هنري روسو (1844-1910) كان موظفاً بسيطاً في الجمارك الفرنسية لكنه كان يعشق الرسم الذي لم يتعلمه عن دراسة وإنما عن فطرة. في البداية لم يطلع على لوحاته سوى أفراد عائلته وجيرانه الذين وجدوا انه يرسم مواضيع تعبر عن مشاعر وطنية لبلدهم فرنسا فكانوا يشترون هذه اللوحات منه وكذلك كانوا يطلبون منه رسمهم في بورتريهات وجدوا أنها تعكس شخصياتهم. فيما عدا جيرانه وعائلته لا يبدو أن هنري روسو كان قد تم تشجيعه على الرسم من قبل آخرين بل بالعكس فإنه حين اتجه للجهات المختصة لعرض لوحاته عليهم فإنه جوبه بالسخرية وبالقول بأن لوحاته بسيطة جداً بل ساذجة.
ويبدو أن تكرار القول له بأن لوحاته ساذجة وبسيطة قد أقنعه بصحة ذلك رغم أن ذلك لم يقنعه بالتوقف عن الرسم، ويحكى انه عام 1907 وحين كان روسو في الستينات من عمره وكان قد تقاعد من عمله في الجمارك تم سجنه بتهمة التلاعب على القانون ومحاولة السرقة حيث كان قد تعاون مع صديق له يعمل موظفاً في إحدى البنوك على فتح حساب وهمي من أجل نقل 21000 فرنكاً من البنك لهذا الحساب الوهمي ومن ثم سحبها وما يهمنا هنا هو أنه في المحكمة قام محامي الدفاع بعرض بعض لوحاته على القاضي ليثبت أن موكله متخلف عقلياً وأنه من السذاجة بحيث أن صديقه استطاع أن يخدعه ويستغله وبأنه بريء، وقام هنري روسو بعد ذلك بالطلب من القاضي بأن يطلق سراحه لأنه قد حان موعد استلام مرتبه التقاعدي 1.
ألا يبدو روسو بطلبه ذاك وهو يلعب دور الساذج بشكل محترف؟
في تلك الفترة التي كان هنري روسو يحاول التخلص من مأزق السرقة التي وجد نفسه متورطاً بها كان بابلو بيكاسو (1881-1973) يتمشى في حي مونتمارتر في باريس فشاهد مصادفة في أحد محلات الخردة لوحة مهملة أعجبته كثيراً واشتراها بـ5 فرنكات. كانت تلك إحدى لوحات هنري روسو و تحمل عنوان “بورتريه لإمرأة” وقد أعجبت بيكاسو كثيراً فبدأ منذ ذلك الحين البحث عن لقاء روسو ليبلغه مدى اعجابه بها. أثناء بحث بيكاسو عن روسو وجد لوحات أخرى له فاشتراها أيضاً لكن بقت لوحة “بورتريه لإمرأة” المفضلة له حتى إنه احتفظ بها طوال حياته وكان يأخذها معها كلما انتقل لمدينة جديدة2 .


في السنة التالية لسجن هنري روسو أي عام 1908 أقام بيكاسو مأدبة عشاء دعى إليها الفنانين الشباب للحضور لمرسمه في حي مونتمارتر في باريس للإحتفاء بهنري روسو الذي كان بدوره مدعواً بالطبع. كان أغلب الحضور رسامين وشعراء بعمر العشرين بينما كان هنري روسو في تلك الفترة في الستينات من عمره وكانت ربما هذه المأدبة هي أول اعتراف به كرسام مميز ومعتبر.
بعد تلك الوليمة صار هنري روسو يؤخذ على محمل الجد أكثر من ذي قبل، فبدأ الناس يسألون روسو عن معاني لوحاته ويتأملون فيها ويكتشفون أسرارها. ونرى ذلك جلياً في عام 1910 حين رسم هنري روسو لوحة (الحلم) التي كانت ستكون مثار سخرية معاصريه لكثرة تفاصيلها التي تبدو غير متلائمة مع بعضها البعض ولغرابتها، لكن هذه المرة لم يسخر أحد منه بل بالعكس تنافس الفنانون على إعطاء تفسيرات للوحة.
ولوحة (الحلم The Dream) تبلغ أبعادها مترين في ثلاثة أمتار يطغى عليها اللون الأخضر حيث أحصى البعض أكثر من خمسين درجة لونية للأخضر 3 ، وتصور اللوحة إمرأة عارية متمددة على أريكة في وسط ادغال الغابة تحيط بها أزهار اللوتس زرقاء وصفراء ووردية وخضراء شاحبة ورمادية وهي تنظر الى عازف ناي اسود. هناك في منتصف اللوحة اسدان بعيون صفر ينظر الذكر منهما بانتباه علينا واللبوة تنظر على المرأة العارية. أسفل الأسد الذكر نرى افعى ببطن برتقالية تتسلل بهدوء على جانب. خلف الأريكة، متوارياً خلف الأدغال، نرى فيلاً رافعاً خرطومه. في أعلى اللوحة نرى بعض الطيور والقرود متوارية بين أغصان الشجر العامرة بثمرات البرتقال. وفي أعلى اليمين نرى جزءاً من السماء الزرقاء الشاحبة يتوسطها البدر التمام.
حين سؤل هنري روسو عن سبب وجود هذه المرأة العارية مستلقية على الأريكة في وسط الغابة أجاب بأنها نامت على الأريكة وانتقلت الى الغابة في الحلم.
قبل عشر سنين من لوحة (الحلم) لهنري روسو، أي في عام 1900 ظهر كتاب سيجموند فرويد “تفسير الأحلام” بطبعته الاولى، وتوج فرويد في ذلك الكتاب أبحاثه في الأحلام ذلك الكتاب الذي يعتبر أول بحث علمي في موضوعة الحلم، وهو الكتاب الذي لم يتقصر تأثيره على علماء النفس بل امتد تأثيره على المفكرين والفنانين بشكل عام. والذي قاله فرويد في كتابه هذا هو أن الحلم عبارة عن محاولة اللاشعور تفريغ شحنته الإنفعالية بتحقيق رغباته التي يحاول ان يكبتها الشعور عن طريق المقاومة، فيحاول اللاشعور أثناء الحلم أن يتحايل على المقاومة بتحقيق الرغبات بطريقة رمزية.
ربما بقي فهم العلماء للأحلام على حاله منذ سنة 1900 إلى أن أتت سنة 1953 لتسجل بدء تجارب العلماء أسيرنسكي، وكليتمان، وديمنت فيما أسموه “مختبر النوم” حيث ينام الشخص الذي تجري دراسته في غرفة مجهزة بأجهزة تفحص دقات قلبه وسرعة تنفسه وتخطيط دماغه وغيرها من تغيرات فسلجية أثناء النوم، ويجري أثناء ذلك إيقاظه عند الضرورة وسؤاله عما كان يحس به وهو نائم فوجد هؤلاء العلماء أن الأحلام تحصل في فترة من النوم أسموها فترة نوم (حركة العين السريعة) Rapid Eye Movement REM sleep حيث يكون فيه نشاط الدماغ مشابهاً لنشاطه عند اليقظة.
ثم تتالت الدراسات لمعرفة أجزاء الدماغ المسؤولة عن الأحلام، ووظيفة الأحلام واستعملت أجهزة تصوير الدماغ من الرنين الوظيفي وغيرها في مختبرات النوم التي تكاثرت حول العالم. ما زالت هناك الكثير من المجاهيل حول الأحلام إلا أن أحد النظريات المقبولة حالياً تقول أن اهم وظيفة للحلم هي ربط أجزاء الدماغ مع بعضها البعض حيث أن النشاط الدماغي الذي يحدث بين أجزاء الدماغ أثناء فترة حركة العين السريعة REM يساعد على ربط أجزاء الدماغ مع بعضها البعض بشكل أكثر وبذلك ترتبط إدراكاتنا وإنفعالاتنا وذاكرتنا وتفكيرنا مع بعضها البعض 4.
قام عام الأعصاب الفرنسي ميشيل جوفيت Michel Jouvet بطرح نظرية حول وظيفة نوم حركة العين السريعة REM لدى الحيوانات وذلك في كتابه المنشور عام 1999 بعنوان (إشكالية النوم The Paradox of Sleep) حيث وجد أن الجينات أثناء نوم حركة العين السريعة تقوم بإعادة برمجة الأعصاب لتعمل وفق ما تقتضيه هذه الجينات 5.
فكم يا ترى تتأثر أحلامنا بخريطتنا الوراثية؟ وبما أن الخريطة الوراثية لا تتطابق بين الأفراد فلكل منا خريطته الجينية الفريدة، فهل أن هذا يعني أن أحلام كل منا فريدة من نوعها ويمكن اعتبارها بصمة نفسية؟ ويا ترى ما هي بصمة هنري روسو النفسية في لوحته (الحلم) ولماذا هذه الغابات التي كثيراً ما نراها في لوحاته وهل كان يحلم هنري روسو بالغابات وأجوائها؟
إن الاحترام واعادة الاعتبار الذي قدمه بيكاسو وأصدقاءه لروسو تعتبر بداية الإحترام الموجه للتجربة الفردية في الرسم الغير منتمي إلى أي مدرسة فنية. إن العمل الفني يمكن إعتباره بصمة يتركها الشخص في الحياة، فلو رسم كل منا لوحات فنية لما تشابهنا ببصماتنا الفنية أبداً وإن هذا الإحترام الذي وجهه بيكاسو ومجموعة الفنانين الشباب لهنري روسو في وقتها كان احتراماً لبصمته المميزة الفريدة.
توفي هنري روسو في نفس السنة التي رسم بها لوحة (الحلم) أي في عام 1910، توفي بعد أن حقق حلمه في ترك بصمته الفريدة لنا وبقي المفكرون والفنانون يحتفون به وبلوحاته حتى بعد وفاته فهذه سيلفيا بلاث (1932-1963) تكتب قصيدة عن لوحة (الحلم)، وذاك الفنان الفرنسي روبرت ديلوني (1885-1941) يصرح بأنه يعتبر هنري روسو جداً للحداثة، وها هم السرياليون الأوائل يحتفلون بقدرة هنري روسو على تصوير الواقعية السحرية.
ألا نعيش نحن اليوم في مناطقنا العربية عصراً تسود فيه قيم الإكراه والإصرار على محق كل الخصوصيات الشخصية؟ وهل يا ترى تفيدنا قصة هنري روسو الجمركي الذي عشق الفن في استلهام بعض العبر؟
المصادر
1. Ireson N. Interpreting Rousseau. London, England: Tate publishing:2005
2. قصة بيكاسو وعثوره على لوحة روسو تلك والصور مأخوذة من الموقع الإلكتروني لمتحف تايت البريطاني www.tate.org.uk
3. وحيد القلش 1 أبريل 2012 مقالة هنري روسو: الغابة الفاضلة. جريدة الأهرام الرقمي المصرية
4. Hobson JA. REM sleep and dreaming: towards a theory of protoconsciousness. Nat Rev Neurosci. 2009; 10 (11): 803-813
سلمت يداك حقا نحن نعيش في مجتمع يكبت فيه أبسط الحقوق الفرديه. على أقل التقدير ومن البداهه أن كل إنسان له الحريه في اختيار الدين أو المذهب الذي يتعبد به والا فلا قيمة له إذا كان تقليدا للاسلاف أليس هذا أعني التقليد الأعمى من الأعراف الجاهليه التي نبذها الإسلام و عير المتمسكين بها على منطقهم الساذج ولكن للأسف نحن متمسكين بشدة بمبادئ جاهلية حمقاء مسفهين لعقولنا ونظن أن هذا من الأعراف والأخلاق الإسلامية.اشكرك على مواضيعك القيمه والمعلومات الغزيره.
روعه القصه