( .. ونكاد في هذا القدر نكون أغرب شعوب العالم ، حيث منحنا الله هبة الوعي الأول ، والموسيقى الأولى والأنبياء الأوائل ، والمبدعين الرواد ، وهنا نشأت رؤى الغنوص والمتصوفة وفاق الصبر حده كما عند أيوب .. وبالرغم من هذا فإن عهودنا التي تخضع لإرادة الغرباء وذوي السحن الشقر طويلة ومريرة . نثور ونطردهم ويعودون . يأتي إلينا ألف حسين فنهتف وراءه بحماس الفائز بكأس الدوري ، ولحظة ما ، ربما هي لاشعورية ، نتركه وحيدا في ساحة الميدان ونذهب نلهث وراء الخرافة والفطرة وتصديق أن الدمعة تسقط من الشمعة وليست من العين … وبين الشمعة والجفن ، أرى الإغماضة الغريبة لوطني وأحزن عليه كثيرا ) . ” جمهورية السيدة زينب ” ، كتاب القاص والشاعر والروائي المبدع ” نعيم عبد مهلهل ” هو كتاب عذابات العراقيين المهاجرين والمنفيين في واحدة من جمهوريات الأحزان التي أسسوها في المنافي ، عذابات يرصدها نعيم بعين حادة وروح مفجوعة ومعايشة حقيقية ملتهبة من وسط نيران المحنة . وجمهورية السيدة زينب هي أكبر جمهوريات المنافي ( تقبع على الأرض الشامية الطيبة حيث مازال أهل الشام الكرماء يرفعون قبعات التحية لدمعة العراقي الهارب من جنون الذبح والمفخخات والمحاصصة التي شملت حتى ألوان ربطات العنق ، وغاب عنها الشعور التاريخي بأن الذي يحدث ربما تجاوز مسببات النظام – ص 5 ) . تأسست هذه الجمهورية بعد أن واجه العراقي وهو في محنته نكران الجميل والشراسة المتشفية بأسد مخذول وجريح في غابة ثعالب مستخذية فصارت بعض الدول ( تضيق ذرعا بالعراقيين لأسباب كثيرة ومنها ما كان للعراق فضل في نهضتها الحديثة ، وعماراتها العالية وفنادقها تسعة النجوم بنيت بنفط العراق ، ولكنها الآن تعيد ثلاثة أرباع ركاب الطائرة القادمة من العراق ، إلى العراق بحجج تمتد من المذهبية إلى تقدير العمر وتنتهي بمزاج ضابط الجوازات – ص 6 ) .
وقفة للتاريخ : كنت في مقالتي التي نشرت في ملحق ألف ياء الزمان الغراء عن فيلم ” ضحايا الصمت ” الذي أخرجه الفنان ” فائز صبري ” ، والذي عالج فيه معاناة الشباب العراقيين المعاقين من الصم والبكم الذين هجوا من البلاد وأسسوا لهم مملكة صغيرة في السيدة زينب ، قد قلت أن هذا الفيلم هو أول انتباهة لمحنة هؤلاء ، أما الآن فقد ثبت أن ” نعيم ” هو صاحب قصب السبق في الإشارة التفصيلية إلى معاناة هذه الشريحة المعذبة والمهملة ، فقد خصص المقالة الأولى من كتابه هذا لطرح معاناة هؤلاء الشباب المتعبين الذين يقول عنهم :
( سألت أحدهم بالإشارة : مادمت لا تسمع كل شيء ، ولا تعرف ما الذي يحدث بالعراق سوى بعينيك ، ما الذي جعلك تهاجر ؟
قال بصوت قوي : بم .. بم .. بم ..
وهو يعني القنابل والمفخخات ، ثم أشار إلى رقبته بحركة تشبه حركة ذبح الشاة بسكين ، وهو يعني خوفه من الموت ذبحا – ص6 ) . ويختم مقالته عنهم بالقول : ( أولئك هم بعض من سكان تلك الجمهورية البريئة التي انشطرت عن الوطن الأم بسبب الحظ الرمادي لهذه البلاد ، بسبب الحروب والحصار وجنرالات الجيش ونرجسية العشيرة ونواب من دون شهادات ، لترمى خارج حدود الخارطة الأم متنقلة بباص أو ( بهبهان ) أو طائرة ، مهاجرة بين أرجاء الأرض تبحث عن مأوى – ص 7 ) .
وفي أكثر من ( 55 ) مقالة ضمتها دفتا الكتاب ( 183 صفحة ) يلاحق الكاتب تفصيلات المحنة العراقية الجديدة التي خلقها الإحتلال والتي جاءت متراكبة على إرث هائل من قرون السيطرة الأجنبية المذلة والأداء السياسي المرتبك الذي أحرق زرع البلاد وجفف ضرعها وأطاح بمستقبل أبنائها . ولا يستطيع نعيم – كعادته – التخلص من بصمات الغولة السوداء التي انطبعت على سطح روحه وذاكرته ؛ غولة الحرب ، فينطلق منها ، أو يتراجع إليها دائما ، مستثارا بحفزات الخراب الدامي الذي أصاب وطنه . ومن ” طشت الخردة ” الظاهرة التي تأسست في بابل الجديدة ولا مثيل لها في التاريخ القديم أو المعاصر ، ولم يشهدها أي مكان في المعمورة ( هذا طشت واقعي وليس طشت خياليا كما بساط الريح . مصطلح أطلقه أهل الحلة على تلك الآنية يوم فجر انتحاري سيارة مفخخة بحشد هائل من البشر في مدينة الحلة فتطايرت في الهواء كحمامات مذبوحة أجساد البشر وتداخلت تكوينات بنيتها وافترقت منها أجزاء وتبعثرت في المكان لتصبح من دون هوية – ص 22 ) .. إلى المفخخات وقطع الرؤوس .. والقتل على الهوية .. المحاصصة .. إستهداف الأقليات .. الجوع في بلد الثروات الفردوسية والخراب الاقتصادي والفساد .. هبوط الذوق الفني .. نهب الآثار وتدميرها .. ضياع الطفولة .. والأهم من وجهة نظر نعيم كمبدع هو فقدان القدرة على الحب واجتثاث مظاهره .. وأهمها اختفاء تلك الممارسات والرمز التي تعبر عنه .. فهل يعقل أن البلد الذي ينتخب ملكة للجمال في عام 1947 يحارب كل مظاهره ويخنق جمال المرأة في الألفية الثالثة . ثم لماذا اختفت الورود من حياتنا ، أين باقات الزهور تلك التي كنا نهديها لأحبائنا ونتداولها في المناسبات .. ولماذا اختفت محلات بيع الزهور من أسواقنا ؟ : ( غاب الورد ولم نعد نراه سوى في بطاقات البريد ، وحين يجلس المسؤول ليتحاور في برنامج سياسي عن مستقبل العراق وديمقراطيته الموعودة ، يقول ويعيد ، ولا شيء يتحقق ، والورد الذي خلفه وأمامه شاهد على ذلك . هل نسى العراقيون الورد ؟ أقول هم لن ولم ينسوه لأنهم صناع تاريخه وعطره وغايته ، فكيف ينسوه . ولكن الأمر مؤجل لحين يحلّها حلال – ص 27 ) . ولا يأتي الحل ، ولن يأتي ، كما يعلن نعيم إلا إذا اقتنع الجميع بأن الوطن ليس بطيخة ( تشيّف ) على مائدة الموت !! .
نعيم عبد مهلهل .. وآلام جمهورية العذاب العراقية في السيدة زينب
قراءة: حسين سرمك حسن – دمشق
تعليقات الفيسبوك