إشارة : ببالغ الإعتزاز استقبلت هيئة إدارة موقع الناقد العراقي أحد عشر نصا للمبدع الكبير ( أحمد خلف ) ، وإذ تقدم الهيئة بالغ شكرها وامتنانها للعزيز أبي ريم على هذه المساهمات الرائعة ، فإنها يسرها كثيرا أن تبدأ بنشر المقالة الأولى له عن الأستاذ المبدع ( جمعة اللامي ),
يعتبر أدب جمعة اللامي القصصي، أدب فجيعة، أي أنهُ ينتسب وينتمي كلياً الى الأدب المأساوي الذي تعارفنا عليه في الآداب العربية أو العالمية . وترتكز القاعدة الفكرية المغذية لنشوء نصوصه على المعادلة الثنائية التي تقول، بضرورة البحث عن الوشائج او القواسم المشتركة بين التجربة الذاتية وبين تراثه الوطني أو القومي، لذا، فالتجربة الخاصة للقاص الكبير جمعة اللامي من الثراء والغنى بحيث نجدها تطغي في بعض النصوص التي كتبها في النصف الثاني من مرحلة الستينات، على تجارب معرفية واجتماعية وبعضها ذو أصول دينية وأخرى سياسية واضحة المعالم ، سوف نأتي على ذكرها وجعل حالة التماس بين ما هو ديني وما هو سياسي ممكنة الشروع في تهيئة النص القصصي الذي كتبهُ . ومن الضروري جداً الإشارة الى أني تعرفت عليه شخصياً بعد مغادرته سجن الحلة في عام 1968 ، أي بعد صدور قرار إعفاء السجناء السياسيين، وكان قبلها عسكرياً كما ذكر لي هو شخصياً، غير ان هذا العسكري لم يكن مجرد رجل في الجيش تعرض الى الاعتقال او السجن لأسباب تخص المهنة . بل كان مثقفاً سياسياً ومناضلاً داخل صفوف الجيش العراقي آنذاك. وأحسبُ ان تعلمه وتثقيفه ضمن التخصص الذي نحن بصدده كان في السجن تحديداً، ولابد وان تكون لديه بوادر القراءة قبل الاعتقال. إن جمعة اللامي القاص والكاتب والأديب، لم ينكر في أي يوم من الأيام، أنه كان عضواً في الحزب الشيوعي العراقي، لكن تجربته هذهِ التي انتهت في سنة 1963، بعد اعتقاله ، أصبحت معيناً لا ينضب من الخبرة وتعميق التجربة والاستفادة منها في خلق الصورة القصصية التي ترتكز الى خيال خلاق، وثاني ركائزه المعرفية أو الاجتماعية، أن القاص ، حاول أن يستغل ثقافته ومعرفته بتجارب القديسين والثائرين عبر التاريخ ، ومما لا ينكر انه قام بعملية مزج توفيقية بين المأساة التي أدركها فيما يخص اطلاعه العميق على مأساة الحسين بن علي ( ع ) عنه، وبين تجربته الشخصية، أي الفاجعة التي حكمت على اشتراطه الفني في أن تتجلى هذهِ التجربة بخصوصية نادرة بين معظم مجايليه من القاصين ، وللأمانة، ينبغي التأكيد، ان جمعة اللامي،كان خلال الأيام التي تلازمنا بها معاً وهي عدة سنوات، أي منذ سنة مغادرته السجن حتى رحيله الى منفاه الطوعي، أقول،كان هذا القاص منشغلاً بل منغمساً في تجربته الشخصية التي كانت هي محنته الحقيقية ، لذا تماهى مع التجربة الكربلائية بصورة جعلته يستفيد بوضوح تام من مفردات تلك الفاجعة، استفادة أهلته المزج بين ثورة الحسين بن علي ( ع ) وبين أي ثائر حمل راية الحق من قبل …
ومن الغريب ان تكون المأساة التي عاشها الثائر الأرجنتيني، ارنستوتشي جيفارا في بوليفيا وما تبعها من خيبة أمل شديدة الوقع على الشارع العربي والعراقي الذي كان يؤمن بالكفاح المسلح آنذاك،ان تكون تلك المأساة قد وجدت صداها، لدى الكثير من شعراء وقاصين في المرحلة الستينية، وتماهى معها العديد منهم تماهياً جعل نصوصهم تفسح المجال للنهاية المأساوية التي عاشها جيفارا لقد استطاعت قوى الظلام والرجعية السياسية العالمية من القضاء على المشروع الثوري لهذا الثائر، الذي كان يمثل في تلك المرحلة حلماً ستينياً لا يمكن الاستهانة بهِ قط، لنتذكر مسرحية الراحل جليل القيسي على سبيل المثال ؛ جيفارا عاد، افتحوا الأبواب . وغيرها، ولكن الاستثمار الأمثل كان على يد القاص جمعه اللامي الذي مزج بصورة مدهشة بين طرفي المعادلة،أي بين تجربته الذاتية وبين تجربة جيفارا التي وجد لها صدىً واضحاً في مأساة كربلاء ونهاية مشروع الحسين بن علي في إقامة دولة الحق والعدل، وهو ما كان جمعة يسعى الى تحقيقه في معظم النصوص القصصية التي كتبها ومن الضروري التذكير دائماً، في ان الذائقة الفنية التي تشكلت لدينا في تلك المرحلة، هي ذائقة حتمها الصرح التجريبي الذي ساد في مرحلة الستينات، وليس أمامي الآن إلا الإشارة الى عددٍ من قصصه التي اعتبرها نموذجاً يندر ان تتمتع بهِ مخيلة قاص من أبناء جيله كما برزت مقدرته في تلك القصص كقصصه التالية : من قتل حكمة الشامي وإبراهيم العربي ثم تاريخ القتلة ، ولعل قصته المعنونة بـ : ( اهتمامات عراقية) من النصوص الجديرة بالدراسة والتأمل والإشارة الى تلك الطاقة في التعبير من جانب،والسيطرة الفنية في السرد القصصي الذي تحركهُ حساسية مرهفة ؛ وأخيراً (مجنون زينب ) التي نحن بصدد قراءتها بصورة تفصيلية لنكشف أبعاد تجربة هذا القاص المميز بين أقرانه بخصوصية التجربة التي تغلغلت بعيداً في العمق التاريخي والمعرفي لجمعة اللامي المبدع والإنسان الستيني النزعة والانتساب .
(( أيها المؤمنون ..
أسرعت الجياد فوق رمال الويلات، وعرف ــ كما أنبأه جده ــ ان السر الذي وعُدَ بهِ سيتحقق خلال هذا اليوم فقط، فربت على عرف جواده ومال الى أنصاره وال بيته، فرأى الدموع تبلل لحاهم ومع ذلك فهم يبتسمون، في حين بدت طلائع ( الحر ) كالأشجار البعيدة ساعة القيلولة .
حاور الرجل نفسه وجده : ها ان الوعد اقترب، وبي شوق يا جدي للقياك .
كانت الشمس فوق رأسه تماماً
كانت الصحراء تحمله فرحه بالدم العبيط الجديد .
كانت أخته ساهمة ــ وعد الجد وعار السبي، أيتها الحوراء .
صوت : ماذا تكتب ؟
المؤلف : قصة .
لسنا بحاجة الى تلمس الطريق واكتشاف المفردات، خصوصاً وان اللغة السردية أفصحت عن جوانب كثيرة من الدلالة أو الإشارة ، وإن المناخ السردي الذي قدمه لنا النص هو مناخ ذو طبيعة توليدية للصور او المشهد الذي كشف عنه هذا المقطع من قصة / اهتمامات عراقية / : ان الجياد اسرعت فوق رمال الويلات، ولنا ان نشير الى تلك الصحراء التي تضمخت بدماء الحسين بن علي ( ع ) وأهل بيته .. ان إسراع الجياد جاء في الزمن الحاضر مما يشير الى احتدام الموقف القادم او حاجته الى الإسناد، لنجد أنفسنا في الزمن الماضي حيث عرف ان النبأ الذي اخبره بهِ جده، سوف يتحقق اليوم … سنكون مضطرين الى السؤال عن السارد وعن جده الذي أنبأه بتحقق السر القديم هذا اليوم، .. نستطيع ان ندرك ان السارد هو المؤلف الذي ينبئنا بدوره في انه يكتب قصة، وسوف نعلم أيضاً أن هذا المؤلف في الحقيقة، يعيد إنتاج بعض من النصوص المكتوبة أو تلك النصوص الشفاهية التي كنا نتبادل أخبارها والمعلومات الصغيرة والكبيرة عنها في مقاهينا وجلساتنا ومنتدياتنا في ستينيات القرن العشرين، عن مأساة جيفارا، وثورة كوبا أو طرائق الكفاح المسلح بين الفلاحين في الأرياف أو بين العمال والطلبة داخل المدن .. إن جمعة اللامي، وبالقدر الذي لا يخدعنا فيه، في انه يكتب قصته او ماساته هو، أو من خلال إعادة كتابة قصة الإمام الحسين او النهاية الدامية للثائر العالمي تشي جيفارا :
(( يميل الرجل الملتحي الى أنصاره الذين ما اهتدوا بوقع خطى جواده بعد ويبدأ بمخاطبتهم :
(( أيها الفرسان الذين تعيشون في ماضيّ، إياكم واللحاق بي، فأنا لا أقدم لكم إلا الموت، عودوا الى زوجاتكم فأنا اذهب الآن الى أدغال بوليفيا ))
هي نفس الطرق الموحلة يا سيدي، وقلبي هزه الشوق إليك . المستقبل أنا، ولكي ادخل بردتك الواسعة دعني أمارس ضعفي القديم، فليل الكوابيس والجدران وشتاءات البرد وعواصف الرمل الخريفية ما تزال تعيش في دمي ))
إننا مهما تحدثنا وأطلنا الحديث عن تجربة الصديق القاص المبدع جمعة اللامي ، لا نستطيع الايفاء لتلك التجربة والتراث القصصي الذي أعطى له جانباً بارزاً ومهماً من حياته الخاصة ، كان جمعة اللامي بيننا ضرورة لا حياد عنها وقد بوأته المرحلة الستينية ، مكانة لائقة ولعل العديد من الزملاء يتذكرون عمق تلك الصداقة بينه وبيني التي تجاوزت الكثير من التصنيفات او النزعات وحرصنا على إدامتها حتى اليوم .
يقف الراوي في ((مجنون زينب)) في مواجهة المجنون الذي جعله المؤلف ينوب عنه في الكشف عن المخفي والمستور، للوصول الى ضفاف الفكرة حيث يشكل المدخل الروائي نوعاً من صدمةٍ للقارئ حيث يفاجأ بشراء قطعة من قماش أبيض لاقتسامها مع زينب ككفنين وليست كجلبابين كما يساور الظن، عقل البائع، نحن إزاء حالة الإعلان عن النهاية التي عودنا عليها أستورياس وماركيز وعدد من روايات أبناء عمومتنا من كتاب أمريكا اللاتينية، على أن تلك المداخل والمفتتحات سمة في قصص ونصوص اللامي منذ مطلع السبيعنات ولنأخذ كتابه الثلاثيات، ففي الثلاثية الأولى : ((كان هذا في يوم من تموز، في إحدى الساعات الثلاث التي تلي انتصاف النهار على وجه التحديد ــ ص6)). إن عبارة على وجه التحديد تعلن بوضوح عن أن ثمة حدثاً حصل وانتهى.
((كأنني وحيد لا أستطيع شيئاً، الثلاثية الثانية ــ ص70 )) من الكتاب نفسه، ((الذي حدث لا يمكن أن أنساه ــ ص102)) المصدر نفسه، أذن لا غرابة في الكشف عن الصادم في المشهد مرة واحدة ومواجهة القارئ بالذي جرى وحصل في ((مجنون زينب)) نحن أمام فكرة تنمو وتتطور عبر الإعلان الصريح عن عذابات تتناثرُ على جانبي الطريق وخلال عملية البوح أنها نوع من الإشادة الأخلاقية بمزج الجزء بالكل، التي تعبر عن فلسفة قوية على حد تعبير أكتافيو باث، حيث نجد زينب تتسم بالعمق والإدراك لعذاب العاشق فالتعادلية التي يعلن عنها الراوي، تعبر عنها لغة المجنون إذ لا يمكن الوقوف على المنطق المثالي الذي يتوقعه القارئ العادي، لا شك أن أفكار المجنون تبدو لنا أكبر مما يطيقه عالم الرواية الحديثة فهو مزيج من بث الشكوى الملتاعة بالوجدان الى السرد المنطقي الذي تسنده جزالة العبارة الى الإعلان عن مرجعية معرفية. ان اختيار المؤلف قناعاً من طراز خاص ونعني به المجنون إنما جاء لإدراكه قدرة المجنون على المغايرة لدخيلتنا العاقلة التي تضع كل شيء ضمن حساب المنطق الأرسطي الذي يطالبنا بالالتزام بقوانين الملحمة التقليدية ودون الانفلات من عقالها القاسي، لذا نجد قدرة الرواية على فرز عدد من الأصوات التي نعرف بعضها ونتعرف على البعض الآخر: الحلاج، الراوي، الضمني والراوي المعلن والمجنون وزينب ويقف رواء هذه الأصوات المؤلف الذي يترك موقعه لرواته غير أن الثقل الأعظم يقع على الراوي المعلن وعلى المجنون، هنا لا بد لنا من الكشف عن جانب من اللعبة الروائية التي تمرس فيها جيل جمعة اللامي حيث سنخ عالمهُ الخاص لأقنعة ودلالات نبشها رواته نيابة عنه دون تخليه عنهم فنحن نستطيع كشف صوت المؤلف لا بل حرارة عذابه ونكهة شكواه عبر تلك الغلالةِ الشفيفة التي يظهر لنا من خلال احتشاد اللغة. المجنون في رواية جمعة اللامي هنا يمتلك وعياً مكشوفاً لكنه لا ينتمي إلى الحشد أو العامة إنه وحيد ولا يستطيع عمل شيء لانقاذ نفسه المسكونة بالماضي الذي يلازمه كما ظله.
إن هذه المعضلة التي لها ألف كوة تطل على الآخرين في حياتهم اليومية السائبة، تبلغ عنفوانها لما ندرك جذوتها واضطرابها في قوله ((… كلهم سيمضون ـــ أصدقائي الرائعون .. ولن يبقى منهم أحد .. جوعى في منافي الأوطان ومنفيون في مدن الرفاهية .. ص44)) الكل سواء والكل داخل الحومة التي لا مهرب منها قط . إن النهاية في مجنون زينب لا تشي لنا بشيء محدد أي لا حل للمعضلة إنما يشركنا الراوي هنا في صنع النهاية، إنها أخلاقية المؤلف الجديد الذي يشرك القارئ في عمله بغية استكمال الروائي كتعبير عن دحض الميوعة التقليدية للروائيين الكلاسيكيين وكتعبير عن روح عصرنا، وكما هو الحال في معظم نصوص جمعة اللامي السابقة لــ (مجنون زينب) إذ يدعنا نقترح الحل الذي نراه مناسباً كأن المؤلف يريد أن يطرق جدران غفلتنا لنكشف عن أبوابها المقترحة .
وإذ كانت ثمة ملاحظة أخيرة لدينا بخصوص مرجعية ((مجنون زينب)) فإن الإشارة ينبغي أن تكون لتعدد المصادر التي يستشفها القارئ، المعني بدراسة الأساطير العراقية القديمة والمتتبع للتراث الشعبي العراقي مع أشارات بينية لأدب المتصوفة العرب ناهيك عن ثقافة المؤلف التي احتوت هذا كله وبثته بتلميح ذكي في ((مجنون زينب)) حيث قدم لقارئه دليلاً معرفياً على مدى علاقتنا بتراثنا، وتلك المرجعية تحتم على قارئ الرواية المختص التعرض لها على إنفراد بمقالٍ آخر .
Ahmedkh03@yahoo.com