توفيق الشيخ حسن: مات ناجي العلي لكن حنظله لا يزال حيا..

كلنا يعرف ناجي العلي .. الموت قد شل ّ نضاله وأفناه غير انه ظل منتصرا ً والى الأبد ..مات ولم يعرف من هذا العالم إلا الغربة والمنفى .. كانت رسوماته الكاريكاتيرية أكثر إشراقا ً وإشعاعا ً وحيوية .. وبدت حية لشبهها الكبير ومطابقتها مع الأصل .. وبتقادم الزمن تطورت رسوماته بشكل دراسات سيكولوجية جادة , حيث بلغ في بعض منها عمقا ً .. رسم للزمن أطفالا بحجم أشجار الزيتون وعيونا للأحبة .. كان الظمأ يرسم ملامح وجهه .. وجهه الصافي كالماء .. وكانت له عذاباته وحبه للوطن ..

أنه رائد واقعي بتبصره العميق في النفس الإنسانية …

كتب ناجي العلي …
( أسمي ناجي العلي .. ولدت حيث ولد المسيح , بين طبرية والناصرة .. في قرية الشجرة بالجليل الشمالي , أخرجوني من هناك بعد 10 سنوات في 1948 إلى مخيم عين الحلوة في لبنان .. أذكر هذه السنوات العشر أكثر مما أذكره من بقية عمري .. أعرف العشب والحجر والظل والنور , لا تزال ثابتة في محجر العين كأنها حفرت حفرا ً .. لم يخرجها كل ما رأيته بعد ذلك .. أرسم .. لا أكتب أحجبة , لا أحرق البخور , ولكنني أرسم , ولذا قيل إن ريشتي مبضع جرّاح , أكون حققت ما حلمت طويلا بتحقيقه .. كما إنني لست مهرجا ً , ولست شاعر قبيلة ـ أي قبيلة ـ إنني أطرد عن قلبي مهمة لا تلبث دائما ً أن تعود .. ثقيلة .. ولكنها تكفي لتمنحني مبررا ً لأن أحيا .. متهم بالانحياز , وهي تهمة لا انفيها .. أنا لست محايدا ً , أنا منحاز لمن هم تحت .. الذين يرزحون تحت نير الأكاذيب وأطنان التضليلات وصخور القهر والنهب وأحجار السجون والمعتقلات , أنا منحاز لمن ينامون في مصر بين قبور الموتى , ولمن يخرجون من حواري الخرطوم ليمزقوا بأيديهم سلاسلهم , ولمن يقضون لياليهم في لبنان شحذا للسلاح الذي سيستخرجون به شمس الصباح القادم من مخبئها .. ولمن يقرأون كتاب الوطن في المخيمات .. وظللت أرسم على جدران المخيم ما بقي عالقا بذاكرتي عن الوطن , وما كنت أراه محبوسا في العيون , ثم انتقلت رسوماتي إلى جدران سجون ثكنات الجيش اللبناني , حيث كنت أقضي في ضيافتها فترات دورية إجبارية .. ثم إلى الأوراق .. إلى أن جاء غسان كنفاني ذات يوم إلى المخيم وشاهد رسوما ً لي , فأخذها ونشرها في مجلة ” الحرية ” وجاء أصدقائي بعد ذلك حاملين نسخا ً من ” الحرية ” وفيها رسوماتي .. شجعني هذا كثيرا)

ناجي العلي كان أكبر من الموت وأستطاع أن يمسح دموع كل اليتامى والمساكين وأستطاع أن يضئ الظلام ويسير بأحزانه خلف الموج والتيار .. ترك ناجي العلي 40 ألف رسم كاريكاتيري المعبـّر عن المعاناة الصادقة وطفله الصغير ” حنظله ” .. ولد طفله الصغير ” حنظله ” في الكويت عام 1969 عندما كان ناجي العلي يعمل في جريدة السياسة الكويتية .. ولم يطلب به ناجي الشهرة أو التميز عن باقي الفنانين بقدر ما طلب من حنظله نفسه أن يكون ضميره اليقظ وقلبه النابض .. وكتب الشاعر والروائي الفلسطيني ” محمد الأسعد ” في مجلة الآداب البيروتية ” ناجي العلي سحر الكرامة ”

( أنه يظل دائما أمام خيار لا حياد فيه , كما هو الخيار بين الكرامة الشخصية والأمتهان , وكما هو الخيار بين الحياة والموت , لا مساومة ولا وسط في هذه الثنائية المضادة , فمنذ أن تثبّت الطفل الصغير , البطل الحقيقي للدراما في قفص الوحوش لم يعد هناك توسط , هكذا نفهم كيف أن ال ” فوق ” وال ” تحت ” ليسا مفهومين مجردين لفائدة معجمية , وإنما هما تجسيد لرفض التعلق في الهواء , وهكذا نفهم أن لغة السياسة التي يفهمها ناجي هي غير اللغة الشائعة , أنه يرتفع دائما بهذا القول الحكيم ..

” أنتم ملح ُ الأرض فإذا فسـد َ الملح ُ فبماذا يُملح ّ ” .. .

مات ناجي العلي برصاصة لندن في 22 يوليو عام 1987 ليدخل بعدها في غيبوبة طويلة إلى أن فارق الحياة في 29 آب .. مات ناجي العلي لكن حنظله لا يزال حيا ً …

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. زهير ياسين شليبه : الروائية المغربية زكية خيرهم تناقش في “نهاية سري الخطير” موضوعاتِ العذرية والشرف وختان الإناث.

رواية الكاتبة المغربية زكية خيرهم “نهاية سري الخطير”، مهمة جدا لكونها مكرسة لقضايا المرأة الشرقية، …

| نصير عواد : الاغنية “السبعينيّة” سيدة الشجن العراقيّ.

في تلك السبعينات انتشرت أغان شجن نديّة حاملة قيم ثقافيّة واجتماعيّة كانت ماثلة بالعراق. أغان …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *