الدكتور علي القاسمي : في رحيل شاعر المقاومة سميح القاسم

ali alkasimiأنا لا أحبُّك يا موت، لكنني لا أخافك،
وأدرك أن سريركَ جسمي، وروحي لحافك،
وأعلمُ أني تضيق عليَّ ضفافك،
أنا لا أحبك يا موت، لكنني لا أخافك.
سميح القاسم
بعد صراع رهيب مع الموت دام حوالي ثلاث سنوات، سقط غصن الزيتون من يد شاعر المقاومة الفذ، سميح القاسم، وترجل عن صهوة الشعر والنضال، في 19 من شهر آب/أغسطس 2014، ليُرفع نعشه على أكتاف فتيان قرية الرامة الفلسطينية وشيوخها ومعهم أولاده الأربعة: وطن ووضاح وعمر وياسر، وتسير خلف نعشه، صبايا البلدة ونساؤها وهن يزغردن وينشدن قصيدته التي لحَّنها وغنّاها الفنّان اللبناني المتميِّز، مارسيل خليفة:
مُنتصبَ القامة.. أمشي
مرفوعَ الهامةِ .. أمشي
في كفي .. قفصةُ زيتونٍ وحمامه
وعلى كتفي.. نعشي
وأنا أمشي.
قلبي قمرٌ أحمر ..
قلبي بُستان ..
فيه العوسج، فيه الريحان
شفتاي .. سماءٌ تمطر
ناراً حيناً، حُباً أحيان …

حياة الشاعر:
وُلِد سميح في بلدة الزرقاء الأردنية سنة 1939 حينما كان والده ضابطاً برتبة رئيس (كابتن) في حرس الحدود ويقيم مع عائلته هناك، وأصله من قرية الرامة الفلسطينية. وتلقّى سميح تعليمه في مدارس الرامة والناصرة، ومارس التعليم في إحدى المدارس ثم تفرّغ لأنشطته الأدبية والحزبية والسياسية. والرامة قرية تقع في الجليل الأعلى على سفح جبل حيدر، وتبعد بنحو 25 كم شمال مدينة عكا؛ ويبلغ عدد سكانها اليوم أكثر من سبعة آلاف نسمة أغلبهم من الطائفة الدرزية التي هي فرقة من الشيعة الإسماعيلية.
ولأسرة الشاعر تاريخ عريق في النضال والثقافة معاً. فجده الأعلى خير محمد الحسين كان من أسياد القرامطة وعلمائهم، وقِدم من شبه جزيرة العرب في النصف الثاني من القرن الحادي عشر الميلادي بعد انهيار دولة القرامطة، إلى فلسطين لمحاربة الصليبيين، واستقرَّ على سفح جبل حيدر، وما زال المكان الذي نزل فيه يسمى بتلة خير. والقرامطة فرقة من الشيعة الإسماعيلية أسسها حمدان قرمط، خرجت على الخلافة العباسية وأسَّست دولة في جنوبي العراق والمناطق الشرقية من شبه جزيرة العرب سنة 899م دامت حوالي قرن من الزمن، واتسمت دولتهم بمراعاة العدالة الاجتماعية، والتزامها بحقوق المواطنين، واهتمامها بالتعليم، مما حدا ببعض الباحثين إلى اعتبارها أول دولة اشتراكية في التاريخ. يقول سميح القاسم:
جعلتْني ابنها من قرون
أرضعتني البقاء
دفَّقت في عروقي الدماء
وهي شاءت فكنتُ
كما آمنتْ أن أكون
وهي شاءت، فكان الكتاب
نعمةً في يديَّ…

محمود درويش وعلي القاسمي وسميح القاسم - القاهرة 1988
محمود درويش وعلي القاسمي وسميح القاسم – القاهرة 1988

ورث الشاعر سميح القاسم شجاعة آبائه ونضالهم وتعلقهم بالثقافة والمعرفة. فمنذ شبابه عُرِف بكونه أحد أعلام شعر الثورة والمقاومة الثلاثة الذين بزغوا في الستينيات داخل فلسطين المحتلة (أراضي 1948): توفيق زياد ( 1929 ـــ 1994) ومحمود درويش ( 1941ـــ 2008) وسميح. يُضاف إليهم كاتب صحفي هو أميل حبيبي (1921 ـــ 1996) صاحب رواية ” المتشائل” الذي أوصى أن يُكتب على قبره ” باق في حيفا”. وقد مارس هؤلاء الأعلام نضالهم السياسي من خلال المؤسسات السياسية والحزبية الإسرائيلية، فاختاروا الانتماء إلى الحزب الشيوعي الأسرائيلي. وجاء اختيارهم هذا لأسباب عديدة منها لأن الحزب الشيوعي الإسرائيلي تعود جذوره إلى الحزب الشيوعي الفلسطيني، ولأنه معادٍ للصهيونية، ولأن من أهم أهدافه عدم التمييز بين العرب واليهود، والمساواة المدنية والقومية للمواطنين العرب داخل إسرائيل. إضافة إلى أن الحزب الشيوعي هو الحزب الإسرائيلي الوحيد الذي يمتلك صحيفة باللغة العربية. وكما أخبرني أميل حبيبي ذات لقاء: كنا كالغرقى، نتشبث بأي خشبة طافية مهما كان لونها، حمراء أو خضراء، في سبيل المحافظة على الوجود العربي داخل إسرائيل.
وعلى الرغم من انتماء الشاعر الفلسطيني سميح القاسم إلى الحزب الشيوعي الأمميِّ التوجُّه، فإن رؤاه النفسية والفكرية والوطنية ظلت قومية عروبية، وهذا أمر مفهوم، لأن فلسطين جزء من الوطن العربي، يقطن في سويداء قلوب العرب وتهفو إليه أرواحهم، مهما حاولت السياسات الاستعمارية والصهيونية إشغال البلدان العربية بمشكلاتها المحلية أملاً في جعل شعوبها تنسى القضية الفلسطينية. ويبرز توجُّه سميح القاسم القومي في تأسيسه صحيفة ” كل العرب” في فلسطين المحتلة، وترؤسه اتحاد الكتاب العرب في دمشق، وكتاباته، وغير ذلك.
عُرِف الشعراء الفلسطينيون الثلاثة، زياد ودرويش والقاسم، باسم شعراء الثورة والمقاومة، خاصة بعد انطلاق حركة الفدائيين أوائل سنة 1965 وبعد هزيمة العرب عام 1967 ، فبعثت أشعارهم بصيص أمل في النفوس الكسيرة، وأعادت بعض الكبرياء والنخوة إلى وجدان الصقر العربي الجريح، وألهمت فدائيين كثيرين، وأشعلت الحماس في نفوس العديد من الشبان الفلسطينيين والعرب للانخراط في حركة المقاومة وصفوف الفدائيين .
تعرَّض سميح القاسم لحقد السلطات الإسرائيلية وقسوتها بسبب نشاطه الأدبي والسياسي الفلسطيني العربي، ومقاومته لفرض إسرائيل التجنيد الإجباري على الطائفة الدرزية التي ينتمي إليها. فطُرِد من عمله واعتُقل أكثر من مرة، ووضع رهن الإقامة الجبرية والاعتقال المنزلي، وواجه تهديدات بالاغتيال في الوطن وخارجه. ومن داخل المعتقل كان يبعث برسائله الشعرية إلى الأصدقاء:
ليس لديَّ ورقٌ، ولا قلم
لكنني، من شدّةِ الحرِّ، ومن مرارة الألم
يا أصدقائي .. لم أنَم.
لسميح القاسم أكثر من 50 كتاباً في الشعر والقصة والمسرح والمقالة والترجمة. وتُرجِم كثير من أعماله الشعرية إلى أزيد من عشرين لغة عالمية، وحاز جوائز مرموقة مثل جائزة غار الشعر الإسبانية، وجائزتين فرنسيتين إثر ترجمة مختارات شعرية له باللغة الفرنسية أنجزها الشاعر المغربي عبد اللطيف اللعبي، وجائزة نجيب محفوظ المصرية، وجائزة الشعر الفلسطينية، وجائزة البابطين الكويتية وغيرها كثير.

شعر سميح القاسم:
أثرَّت النكبة الفلسطينية في نفوس الشعراء الشباب أينما كانوا في الوطن العربي، فأصبحت عقولهم تتأجج رفضاً للأنظمة البالية، وغدا وجدانهم يتطاير تمرداً وثورة، وهم يستمعون إلى الإعلام العربي الرسمي الزاخر بألفاظ رنانة محنّطة في قوالب البلاغة القديمة، فانبروا يبحثون عن قوالب شعرية جديدة وأساليب حديثة تتسع لأفكارهم الثورية وتحل محل الأوزان الخليلية التي أمست مستهلكة، ولم تعد مؤثرة فاعلة في وعي المتلقي ووجدانه. ومن هنا ظهرت حركة الشعر الحر أو شعر التفعيلة في أواخر الأربعينيات على يد ثلاثة من طلاب دار المعلمين العالية في بغداد: بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي. وسرعان ما تلقفها وطوّرها نزار قباني في سوريا وصلاح عبد الصبور في مصر، وشعراء المقاومة في فلسطين، ومليكة العاصمي في المغرب وغيرهم كثير.
فحركة الشعر الحر لم تكن مصادفة زمانية، بل تفاعل عاطفي عميق مع نكبة فلسطين التي فجّرت إرادة الفعل الثوري في وجدان الشعراء الشباب، فراحوا يتخلصون من القوالب اللفظية النمطية، ويُقبلون على المفردات الاعتيادية الرائجة في الاستعمال اليومي، فيصقلونها ويرقِّدونها في سياقات شعرية جديدة، تعيد لها لمعانها وجدتها وبهائها، ثم يطلقونها في نهر المقاومة والثورة الهادر الذي يحررها من ماضيها الآسن، ويهبها حياة متجددة حافلة بالنشاط والحركة.
وهكذا نزل الشعر العربي من عليائه وعزلته، وتنسكه وتصوفه، ليختلط بالجماهير العريضة التي أصابها الضيم، فيعبّر عن وجدانها وضميرها وينشد معها أحزانها ومرثيات شهدائها، ويحوّل الكلمة إلى رصاصة مارقة، والعبارة إلى مشعل متأجج . يقول سميح القاسم:
أنا قبل قرونْ
ما كنتُ سوى شاعرْ
في حلقات الصوفيينْ
لكني بركان ثائرْ
في القرن العشرينْ.

لقد أفرزت النكبة الفلسطينية جيلاً من الشعراء الفلسطينيين والعرب، يكفر بالألفاظ الجوفاء والأوزان الخرساء، ويطمح إلى صياغة كلمات وجمل جديدة تخلق الفعل وتنتج العمل، وتخاطب وعي السامع ووجدانه. يقول سميح القاسم وهو يتحول من اليومي إلى الكوني وينتقل من القومي إلى الإنساني:
جعلوا جرحي دواة
ولذا فأنا أكتب شعري بشظية
وأغني للسلام…
كانت كلمات الصديقين الرفيقين محمود درويش وسميح القاسم تنطلق من داخل فلسطين المحتلة مثل الرصاص المنهمر، لتشد أزر بنادق الفدائيين القادمين من الخارج، فيشتد أزيزها، وتلهب حماس الشبان الفلسطينيين الآخرين والعرب فينخرطون في صفوف الفدائيين. يقول سميح القاسم مخاطبا الصهاينة:
تقدَّموا براجمات حقدكم،
وناقلات جندكم،
فكل سماء فوقكم جهنم
وكل أرض تحتكم جهنم.
ويشارك سميح القاسم بأشعاره في معارك الفدائيين والمقاومين معركةً معركةً، يؤازرهم بكلماته المناضلة النارية، وعباراته الفاعلة الثورية:
في أكثر من معركة دامية الأرجاءْ
أُشهر هذي الكلمات الحمراءً
أُشهرها .. سيفاً من نارِ
في أكثر من دربٍ وعرِ
تمضي شامخةً أشعاري…
ولما كان سميح القاسم شاعراً أصيلاً، ذا موهبة فنية راقية، فإنه متمكن من مختلف الكتابات الشعرية: الشعر العمودي والشعر الحر وقصيدة النثر، تماماً كما كان بدر شاكر السباب ونزار قباني. ففي مجموعات سميح الشعرية الأولى، مثل: “أغاني الدروب” و ” دخان البراكين ” و ” أرم ” و ” في انتظار طائر الوعد” نجد قصائد عمودية في غاية الروعة وذات جماليات شعرية حديثة، مثل قصيدة ” أصوات من مدن بعيدة”:
قُومي اشهديني، صاعداً كالريح، من كهـــفي الذليل
قومي اشهدي عينيَّ، مصباحيْـــــــن في الليل الطويل
قومــــي فإنـــي قــــــــــادمٌ.. جيــــــلاً على آثــــــار جيــــــــل
رئتـــــــي تمــــــجُّ غلــــــيلَها الدامــــي، تـبـــــاركَ من غليل
ويدي على الرشّاشِ ضاغطةً، ووجهي في الدخيل…

والقصائد الغزلية نادرة في أشعار سميح القاسم، وتذكرنا قصيدته الغزلية ” درب الحلوة ” بقصيدة السياب ” عيناك واحتا نخيل ساعة السحر” وبكثير من قصائد قباني، برقتها وجزالتها في آن واحد، وهي من الشعر العمودي كذلك:
عيناك ! وارتعش الضياء بسحرِ أجمل مقلتيْنْ
وتلفَّـــــتَ الدربُ الســـــــــعيد، مُخدَّراً من سكرتين
وتبرَّجَ الأفـــــــقُ الوضئ لعيــــــــــــد مولد نجمتين
والطير أسكرها الذهول، وقد صدحتِ بخطوتين
والورد مال على الطريق يود تقبيل اليدين…

ولسميح القاسم عناية خاصة بالشعر القصصي، فديوانه ” دخان البراكين” الذي نشر معظم قصائده في مجلة الجديد في حيفا وصدر في أواخر الستينيات، يحفل بالشعر القصصي ، مثل قصيدة ” الطفل الذي ضحكَ لأمّه المقتولة” وقصيدة ” زنابق لمزهرية فيروز” . وتعدُّ قصيدته ” ليلى العدنية ” التي استغرقت قرابة عشرين صفحة من ديوانه ” دخان البراكين” من أجمل الشعر القصصي الحديث، وهي تروي قصة فدائية عربية استشهدت من أجل الحرية، ومطلعها:
شاءها اللهُ، فكانت كبلادي العربية
نكهة الغوطة والموصل فيها،
ومن الأوراس، عنف ووسامة
وأبوها شاءها أحلى صبية…

خاتمة:
إن ثقافة سميح القاسم العميقة ومطالعاته الواسعة المتنوعة في الفلسفة والتاريخ والعلوم والفنون، ومعرفته بالقرآن والإنجيل والتوراة، وتمكنه من العبرية والإنكليزية وتشبّعه بالمعارف العربية والغربية، جعلت من كتاباته وقصائده ذات حمولة فكرية وازنة. وحرّكت في بحر شعره المتلاطم تيارات أدبية متنوعة: رومانسية، ورمزية، وصوفية، وغيرها. كما أن شجاعته وإقدامه الموروثين جعلا من شعره مشعلاً للمقاومة في الأرض المحتلة يبعث الأمل في وجدان الفلسطينيين الذين يواجهون مخططات رهيبة لاجتثاث ثقافتهم العربية، ناهيك بانتزاع أراضيهم وتدمير معالمهم التاريخية الحضارية. وبرحيله بعد صديقه ورفيقه محمود درويش فقدت القضية الفلسطينية صوتاً هادراً يصل إلى جميع أنحاء العالم فيخاطب ضمائر المثقفين، ويهز وعيهم ووجدانهم.

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| جمعة الجباري : قراءة الدلالات الشعرية عند الشاعر صلاح حمه امين في ديوانه “عقارب الساعة التاسعة”.

* صلاح الدين محمد أمين علي البرزنجي المعروف بالاسم الحركي صلاح حمه أمين،  شاعر وفنان …

| اسماعيل ابراهيم عبد : على هامش ذاكرة جمال جاسم امين في الحرب والثقافة – تحايثاً بموازاة عرضه .

الكاتب جمال جاسم أمين معروف بين المثقفين العراقيين باتساع نتاجه وتنوعه كمّاً وجودة , فضلاً …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *