إشارة : يضطلع الناقد والباحث والمؤرخ ( خضير فليح الزيدي ) بمشروع خطير في الثقافة العراقية طبع من خلاله بصمته المعرفية الخاصة على جسدها ، ويتمثل في إعادة الحفر في أرض الذاكرة العراقية المميتة ، وفتح صندوقها الأسود بجسارة خصوصا في الجوانب السرانية لتجارب الحروب والحصارات الدامية التي أكلت ربع قرن من حياة هذا الشعب المعذّب ، وستكون لها تأثيرات كارثية لنصف قرن مقبل . إنه باحث ومؤرخ وفق توصيف مشروعه الفريد الذي نترك له شرح حيثياته الحساسة في هذه المقدمة التي كتبها لمخطوطة كتابه ( تاريخ أول لسلة المهملات – إخبار وقص من قصاصات ورقية مهملة في سلة مهملات الحروب ) التي خص بها مشكورا موقع الناقد العراقي ، والذي ندعو الجهات الثقافية الرسمية إلى تبني نشرها .
أنْ أكتشف .. ذلك يعني أني أحفر واردم الأرض بمجرفة من فولاذ الكلام ، هذا تعبير أجوف لا يدل على ما اعنيه تماما مستبدلا إياه بآخر نحو – أن انبش في سلة المهملات عن قصاصات مهملة تركها الجميع خلفهم – ذلك يعني إني كيميائي أصلع و نحيف بنظارة معدنية دائرية صغيرة، تستقر فوق أرنبة الأنف ، اجلس خلف مكتبي القديم .. افرك النقود المعدنية والمقتنيات الصغيرة من لقى ونفائس بيد راجفة .. مكتشفا سر المعدن النفيس ونسغ الروح السرية في عروقه تحت تراب السطح، الكيميائي مصاب بفكرة الاكتشاف.. التنقيب .. الحفر .. الآركيولجيا
للبحث عن مناجم فحم أو آبار نفط أو ألغام أرضية، او آهات‘ هو أسهل من البحث في ركام الوقائع ذلك ما يؤكده الكيميائي الأصلع في معرض دفاعه عن مكتشفاته ..
ان ما تعلمنّاه من درس قاس في مركز تدريب المشاة، يبقى في ذاكرة جمعية لمواليد 1953 لغاية مواليد 1959 – شبه المنقرضين – شعارات مثل التدريب ثم التدريب ثم الموت ، يرادفه في الضفة الأخرى الحفر ثم الحفر ثم اكتشاف نشوة الموت من فكرة الحياة . والغاية مفردة تتحول الى شبح موتي بعدما كانت بذرة فلسفية ضمن قاموس الجند الملتحقين الى الجبهات .. الجند مؤجلوا الموت في سبعة ايام الاجازة ..
في وقت استراحة الجند عند الظهيرة القائضة، وعندما يستسلم الجند لشبه إغفاءة بعد تدريب الوجبة الصباحية، يأتي رئيس عرفاء الوحدة – ديك الوحدة – شبحا مخيفا حاملا تحت لسانه القاذف للرذيلة – أوامر الجهة الفوقية – واضعا كعادته العصا تحت إبطه وفي يده سجل قوائم الجند موشحا بشريط احمر خُطّ عليه ببعض دهان ابيض وبخط رديء – رئيس عرفاء الوحدة – معلنا حفر المواضع البديلة – يقول السيد الآمر – مهولا ما قال وبلغة منفوخة من فرمان آمره.
عندما نكمل الحفر بشق الأنفس، يعود مرة أخرى معلنا إلغاء الأمر – هكذا يقول السيد الآمر – وعلينا ردم كل المواضع البديلة حالا، علينا أن نحفر ونطمر الحفر بخفة وألا نقدم مذنبين من غير (بيريات وانطقة) في حضرة السيد الآمر .. نكتشف في لحظة عابرة إن الحفر أكثر مشقة من الردم .. فكرة عبثية سرعان ما تعطي ثمرا ناضجا يدرّ في جيب السيد الآمر ورئيس العرفاء معا ، إذ إننا ننام متعبين دون قلق وتفكير في الإطاحة برأسيهما . في الحفر نكتشف أن تراب باطن الأرض طازجا رطبا .. والأفكار المستلة أكثر حرارة .
مشهد الاكتشاف يشبه إلى حد بعيد ذلك البدوي المتعطش لقطر الماء الشحيح في صحراء حفر الباطن الى الغرب من قضاء بصيّة ، يسير خلف بعير هو الآخر عطش أيضا، ترى من فيهما يقود الآخر نحو فكرة الارتواء ؟ الروي فكرة وليس عملا غريزيا ميكانيكيا .. سيأتي مستلا من تجميع كومة من قصاصات ممزقة في سلة مهملات بعملية حرفية تترقب فك الخط ولون الحبر ولحظات الانفعال، لتنتج لنا نسيجا مرويا مرتبكا في انفعاله .. البعير الراغي أم البدوي الملثم الكتوم لحزنه، لاسيما إن فكرة البحث المجردة داخل رأس البعير والبدوي واحدة ودائما ما كانت تقودهما إلى تيه اجرد من الماء رغم ثرثرة البعير وقتامة فكرة الصمت في رأس البدوي، فالبعير يستكشف قطر الماء والأرض الرطبة المنقوعة تحت اضلافه تتماسك كلما اقترب من بركة الاكتشاف، البدوي انفه نادرا ما يخطئ في الاستدلال نحو جهة الغمام الماطر .. وعند اصطدامهما في بركة الماء مصادفة تتكور بؤرة الاكتشاف الأولى ليكرعا معا من فكرة الاكتشاف.. هنا يحدث التحول الجاد نحو فكرة الارتواء فكرة الاكتشاف، وفي النتيجة تكون لذة الاكتشاف أقوى من إطفاء الظمأ في أحشائهما معا .. نشوة نادرة تؤدي حتما الى لب هوس الفكرة وهي بركة الماء ، أما الأقوى من بين كل الأفكار التي وردت على لسان البعير في لحظة الارتواء ذاتها هو لملمة قصاصات مبعثرة لفكرة واحدة، وهي حتما في النهاية ستحيلنا إلى لحظة أخرى نكتشف فيها بؤرة المكتشف أو النص الجديد .. فالبحث عن لب الفكرة المكتشفة تقود حتما إلى حلقات موصلة تؤدي إلى بؤرة تتكور على محيطها مجموعة المكتشفات الصغيرة مثل مويجات الحجر الملقى في البركة الساكنة،الأفكار ملقاة كما يقول الجاحظ على قارعة الطريق.. ويقول البعير هي غالبا ما يعثر عليها على قارعة الرصيف حافية القدمين منزوية في سلة مهملات أو في برميل قمامة أو محرقة الطمر الصحي أو في أضابير الجيش المتناثرة في صحراء الزبير بعد هيكلة الأفواج .. ما من سيل إلا لقوة الأفكار الجارفة .
أنبش التراب مقلبا زوايا المأساة ومودعا غرفة ( الكاتبزنزانته ) مسجلا ما أُهمل عمدا أو مسكوتا عنه أو مقموعا لسبب ما ، ولكني ربما اصطدم مصادفة بحفرة تهوي برأسي دون تحقق الغاية التي اعتقدها جوهرة اكتشاف لم تمسها يد عابثة أو عين فضولة ..
غواية العلماء لذرة عالقة في مختبرات العلم، هي لعبة يحق فيها للعالم نسف ضحيته ساعة الإفراغ من تجربته، ففي النص المكتشف مشابهة غريبة للعبة العالم المكتشف، إذ إن فكرة المدونة/ القصاصة سرعان ما تتحول هدفا للإجهاز عليها من منتجها بعدما اعتنى بها ردحا من الزمن مقلما أظافرها ومروضا لنار ثورتها .. إنها الآن مجرد دمية مهلهلة يضجرها الأطفال حين تتفتق عن متاهات موجعة، غالبا ما يكون المكتشف اقل شأنا من فكرة الإنشاء الأولى .
هل أصبح النص دمية خرقاء ؟ يعبث بها كيميائي النصوص كيفما اتفق – إنها فكرة حسنة- فالمكتشف دمية تلد من رحم النص بعضا من دربة فكرية ضمن حبائل اللغة لاستدراج تفاحته المعلقة نحو ارض النص الوعرة .. دهشة العين المكتشفة لمقتبسات الواقعة وانتزاعها قسرا من سلة كاتب التاريخ ، وإعادة الصياغة الفكرية للمحتوى المعطّل لها دون المساس بالخطوط الصفر التي تؤطر المناطق الخطرة .. بين سلة الأدب وسلة التاريختلد سلة اخرى هي سلة المهملات ..
في شتاء ما بعد ( الفردوس ) .. تقلّصت مساحة الطوابير لفترة وجيزة ، وبمناسبة الحديث عن الطوابير ، أرى إننا مخلصون لنظام الطابور، بل إن حياتنا هي عبارة عن طابور طويل في انتظار ما يتبعها أو ما خفي منها ، ثقافة الطابور – ثقافة ما قبل الفردوس وما بعده – ننتظم ..ننحشر ..نندس .. نتلاصق .. ننبعج ..نلتحم .. ليس حسب الطول أو الوزن بل وفق الحضور المبكر في مسار الطوابير ، حتى إن مؤسساتنا العتيدة في الطوابير سجلت أرقاما مهولة في الإنفاق على اسيجة الأنابيب التي تنظم حشر العدد الكلي ضمن آلية الحشد الخلاق، بين عبث النظام و[وسوبر فوضى ] العالم الجديد مسافة رمشة عين أو اقل من ذلك في فلسفة الحشر الحياتي اليومي . الطوابير الطويلة هي سمة ملاصقة لمجتمعاتنا الحديثة، من أيام طوابير البيض والحليب النيدو وسكائر السومر حتى طوابير الدخول إلى المعسكرات في حملة الحروب وتؤمها المواليد مسحوبة العظم، إنها تقودني مثل عيني بورخس متحسسا المكتشف برأس عصا القيادة ومجساتها المركونة في رف من رفوف الدماغ . إن أولى الطوابير المكتشفة تدل وفق بيانات منظمة الأمن الغذائي، خرجت للعلن بعد أول حرب بشرية في التاريخ لتأمين الغذاء للناجين من الكوارث، وذلك يؤشر حتما إلى إن فلسفة الطابور هي تنظيم لفوضى (سوبر) خلاقة قد قننها القائمين على مخازن الغذاء .
اخبرني احد المنتظرين في طابور ما، انه سيبيع كل مقتنياته الثقافية ليشتري بندقية كلاشنكوف نصف أخمص روسية الصنع ، لتحل بديلا فاعلا لأيام أكثر محنة داخل الطابور .. سيبيع تاريخ الأسى المدفون تحت لسانه العذب في سوق الخردة و سيهدي للنهر / للقمامة / للتنور / لبائع الكرزات أغلى ما اختزنته ذاكرته .. وعيه المتحسس لمشاكل عصره، أحلام العصافير ،رئته التي صبغها بأسود قار السجائر، سيشتري نصف أخمص يفضلها روسية الصنع وبجعبة عتاد تحتوي على عتاد مذنب .. سيبيع ديوان المتنبي بجزأيه لجامعه عبد الرحمن البرقوقي ولسان العرب ومعجم البلدان للحموي مجلدا مذهبا طبعة بيروت ومجموعة روايات دوستوفسكي ترجمة الدروبي وقصة الحضارة قبل أن تتصادم مع بعضها .. ليشتري بأثمانها ما يناسب المرحلة الجديدة ، مرحلة ما بعد الفردوس ، تحتاج إلى الكلاشنكوف أكثر من ديوان المتنبي والحموي ولسان العرب ، مرحلة التباس وتخالط الأفكار ونزاع وصخب ، فالبندقية هي المعادل الأكثر حسما للكثيرين من سُُلِقوا في الطوابير .
تفاحة نيوتن :
بينما كانَ يأخذُ قيلولته تحت ظل شجرةِ التفاحِ الوارفة.. سقطت تفاحة ما قريبا من رأس إسحاق
نيوتن، حينها فقط أدرك مكتشفه لقانون الجاذبية ، بعد سيل من الأسئلة الفلسفية التي ضربت
في رأسه، تبدأ من السؤال الملتبس مَنْ جذبَ مَنْ ؟التفاحة الأرض أم الأرض التفاحة ؟
أعاد السيد نيوتن دراسة نظرية غاليلو غاليلي في السقوط الحر والمقيد.. أدرك نيوتن تماما أن
الأرض تجذب الأجسام إليها،ولكن الشيء الغريب الذي لاحظه نيوتن انه ليست الأرض فقط هي
التي تجذب التفاحة وإنما أيضا التفاحة لها قوة الجذب ذاته إذا ما توفرت لها ظروف معينة ،
مثلا عندما تنتفخ التفاحة وتصبح بحجم الأرض ففي تلك الحالة ستدور الأرض حول التفاحة إذا ما تضخمت بملايين المرات .. تدور الأرض بفلك التفاحة بل وتنجذب إليها عند الضرورة
العلمية.
بناءا على تلك المخيلة السردية للخيال العلمي والتفكير المنطقي في البحث عن حرية مطلقة
للموجودات الكونية وضع العالم نيوتن قانونه الشهير في الجاذبية الأرضية حين قال :
“كل جسمين ماديين يتجاذبان بقوة تتناسب طرديا مع حاصل ضرب كتلتيهما وعكسيا مع مربع
المسافة بين مركزيهما”
حوّل نيوتن الأسئلة الفلسفية والعين المندهشة والعقل الذي لا يستسلم إلى المسلمات على
طريقة هايدكر إلى قوانين جديدة ستحكم الأرض .. فبفضله دنّس رواد الفضاء ارض القمر وهم يسبحون دون جذب أو مدارات، إن أكثر الأشخاص الذين يدركون المعنى الدقيق للحرية مع عظمة قوانين نيوتن هم رواد الفضاء حين ينعمون بحرية الحركة السابحة سواء في المركبة الفضائية أو على سطح القمر.. وعندها فقط يصبح الشعراء أكثر الساخطين على نيوتن
وقوانينه بدلا من مديح قمرهم المزدحم برواد الفضاء لان الجاذبية أصبحت قيدا كبيرا على
حرية الشعراء..
الآن سقطت التفاحة من الشجرة إلى الأرض وانتهى كل شيء .. التفاحة القضية التي بسقوطها
يكتشف العالم الجليل إسحاق نيوتن ضخامة القوانين التي ستترتب على ذلك السقوط المقيد،
يكتشف إن الجاذبية سلسلة حديدية ضخمة لشد قرني الكون ومطرقة لقمع حرية الأفراد ..إن
السيد نيوتن يكتشف ويقوده الاكتشاف إلى نظرية تفسر الحقائق الجديدة، أما نحن فسنأكل
بشراهة بالغة تفاحة الجاذبية منجذبين بذلك لغوايتها، كذلك كان العالم ارخميدس مكتشفا
لقانون الإزاحة عبرَ مشاهدة متفحصة للخشبة الطافية في بحيرته ، أيضا كذلك مجموعة
الرحالة من كولومبس إلى ابن بطوطة فهم يمضغون طعم الاكتشاف بعين مندهشة للوهلة الأولى للجزر الناتئة من البحار ومن ثم يغيّرون مسارات خرائطهم وفق العالم الجديد المكتشف توا ..
والاكتشاف هو غير الاختراع في الحتمية الجدلية .. فالمحصلة العلمية تقول إن الاكتشاف هو
إزاحة الستار عن بواطن الموجودات الحياتية بعين مندهشة تختبر المسلمات وتخلخل إيقونات
اليقينيات .. ذلك يحيلنا إلى مرحلة مهمة من أدب الاكتشاف ، بموازاة أدب الرحلات الذي
يكتشف جغرافية الأرض الجديدة ، علينا أن نضع المبضع في المكان المناسب لنكتشف ،
فواحدة من حداثة الأدب في مرحلته الجديدة هو الاكتشاف ليدخل بوابة العلوم الإنسانية
ويتحول المخيال السردي إلى مجموعة بحوث لها من المعطيات ما يؤهلها لتسلق مضمار أدب
العلم .. هنا علينا أن نتفحص المخيلة السردية في أفلام الخيال العلمي التي تنبأت بالانفتاح
العلمي على علم الكواكب السيارة وحروب الفضاء،إذ نجدها مدعاة للتفحص الجديد ضمن
مخيلة الكشف الأدبي الفاعل قبل أن تكون نبوءة الأدباء.. وعلى مر التاريخ كان يأخذ العلم من
الأدب لغته وحقوله لصياغة النظريات كلاما وجداول ومدونات تخدم المسار العلمي ، فيما
الأدب يدخل مؤخرا الحقول العلمية من دي سوسير إلى يومنا هذا .. في عملية تداخل تدعم
الحقول العلمية والأدبية معا .. إن العالِمَ في مختبره يحاول أن يكتشف العلاج الناجع لأمراض
العصر، ومهندس الجيولوجيا يكتشف مصادفة بئر النفط بصورة عرضية، والرحالة يرى
المحيطات من عدسة المرقاب بعين مندهشة ،عامل منجم الفحم يجد نفقا جديدا للفحم الحجري
لم تكتشفه خرائط المهندسين ، ومصور الفلم الوثائقي يحصل على مصادفة تقود إلى ذروة
خطرة جماليا، ستكون أفضل من السيناريو المكتوب .. أما الدليل البدوي فأنه يعثر على طريق
سالك بدون هدى النجوم سيكون مختصرا ومؤديا للطريق العام إلى الأرض السالكة، والطبيب
يكتشف بجراحة الليزر إن ثمة مقص لطبيب آخر في بطن المريض.. أن الأفعال ( يرى ويعثر
ويجد ويحصل ) أفعالٌ تولد من رحم الاكتشاف.. ذلك يعني انك تحفر بآلية جديدة ستؤدي حتما
إلى المنجز المكتشف سواء في حقلي الأدب أو العلم .. الاكتشاف غواية العلماء لذرة عالقة في
مختبرات العلم ، لكن الاكتشاف في النص الأدبي بعضا من دربة فكرية تعنى بالبحث الجمالي
والمباحث المنتجة ومتخلصا من حبائل اللغة التي تأكل كثيرا من جرف النص وفكره وبنيته
الفنية التراتبية، لاستدراجه نحو الطعم الخاص لتفاحة نيوتن لا لإشكالية السقوط ومعانيه من
أعلى الشجرة ..
المكتشفُ الأدبيُ هو رسالةُ أدبية تأخذ من أجناسٍ سرديةٍ كثيرةٍ، فمن القصةِ اختزالُها وتكثيف
لحضتها، ومن الرواية تعدد أصواتها ومتخيلها السردي ورسم شخوصها المتعددة ومن الشعر
تأويل لغة القصيدة ومن الصحافة انفتاحها على المروي اليومي ومن مراكز البحوث
والدراسات استطلاعاتها واستبياناتها ومن المدارس النقدية حداثة الرؤى ومعطياتها الفكرية
المنتجة ..
عندما تصبح مهمة السرد الحديث مهمة تشبه الضربة الاستباقية في مفهوم الحرب الحديثة ،
فتجنح الرواية العالمية نحو المعلوماتية وتعزيز المتن الحكائي بالوثائق والخرائط والتضمين
القاموسي ، لهذا السبب وأسباب أخرى تتواصل الرواية العالمية في تربعها على المربع الذهبي في عصر السرد . أما المكتشف الأدبي فيختزن ذلك كله ويطرحه ضمن سياقات سردية تحفر الأفكار وتنحت لغة وليدة مختلفة مأخوذة من المألوف اليومي وغير ملوثه بهجينيته ومشبعة بلغة اليقينيات وغير متصوفة ..
في فن المكتشفات الأدبية هناك أكثر من آلية جديدة بعيدة عن أنماط التجريب المفتعلة.. هي
توصيفات آركيولجية لم تتمثل مسبقا في السرد العراقي .. ثمة عالم وعالم خلفي .. ثمة وجوه
وبواطن متخفية ثمة متن وهامش يتربع على القمة ثمة سطح وقفا المرآة العاكسة لأصل
الصورة ثمة أصل للصورة ومنعكس عنها يرسم خريطة للحقيقة النسبية ثمة دال ومدلول يؤدي إلى نهاية النفق بسلام ثمة تفاحة شهية وسقوط يتحول إلى قضية كبرى.. وهنا التساؤل الأكثر إلحاحا ، من سيتقصى الطريق المظلم للبواطن والقفا والعوالم الخلفية ؟ مَنْ سيكتب عن الجند في عراكهم المستعر من الولادة حتى المشيب.. عن مقرات تجانيدهم التي تنظم طوابير الموت المؤجل وأوراق الكنى البيضاء الدساتير الشخصية لصنوف الأفراد، إذ تنظم لهم أيام التسريح ودفاتر الخدمة الموشومة بأسرار الغياب.. عن الهاربين القلقين في نومهم في حلم العذاب الأسر وهم يحلمون في سرقة سجلات التجانيد ..عن النمط القاتل في رسائل الأسرى والجند معا الرسائل المتشابهة في الديباجة والختام ..عن الجنرالات الكبيرة وهي تُجبر على الإحالة على التقاعد.. عن المومسات المترهلات العاطلات عن العمل أو المحالات على المعاش.. عن الكراجات الخاكية الكبيرة وفنون الدراما على أرصفتها أيام اشتداد الحروب.. عن الحمامات العتيقة قبل أن تنقرض وتذهب أبخرتها الندية السحرية.. عن مراكز التدريب عن مراكز تسليم الشهداء.. عن جثث مرمية على الأرصفة..عن اتساع المقابر واضمحلال المقاهي عن الطب العدلي ومستشفيات البتر الأوتوماتيكية ؟ كل تلك الأسئلة تستفز من يعمل على طريقة البدوي الدليل وهو يكتشف الأرض الجديدة المؤدية إلى منظومة معرفية تؤدي إلى آفاق نصوص لم تُجنس بعد .. الم يكن الأدب الحديث تنضيدا لأسئلة يومية ملحة ؟
لذلك كله لم تعد الأجناس السردية بمواصفاتها التقليدية تحتمل دراما الشارع العراقي المعاصر
خصوصا بعد أحداث ساحة الفردوس الشهيرة وتحولات الفرد بكل ما اختزنه من تقلبات
ومفاجآت يومية ، هذا الشارع يحوّل الكاتب السردي إلى راهب في دير يستمع إلى اعترافات
وخطايا كل الأجيال التي مرّت عليه ليسجلها ضمن مذكراته الأدبية.. هنا علينا أن نسجل ملاحظة دقيقة في تحولات السرد المعاصر تكمن في العمل على بث منظومة بحثية معرفية تأخذ من ساحل العلم ما يدعم توجهاتها، والابتعاد عن خارطة السرد القديمة في كل الإسقاطات العامة ومنها ما اُسقط على التاريخ السياسي أو الاجتماعي أو الموروثات الحكائية أو مقارباتها أو الأساطير وتضميناتها، وهو يهضم كل معطيات المدارس الحديثة، أصبح لزاما عليه البحث عن أسلوبية تشتغل في منطقة جديدة صادمة للقارئ بكل أصنافه وامتداداته ومثيرا لدهشة ما في نبض الشارع الثقافي .. عن صياغة كيميائية مكتشفة في مختبره تقوده نحو التفرد في صياغة ذلك الوجع المدمن للشخصية العراقية التي بدت ملغزة أحيانا أو مسطحة في حقب مختلفة .. الم تعطف الحروب العالمية المسار الأدبي باتجاه حداثة ما أو ما بعدها ؟
هكذا فقد أبدع الاستاذ خضير فيما قرأت له من منجزات مشروعه المتفرد ، حيث المهمل والمنسي والمسكوت عنه ، يسوق الهامش فيقدمه ليضيء به المتن المعتم ، وأجاد كعادته مبدعا بقراءاته الناقد القدير الدكتور حسين سرمك ، تحياتي لهما ولكل جاد مجتهد ومتجدد بوعي ونقاء ..
شكرا للأخ المبدع جابر خليفة جابر على لطفه وتقييمه