضوعية أو فنية؟ وقبل هذا، هل حققت الرواية ذلك؟ الواقع أنها فعلته، وكما سنأتي إلى ذلك بعد قليل، ودفعت أمامنا وإلى عقولنا ووعينا صورة قاتمة لمجتمعها، لتبدو به مصر بلداً وشعباً وتاريخاً فاسدة إلى النخاع. وإذا ما تسلل خلال ذلك خيط رفيع من ضوء وأمل في هذه الـ(مصر)، فإن مثل هذا الخيط لم يكن ليفعل ما قد يدّعيه البعض أو يراه، لأنه في حقيقته قد صب في السياق نفسه، ليبقى الظلام ظلاماً ممثَّلاً في سكّان (عمارة يعقوبيان) التي قامت عليها الرواية، وهو نماذج إنسانية تكاد جميعاً تكون فاسدة. لقد “اختار الكاتب والأديب الدكتور علاء الأسواني هذه العمارة لكي يسجل من خلالها أحداث روايته (عمارة يعقوبيان) كصورة للحياة الاجتماعية في مصر على امتداد أكثر من نصف قرن، مع أن أحداث حاضرها تقع بين سنتي 1990 و1991، ومع اقتراب اندلاع حرب الخليج الأولى. وبطبيعة الحال فإن هذه الصورة تضم نماذج مختلفة ومتناقضة”. أحمد زكي عبد الحليم، مجلة (حواء)، عن ملحق الرواية، ص362.
صحيح أن الشخصيات جاءت مختلفة، ولكنها ليست متناقضة، فكلها فاسدة منحرفة، كما هو حال حاتم حسن، ومحمد عزام، وملاك، وكمال الغولي.. أو في أقل تقدير مخطئة مثل (طه) و(بثينة)، لتعني بذلك فساد المجتمع الذي يمثلونه. والواقع أن جل نقاد الرواية يقرون بذلك، من حيث أرادوا أم لم يريدوا، خصوصاً حين تتمثل الصورة القاتمة لمصر بـ(وسط البلد)- بنماذجه البشرية- وما يمكن أن تعنيه منطقة بهذا الاسم في عمل متخيّل، إذ من الطبيعي أن يتعدّى في الدلالة والإيحاءات والرمز ما يعنيه على أرض الواقع، “وتصبح عمارة يعقوبيان التي بُنيت عام 1934، مرآة تتداخل وتتشابك على سطحها، إنسانياً وفكرياً، صورٌ وبشرٌ وعلاقات تسطع بالصلة الوثيقة بين قاع المجتمع وقمته، بين زكي الدسوقي والمتسولة التي التقطها من الشارع لقضاء ليلة عابرة… الصلة بين الحاج محمد عزام المليونير وسعاد جابر التي يجهضها رجاله بالقوة… مجتمع فاسد يجبر بثينة على بيع نفسها بعشرة جنيهات، ويرغم سعاد على بيع نفسها بعقد زواج شرعي، هو نفس المجتمع الذي يسقي زكي الدسوقي كأساً مرة حين يرى أعز ما لديه، علاقته بأخته، تتحطم على صخرة جشعها وطمعها في الاستيلاء على شقته”- ملحق الرواية، ص360-361.
(2)
إذن فمصر، إذا ما تعاملنا مع الرواية على أنها مصر أو جزء منها، وفي مرحلة بعينها- ولكنها مهمة أيضاً- مظلمة فاسدة، بل متهرّئة وسائرة نحو انهيار تام، لم تكن الرواية بحاجة إلى قوله بصراحة. الرواية من حيث هذه الصور التي ترسمها لمصر أو القاهرة تذكّرنا بما قاله أحدهم عن لندن استناداً لما نراها عليه في الإعلام الإنكليزي، بأنها مدينة لا يمكن لك أن تسير فيها، فالجريمة في كل مكان. فمصر أو القاهرة مزروعة بالفساد، بل هي مجموعة من الشواذ. وحتى مع مشروعية أن يدّعي الروائي أو غيره بأن هذا أدب ولا يمكن تحميله ما لا يقصده النص أو صاحبه، فإن ذلك جائز، وواضح أن رواية علاء الأسواني تحتمل فعلاً، بدليل الإجماع أو شبه الإجماع الذي مثّله النقد الذي تلقاها وتعامل معها، فعمارة يعقوبيان وما حولها عبارة عن مجموعة من الشواذ والفاسدين والمنحرفين والخاطئين. ولأن الرواية هي من جهة هذه العمارة، وهي من جهة ثانية شكلاً وبناءً ومضموناً رواية شخصيات، وإذا اتفقنا على تحمّل الرواية أو العمارة لأن تكون مصر أو جزءاً من مصر، فإن صورة مصر إذن تتمثل وترتسم من خلال هذه الشخصيات الشاذة والفاسدة والمنحرفة والخاطئة، وأهمها:
• زكي عبد العال الدسوقي: وجيه وغني سابق، محب للنساء وشبه متصابٍ، ويعيش عملياً وحيداً.
• دولت: أخت زكي الدسوقي، مصلحتها تتقدم عندها على أي شيء، بحيث تضحي بأخيها، وتحتال عليه لتوقع به، فتسيطر على إرثهما.
• ملاك: ترزي (خياط) قمصان وصولي، ومترصد لكل فرصة ليجني ويكسب منها على حساب أي مبدأ.
• حاتم حسن رشيد: صحفي ورئيس تحرير صحيفة تصدر بالفرنسية. وهو من أب أستاذ قانون متخرج في الغرب ومعجب بكل ما له علاقة بالغرب، وأم فرنسية، أهملا الاهتمام بالأبوة والأمومة، ليتركا صغيرها لخادم مربّ صار حاتم على يديه شاذاً جنسياً.
• سعاد جابر: أرملة يتزوجها محمد عزام بشرط أن لا تخلّف له، وتقبل به طمعاً بالمادة و(الستر)، لكنها تحمل بغفلة منه فيجهضها رجاله بالقوة.
• كمال الغولي: ينتسب إلى كل أحزاب السلطة ويتحمس لها، تحقيقاً لأهدافه وطموحاته الخاصة.
وتعلقاً بالكتابات عن هذه الصورة القاتمة التي قدمتها الرواية بشخصياتها المشوّهة، يتساءل الخميسي قائلاً: “لماذا لم يجد الكاتب طرفاً يقاوم الفساد سوى نموذج طه الشاذلي الذي يتدرب على التفجيرات والاغتيالات في طره؟… في المقابل فإن قصة الحب الوحيدة التي تفتح كوة صغيرة للأمل هي علاقة بثينة بزكي الدسوقي، رجل الزمن الماضي الذي تجاوزته الحياة”- ملحق الرواية، ص360-361.
والرد ببساطة هو أن الكاتب لم يجد شيئاً ذا قيمة في مصر، ربما باستثناء بعض ما صورهم مخطئين أو ملوثين حديثاً وعليه فبالإمكان إصلاحهم أو غسلهم من تلوّثهم. ومثل هذا الخروج النمط العام للنماذج/الشخصيات لا يُخرِج الرواية بعموم شخصياتها عن حكمنا، بل يؤكّده ويعمّقه، كما هو حال (طه)، ابن الشاذلي بواب العمارة، الذي ينحرف في إيمانه الديني نحو العنف، في أعقاب الإحباط الذي يصيبه بعدم قبوله في الكلية العسكرية، بالرغم من حصوله على المعدل المؤهِّل لذلك، لأنه ابن بواب. وكما هو حال (بثينة) التي تتخبط في سلوكها وفي عدم معرفة ما تريده بالضبط، حتى ترسو في ميناء (الدسوقي) كونه الشخص الوحيد الذي تجد لديه الاحترام والحب الذي ليس وراءه غاية، لتقبل به زوجاً بالرغم من الفارق الكبير في السن.
أما (كريستين بيثولاس) التي تكاد تكون الشخصية الوحيدة الطبيعية في شخصيتها وسلوكها، فإن تميّزها وانفرادها بهذا (النقاء)، يعزز الصورة السلبية التي ترسمها الرواية، لأنها أجنبية. فوسط السقوط العام في عالم الرواية، وخصوصاً من ظل ما يتعرض له (زكي الدسوقي) و(بثينة السيد) من إهانة وفضيحة مدبَّرين من أخت الدسوقي رغبةً في السيطرة على ميراث، لم يكن غريباً أن تضفي (كريستين) هذه حياة الحب والصدق والإخلاص حين تُعد لصديق العمر (زكي الدسوقي) هذا و(بثينة) حفلة زواج في مطعمها الذي حتى هو لا يحمل اسماً عربياً، (مطعم مكسيم). والرواية لا تكتفي بتقديمها هذا، بل قد تتعامل معها بأسلوب شاعري، وكأنها تريد أن تضفي عليها ما لا تريده لغيرها من شخصيات الرواية:
“… ولما عادت بعد ساعة، بثوبها الأزرق الأنيق وماكياجها المتقن الهادئ وشعرها المصفف (شينيون) إلى أعلى على طريقة الخمسينيات، كانت الفرقة الموسيقية قد وصلت وعكف أعضاؤها على ضبط آلاتهم… [وحين وصل زكي] اندفعت كريستين ناحيته وعانقته وقبّلته بطريقتها الحميمة:
“- تبدو كنجوم السينما.
“هكذا هتفت بحماس ثم تنهّدت ونظرت له ملياً قائلة:
“- كم أنا سعيدة من أجلك يا زكي..!! لقد فعلت ما كان عليك أن تفعله من زمان”. الرواية، ص145- 146.
نعتقد أن وجود (كريستين)، شخصيةً أجنبية أولاً، ولذيذة وقريبة إلى القارئ ثانياً، ومتفردة في أشياء كثيرة ثالثاً، والأهم مصنوعة بشكل جميل رابعاً، تثير أول ما تثير الانتباه إلى وجود الأجنبي أو الغرب تحديداً في الرواية، لتنبهنا في النتيجة إلى أكثر من وجود لهذا الأجنبي. فإضافةً إليها، هناك أبو (حاتم)، الدكتور (حسن رشيد) وأمه الأجنبية (جانيت)، وإن لم يظهرا عملياً في مسار الأحداث، لأنهما ميتان، وكان الدكتور حسن قد درس في باريس وعاد إلى مصر متأثّراً بالثقافة الغربية إلى حد التشبّع بها ليكون بالضرورة من المؤثرين، في ثقافتهم الغربية وفي إيمانهم بها، في مجتمعهم، بعد أن صار من أعلام القانون في مصر والعالم العربي، ومثقفيهما الكبار في الأربعينيات. “وبالنسبة لهؤلاء كان (التقدم) و(الغرب) كلمتين بمعنى واحد تقريباً، بكل ما يعني ذلك من سلوك إيجابي وسلبي. كان لديهم جميعاً ذلك التقديس للقيم الغربية العظيمة: الديمقراطية والحرية والعدل والعمل الجاد والمساواة. وكان لديهم، أيضاً، ذلك التجاهل لتراث الأمة والاحتقار لعاداتها وتقاليدها باعتبارها قيوداً تشدنا إلى التخلف وواجبنا أن نتخلص منها حتى تتحقق النهضة”. الرواية، ص104- 105.
ونعود لنقول إن من الشخصيات الأجنبية الفريدة التي تجذب الانتباه في الرواية العربية المعاصرة، هي شخصية اليونانية المقيمة في مصر بشكل دائم (كريستين) هذه. أما سبب جذبها للانتباه فهو أنها تأتي وسط واقع قاتم بأناسه ممثلين بشخصيات تراوحت ما بين السقوط والانحراف والشذوذ والفساد والتمرّد، لتنأى هي وحدها- كما قلنا- عن أي من تلك الأوصاف السلبية، وبما يمكن أن يعني- أسمحت لنا مناهج النقد الحديثة بذلك أم لم تسمح- أن مثل هكذا شخصيات وأناس هم الوحيدون الأنقياء في مصر أو قاهرة اليوم، ووفقاً لذلك هم وحدهم القادرون على إصلاح الوضع، إن كان هناك من أمل في الإصلاح. وكونها أجنبية يطرح أكثر من سؤال عن إمكانية أن يقوم العنصر الأجنبي، في الواقع أو في العالم المتخيّل بهذا، والأهم من ذلك كله، عن مدى منطقية أن يُحمّل هذه المسؤولية أو الواجب- task- ودلالته في عمل متخيل يكتسب فيه أي شيء دلالات أبعد من ظاهرها بالضرورة، سواء أرداها الفنان أم لم يرد؟ وفي كل الأحوال، وانطلاقاً من حقيقة أن يحمل كل شيء في العمل المتخيل ما هو أبعد من ظاهره، نعتقد أن تكون الشخصية الأجنبية الوحيدة في الرواية، هي الوحيدة القادرة على فعل ذلك ليبدو خطيراً جداً، خصوصاً أن هذا الجانب الإيجابي البسيط في مجتمع الرواية، ، إذا ما تجسّد في الشخصية الأجنبية، فإنه يتعداه في حالات محدودة جداً، ولكن لا إلى المصري الذي نعرفه، ابن الحتة، أو الريف، أو الطبقة الفقيرة أو الطبقة البرجوازية الوطنية، بل إلى بقايا ممثلي باشوات عهد ما قبل الثورة، كما يفعل (زكي بك الدسوقي) بزواجه من (بثينة): “قررت [بثينة] في لحظة ما أن تضحي بالحب من أجل هذه الفرصة، والتي جاءتها بعد سنوات على يدي ملاك الترزي الذي أراد أن يضعها في طريق زكي بك لكي يحصل على شقته من خلال ورقة بتوقيعه تحصل عليها بثينة نظير مبلغ من المال. لكن بثينة اكتشفت وجودها وكرامتها على يدي زكي بك، فتمردت على ملاك، واختارت الحب على المال”. عبد الحليم، ملحق الرواية، ص362. فماذا نعني هذه الزيجة؟ ببساطة إنها تعني، إذا اعتبرنا (بثنية) ممثلة للطبقة الفقيرة أن الذي يمنحها ذاتها وكرامتها هو الدسوقي، وجيه أيام زمان، وربما كما يحس هو نفسه:
“وفكّر زكي أن بثينة تبدو في ثوب العرس مخلوقاً نقياً رائعاً، وكأنها ولدت اليوم وقد تخلصت إلى الأبد من شوائب الماضي التي لوثتها بغير ذنب”. ص347.
(3)
والآن، لماذا أخذت الرواية الشهرة التي أخذتها؟ ولماذا اهتُمّ بها نقدياً وصحفياً بالشكل الذي أشرنا إليه، وكما يمكن لأي قارئ عادي أو غير عادي أن يتحسسه في ضوء تردد عنوان الرواية في كل مكان، في الصحف والتلفزيون والإذاعة والشارع؟ هو سؤال تفرضه هذه الشهرة، بل الضجة، وهو سؤال يتعزز ويكبر مقروناً باستغراب حين يجد القارئ غير العادي والناقد أن الرواية ليست، في فنيتها وجماليتها، بمستوى هذه الشهرة التي حصلت عليها والضجة التي سببتها، خصوصاً أنها لا تقترب فنّياً من العشرات، بل المئات من الروايات العربية التي لم تحصل على مثل هذا الاهتمام. وما يثير الاستغراب أيضاً ما نراه واضحاً من فقر ثقافة الكاتب الفنية تعلقاً بالكتابة القصصية والروائية الحديثة. ولكي نحافظ على موضوعيتنا أردنا من مقتربنا النقدي الذي حكم هذه الدراسات أن يكون سوسيولجياً- وصفياً، ومعيارياً في الوقت نفسه، لنخرج بما لا يظلمها من نتائج قد تتحقق لو كان مقتربنا تحليلياً حداثوياً، شكلانياً، أو بنيوياً، أو تأويلياً.. إلخ. أما الإنجاز الفني الذي تحدث عنه قرّاء الرواية من النقاد والصحفيين فلا نجد له من وجود فيها إلا بشكل لمحات محدودة. فأول ما تطالعنا الرواية به فنيّاً هو بناؤها التقليدي الذي تتمثّل فيه بدائية الروائي في الثقافة الروائية وكتابتها، بحيث أخذته المادة التي امتلكها وحفزته، على ما يبدو، ليكتبها قصةً أو رواية على النسق التقليدي الموجود في كل زمان، نعني القص الحكائي. ولأن مادته هي مجموعة مواد أكثر منها مادة واحدة متماسكة، وتتمثل في حيوات شخصيات وشؤونها وسماتها، فلم يفعل غير تقديم هذه المواد متفرقةً لتكون لملمتها في القراءة هو المعطى الروائي، أو لنقل إن هذه الطريقة في الحكي وتقديم الحكايات هي التي اختارت الطريقة التي شكلت الرواية في النهاية، وبمعزل عن أي مبررات فنية، ولعله من هنا جاءت الرواية، مثلاً، في قسمين بدون أي تسويغ فني أو موضوعي.
وسيراً مع المساقات التقليدية، حضر الراوي العليم شبه المهجور في الرواية الحديثة، وكان من الطبيعي أن يعني ذلك أيضاً أن يكون السرد بضمير الشخص الثالث/ ضمير الغائب، ونحن نعرف من صفحات الرواية الأولى، أن هذا الراوي إنما هو الكاتب نفسه. تفضح ذلك، إن لم نكن متيقنين منه، تدخّلات المؤلف في مسار الأحداث، أو في كيفيتها، كأن يقول: “تركت هذه المساحة فارغة لأنني لم أجد ما أكتبه فيها”- الرواية، ص88. وينظر ص 115.
ولعل مما أنقذ هذا السرد التقليدي ضمن البناء التقليلدي من أن يهبط بالرواية إلى درجة السذاجة الفنية، التي كانت بظننا مهددة بها، أنْ لجأ الروائي بذكاء أو بتلقائية أو ربما بالصدفة، الشتات الذي كان من الممكن أن يكون أوضح وهو يقدم مجموعة صور أو وقائع مجموعةِ شخصياتٍ، نقول الذي أنقذ الرواية من هذا المصير أنْ لجأ الكاتب إلى التنقّل المتكرر ما بين تلك الشخصيات ووقائعها، مقروناً بخيط رفيع، لم يكد يكون كافياً، يسعى شكلياً إلى الربط ما بينها، إذ أن هذا التنقل بين الشخصيات بنظام تراتبي عادي، ليقدم عن كل منها ما يخصها من أحداث، كثيراً ما لا تكون لها علاقة بغيرها، ولكنها بمجموعها تكون عالم الرواية. لكن هذا لم يصل بالرواية فنياً إلى ما يراه الخميسي إلا بحدود ضيقة، حين يقول: “وقد تخفف الكاتب من وطأة البناء الروائي التقليدي، حين أجرى قلمه في الانتقال السريع من مشهد إلى آخر، ومن قصة إلى أخرى، كما نجح في نسج تفاصيل حياة أبطاله اليومية الصغيرة على أرضية من عوالم فكرية وطبقية وشعورية خاصة، على نحو ترى فيه شخصيات فنية حية بالفعل…”- الخميسي، ص361.
وإذا ما تحقق للرواية شيء يسير وفق الحسيني، فإنها تبقى بعيدة جداً عما يراه أحمد زكي عبد الحليم إذ يقول: “وفي رأيي أن الروايات لا تُوجز، ولكنها تحتاج إلى قراءة متأنية، وأعتقد أن رواية الدكتور علاء الأسواني بالذات تتطلب متعة القراءة، لما تتميز به من قدرات فنية عالية، ومن أسلوب عذب رائع، ومن قراءة جيدة للتحولات الاجتماعية والإنسانية”. ملحق الرواية، ص363. كما لا نستطيع أن نضع اليد على “المهارة والقدرة الأدبية الرفيعة” التي يراها جمال الغيطاني في قوله: “يقص علينا الأحداث بمهارة وقدرة أدبية رفيعة، بحيث أننا نستمتع بفن القص قدر انبهارنا بالجرأة التي يتحلى بها المؤلف”. ملحق الرواية، ص351.
إن الرواية، في الحقيقة، لم تشتهر وتنتشر وتطبع عشر طبعات أو أكثر بسبب هذا الذي يراه النقاد السابقون ولا نراه، ولا بغالبية الأسباب التي ساقوها هم ونقاد وصحفيون آخرون، بل هو عائد، برأينا، إلى الأسباب الآتية، التي ليس لها علاقة، إلا بشكل هامشي، بفنية الفن الروائي ذاته:
1- صراحتها في تناول بعض الموضوعات، ونزعتها الانتقادية البشعة لمصر والقاهرة، وفي ملامستها لبعض المحرمات/ التابوهات، والأهم ممارستها، في تعاملها مع مجتمعها وأناسها، مجتمع مصر والمصريين، لجلد الذات في وقت صرنا فيه ماسوشيين نتلذذ بتعذيب النفس أو الذات.
2- اقترابها، تعلقاً بالسبب السابق، من بعض هموم الناس، حين لامست ما يعرفه القارئ، وربما ما لا يعرفه، لتأتي الرواية، لذيذة وقريبة إلى القارئ العادي، خصوصاً في بساطة أسلوبها وفي تعاملها مع بعض مفردات عالمها وشخصياتها، “التي يمكن لنا أن نتعرف على أصول بعضها في الواقع، شخصيات قوية مؤثرة، فاعلة في بث الفساد، وتخريب الاقتصاد والمجتمع والروح، ولذلك يُحسب للمؤلف جرأته، واقتحامه لمناطق تبدو في الخطاب السائد خلال السنوات الأخيرة ممنوعة، يقتضي الاقتراب منها جرأة وشجاعة إبداعية”- الغيطاني، ملحق الرواية، ص351.
3- الإعلام، والعديد من الذين تناولوا الرواية وأسهموا في شهرتها كانوا إعلاميين، وعليه لم يتعاملوا معها نقدياً بقدر تعاملهم معها صحفياً واجتماعياً، خصوصاً بعد إعدادها سينمائياً. ونحن نعرف أن الإعلام قد فعل مثل هذا من قبل على المستوى العربي، كما حدث لبعض الأعمال التي واجهتها السلطات أو الدين، وعلى المستوى العالمي ، كما حدث لرواية إريك سيغال (قصة حب) مثلاً التي تمليَن صاحبها بسبب الفلم الذي قام عليها وما تبعه من ضجة وهوس شبابي بها، ومثل بعض روايات إرسكين كولدويل التي تناولت موضوعات حساسة في زمنه تخص فلاحي القطن والغزو الصناعي للجنوب الأمريكي.
وهنا لنعجب لهذا الذي يراه، في الرواية، وتمنّينا لو يضع اليد عليه فعلاً، الناقد الكبير صلاح فضل، إذ يقول:
“يبني المبدع الكبير علاء الأسواني، بهندسة فنية رائعة، وإتقان شعري محكم، واحدة من أهم الأعمال الروائية المعاصرة… يكشف علاء الأسواني في هذا الرواية عن قدرة عارمة على تخليق العوالم الكبرى، وبراعة بارزة في رسم النماذج الإنسانية الأصيلة، وإضاءة المناطق الحميمة في جسد القاهرة الفاحش، بجسارة فائقة”. جريدة الأهرام. 7/10/2002.
ولكن، وأخيراً من أين جاء إمتاع الرواية وجماليتها، اللذين لا يمكن إنكارهما، مهما كان تقويمك لها؟ نقول مباشرة وربما تكراراً لبعض ما سبق، ليس من أدبيتها أو فنيتها بل من جرأتها بشكل أساس، ومن ممارستها لجلد الذات الذي يبدو أن العرب صاروا يتلذذون به، بعد أن أعياهم، في سلبيتهم، الرد على من يعذبونهم، إلى جانب البساطة حد الاقتراب من نفس القارئ العادي.
najmaldyni@yahoo.com
شكرا للدكتور العزيز على فضحه هذه الرواية التي نالت شهرة لاتستحقها بتاتا