د. قصي الشيخ عسكر: التقنية الفنيّة للكاتبة “رشا فاضل” في مسرحية (غواية في ليلة آيلة للفجر)

مقدمة:
كنت  قرأت من قبل مسرحية قصيرة بطلها شخص واحد للكاتبة رشا فاضل عنوانها ” لعنة البياض ” وقتها كنت على يقين من أن الكاتبة ستقدم في المستقبل القريب عملا آخر لأن من تكتب مسرحية بمستوى ” لعنة البياض ” لابد من أنها قادرة على تقديم إبداع آخر ذي مستوى عال، وفعلا تحقق ظني حين جاء الجواب هذه المرة من رشا نفسها وهي تقدم لنا مسرحية بشخصيتين تحت عنوان ” غواية في ليلة آيلة للفجر ” تلك المسرحية التي أنا بصدد الحديث عنها في السطور النالية.

أولا: تقنية العنوان:
يتكون عنوان المسرحيّة  من خمس كلمات والمخمس في الفكر العربي والعالمي يعني القوة فمنه الخميس وهو الجيش والكف ذات الأصابع الخمس وفي لهجتنا العامية نكني الأسد بكنية ” أبو خميس ” ومن المخمس  استوحى الأمريكان اسم البنتاغون وزارة الدفاع  أي المخمس وأستطيع أن أطلق على عنوان المسرحية كلمة العنوان الموحي لأن كلماته أوحت بعكس ماوضعت له فكلمة غواية لاتدل إطلاقا على معنى الشر بل على معنى التحفيز والرغبة وكلمة آيلة التي ترتبط بالسقوط والتداعي  هي آيلة للفجر والفجر الأقوى والأعم والأشمل المتمثل بخارج المسرحية ” العنوان ” سيعادل الظلام الداخلي على المسرح المتمثل بالكهف في الوقت نفسه عكس المخمس   نفسه على المسرح وأدواته الرئيسة.

ثانيا العنوان والمسرح
هناك شخصيتان رئيستان  رجل وامرأة ثم كهف ورزمة ورق ونسيج عنكبوت كبير يحيط  بالمكان  وحين تبدأ المسرحية يطل علينا نسيج العنكبوت الكبير وهنا لابد من أن أوضح أن فكرنا العربي صوّر نسيج العنكبوت بخصلتين متضادتين فهو القوي المكين الذي منع كفار قريش من الدخول إلى الغار على النبي محمد ” ص ” وصاحبه أبي بكر ” رض ” في الوقت نفسه تحدث القرآن الكريم عن ضعف العنكبوت ” وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت “[1]  ويقول الشاعر جرير :

ضربت عليك العنكبوت بنسجها   وقضى عليك به الكتاب المنزل[2]

ويبدو ذكاء الكاتبة واضحا حين غلفت الكهف بنسيج العنكبوت فهو مشهد يوفر الأمن للشاعر الداخل الكهف مثلما وفر العنكبوت الحماية للرسول ” ص “وهو في الوقت نفسه يدل على القدم والذكرى أما الكهف فهو الكون وفق المدلول المكاني  إننا لسنا أمام خشبة مسرح بل أمام  خلق كوني أو حالة عماء. إن الأوراق تتناثر أي الأفكار أو المعنى الذي يشمل الكون لتغطي المكان كله نحن إذن في عتمة مسرحية مصغرة تشير إلى عتمة الكون الكلية في حالة الولادة، والكاتبة نفسها تلمح إلى ذلك:

وتقنعينه بعقم الحكاية عودي إلى رحم العدم نقطة البدء وقبلة التلاشي.

ثالثا الرجل و المرأة:
أول ما يدخل على خشبة المسرح هو الشاعر . إنه الذكر خلقه الله أولا[3] بعدئذ ٍ وجد آدم حواء لنقارن بين دهشة آدم حين يقع بصره على حواء وبين دهشة الشاعر وهو يرى الجنية:

فأوقع الرب الإله آدم في نوم عميق ثم تناول ضلعا من أضلاعه وسد مكانها باللحم وعمل من هذه الضلع امرأة أحضرها إلى آدم[4] إن آدم المندهش الذي يقول عن حواء هذه لحمي ودمي وعظمي يقول وهو في الكهف حين يواجه الحورية:

من أنت؟

أين تختبئين؟

لماذا تتحدثين معي؟

تساؤلات منطقية لرجل هارب من حرب واحتلال تجعلنا ونحن على كراسينا أمام المسرح نستعرض الماضي بكون هذا المسرح أمامنا رحما فيه جنين ينعم بالحماية والدفء داخله أو جنة تخلو من العنف والمشاكل هناك حيث يطالع آدم حواء أمامه التي هي طفولته وصباه تلك الطفولة البريئة التي لاتعرف الخوف والمشاكل وفق ماتعبر عنه المرأة نفسها في الحوار التالي:
الجنية: كنت تجلب العابك لتلعب معي دون أن تنتابك رعشة الأسئلة.

رابعا الحوار:
الحوار يتخذ في المسرحية أربع صيغ هي:

الاولى صيغة السؤال  بالسؤال نفسه للمتكلم والمخاطب كما في المشهد التالي:

الشاعر : من أنت؟

الجنية : ألا تعرفني؟

الثانية صيغة السؤال والجواب[5]:

الشاعر: هل تعرفينني إلى هذا الحد؟

الجنية: كنت تجلب العابك لتلعب معي دون أن تنتابك رعشة الأسئلة.

الصيغة الثالثة : الحوار الخبري مثلما نجده في التالي:

الجنية: لك سماؤنا التي لم تطأها أصابعكم الإنسية بعد. ولك أجنحة من صنع الأبدية.

الشاعر: لايمكنني ذلك لاأستطيع فقد كانوا بارعين في القتل.

الرابعة : صيغة  الحوار السردي أو السيكولوجي:

وهو حوار يقوم على اعتراف البطل أمام البطلة أشبه مايكون تعبيرا عن النفس لمريض أمام طبيب نفساني لقد تدرجت الكاتبة بحوارها من التساؤل إلى النقاش فالحوار التقريري الاعترافي النابع من أعماق النفس وذلك حين تطلب الجنية من الشاعر أن يغمض عينيه ويرفع يديه ثم يتحدّث.

خامسا الحركة:
يبدو الحوار- مجرد الحوار-  بين أية شخصيتين مملا والكاتب المسرحي الناجح هو الذي يقدر على أن يطرد الملل من مشاهديه فنحن لسنا إذاً أمام محاضرة تلفزيونية  أو محادثة عامة  بل هناك مسرحية من شخصيتين تتحاوران ومسرح وجمهور . إن رشا استطاعت عبر الحركات أن تبعث الحياة في شخصيتي المسرحية ومثلما اختارت لمسرحيتها عنوانا من خمس كلمات ومسرحا من خمسة اسس هي كهف وبيت عنكبوت وشخصيتان وأوراق أو كيس ورق، فهناك خمس حركات اساسية بعثت الحيوية في المسرحية هي :

حركة البدء هي حركة الختام ” ساعود لهذه الحركة بعد قليل ”

حركة الشاعر يغمض عينيه ويرفع يده عاليا:

حركة داخلية وإن بدت خارجية يكشف من خلالها الشاعر عن أعماقه” حركة تلفت نظر المشاهد”

الشاعر يدور مع بقعة الضوء حركة كونية تمثل حركة النور في العتمة لينصب اهتمام المشاهد على البطل.

حركة خارجية داخلية:
يستدير حول نفسه ويتلمس جسده إن حركته مع الضوء تشبه حركة الارض حول الشمس تابع ومتبوع لكن حركته حول نفسه متثل الحس التاملي في الإنسان إنها حركة الإنسان حول نفسه التي تجعله هو محور الكون، فهذا الشخص الضعيف المولود من الرحم الخارج من الجنة المصنوع من الله لم يكتشف نفسه بعد .

حركة البدء هي حركة الختام:
هذه الحركة يكررها الشاعر مرتين: بعد هذا الدمار الغريب في كهف محاط بالنسيج العنكبوتي نجد الشاعر يعود بحركة بارعة إلى البد الكوني الأول إنه يجلس القرفصاء هو في الكهف كما هو في بطن أمه تلك الحركة التي تخبرنا أن بطل المسرحية يبحث عن خلق جديد يعيد من خلاله ترتيب أوراق العالم أما كيف؟ فليس أمامه سوى أن يمزق أوراقه أي المدلول المعنوي للفكر وينثرها في كهف الكون ثم يقف ويرفع يده ثم يدور مع الضوء ” الضوء ممثل النور خارج الكهف وممثل العنوان الفجر داخل الكهف” بعد ذلك يدور حول نفسه ثم يعود ليجلس القرفصاء وينثر أوراقه. ملخص  كوني اختزلته الكاتبة رشا في مسرحية قصيرة اساسها كهف وشخصيتان.

الخاتمة:
قد لاأكون مغاليا إذا قلت إني شخصيا أعد الكاتبة المسرحية رشا فاضل الكاتبة المسرحية الأولى التي تكتب المسرحية القصيرة وتجيد حبكتها وتقنيتها متفوقة بذلك على النساء والرجال معا في البلاد العربية  وإذا كان الناقد الجاهلي القديم قد ظلم الخنساء حين قال إنها شاعرة تفوقت على  الذكور ثم استدرك إنه من الصعب أن نعترف ان هناك امرأة تتفوق على الرجال في الشعر فهي أفضل من حسان شعرا لكن حسانا أفضل منها لأنه ذكر لكننا نحن ابناء القرن الحادي والعشرين يجب أن نقر لأمثال رشا من النساء بالتفوق متحررين من عقدة الذكورة والأنوثة. آمل أن أقرأ لهذه الكاتبة المبدعة عملا إبداعيا  آخر وآخر  وإني أراها أهلا لذلك.
——————————————————————————–

العنكبوت 29/41.[1] النقائض.[2] العهد القديم تكوين[3] تكوين2/21-22.[4] في البلاغة العربية يسمى الأسلوب الخبري والأسلوب الإنشائي.[5] ————————————-
ithadkotab@maktoob.com

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. صادق المخزومي  : قصيدة الرصيف للشاعر صباح أمين – قراءة أنثروبولوجية.

مقدمة من مضمار مشروعنا ” انثروبولوجيا الأدب الشعبي في النجف: وجوه وأصوات في عوالم التراجيديا” …

| خالد جواد شبيل  : وقفة من داخل “إرسي” سلام إبراهيم.

منذ أن أسقط الدكتاتور وتنفس الشعب العراقي الصعداء، حدث أن اكتسح سيل من الروايات المكتبات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *