البيت الملعون :
—————-
وهذا هو الشكل الحقيقي لـ ” البيت الملعون ” .. تحل اللعنة على أي بيت يهجره أحباؤه .. البيت المتروك أرملة منبوذة .. والرحم ليس رحما إذا جفّ وعقم وخوى .. وفي حركة تمنٍ ورجاء يصوغها الشاعر بالطريقة الأسطورية القديمة التي كانت الآلهة تُنزل لعناتها على فرد خطّاء نُبذ من سماء رحمتها . لتذهب ملعونا .. لتحل عليك .. لن تذوق .. لتمّحي .. إلخ :
( يا
ريت م َ يدوقا حدا طعمة البيت
ال ْ ما إلو زاير
ولا ساكن
ولا أصحاب
وممحي
وممحي
من عيون الطير
من دقّ المسا
ولفحة صفير الريح
وطلوع
العُشب
والعاصفي
وفتحة إيدين الناطرين
ورجعة الغيّاب ْ – ص 113 ) . ومن المحزن أن يكون الضحية الأولى لهذه اللعنة ؛ لعنة الغياب والهجران والنفي ، هو ” المدخل ” .. الأمومة المغدورة التي لا تعثر على من يواسيها ، فتكتفي بدموعها السخينة :
( ونِزلو
دموعو
وما لِقي مين الّـل يمسح
دمعتو
هـَ الباب ْ – ص 115 ) .
وفي إطار الموقف الملتهب في التعامل مع موضوعة ” الموت ” ، لا يمكن للناقد إلا أن يتوقف عند قصيدة ” الموتى ” . هي ” كتاب موتى ” جديد .. شعري .. يتستر بأغطية الإذعان للموت .. والشاعر فيه يستدعي سكان العالم الأسفل إلى العالم الأعلى ، لكن ليس على طريقة ” الزومبي ” . هنا لا تحقق هذه المناورة الشعرية فعلها كطريق دفاعي نفسي يحاول ، وإن عبثا ، تخفيف حدة مضار وقع مطارق قلق الموت . هذا التخفّف والنزوع الهروبي يحصل عن سبيل آخر أكثر غرابة :
( بروح ْ
نامْ
وباخُد الموتى معي
لا موت فيهُن ْ
لا قبر
طِلعو مِن ترابُو
ولا بذكُر ْ إلن جِنّاز
أو دفن
وعزا
بعدن ْ مِتل م َ عرِفتهن وقت
اللي كانو
طيّبين – قصيدة ” الموتى ” ، ص 190 و191 ) .
وإذن لم يحصل أي تغيير تفسّخي على أجساد هؤلاء الذين ماتوا لكنهم لم يموتوا .. وهذا يحيلنا إلى المرحلة الأولى والثانية من مراحل الكيفية التي ينمو بها الإدراك الطفلي تجاه موضوعة الموت والغياب كما عرضناها سابقا . عاد الموتى كغائبين في رحلة محدودة ولم يصبهم أي شيء سلبي .. حتى أن أرواحهم لم يأخذها أخّاذ الأرواح – ملك الموت :
( بعدُن ْ
ولا واحد منن ْ ميّت . ولا واحد
مننْ راح وم َ رح ْ يرجع ْ
الموتى م َ بيموتو
بيضلّن
عايشينْ
ونحنا البيوت ْ
الّـل فيها ساكنين ْ – ص 191 ) .
وحتى مع هذه الإشارة الأخيرة التي يحوّل فيها الشاعر ” موتاه ” من حضور مادي إلى ذكرى بيّتها وجدانه ، فإنها إشارة تعبّر عن ترقيق دفاعات الشاعر الإنكارية .. هي خطوة صغيرة حييّة انسربت لتكشف جانبا من وجه مخاوف الرحيل النهائي ، وشيئا من الإقرار الذي يجب أن نقدّم فروضه ، وسوف تتناوب هذه الإشارة مع موجات الإنكار وصورها :
( ووحدُن ْ م َ بيفلّو
كانو
مسافرين ْ
لبعِيد
لكن راجعين
ألله
هـَ الموتى
ش ُ هنّي ْ دافيين
وطيّبين
ومتلنا بيبكو ، وبييبن ْ لإشيا راحت
وكانو يحبّوها
حنين ْ – ص 192 ) .
صحيح أن صفة ” هؤلاء ” الآن التي تحدد هويتهم الوجودية هي ” الموتى ” التي لم يجد لها الشاعر بديلا ، لكنهم مثلنا في دفء مشاعرهم وطيبة أحاسيسهم ، وفي انجراح عواطفهم على الأشياء المفقودة التي كانوا يحبونها . إنه يجلس معهم .. يحادثهم .. كأنهم مازالوا أحياء .. هم مسافرون عادوا .. لكن إشارات الإذعان الكاشفة كما قلت تتناوب مع الحركات ” الإحيائية ” بين بيت وآخر من أبيات القصيدة . فهو إذ يعلن بارتياح أنه جالس يحكي مع ” أمواته ” الأحياء ، يقول إنه يحلم بأمنية مستحيلة هي أنهم لو كانوا باقين لكان ذلك أروع . وإذ يفصح عن تصوّر أخّاذ يرسم فيه صورة لموتاه وكأنهم أولاد هاربون ، يعود ليؤكد حقيقة منذعرة ، هي أنهم هاربون في الحقيقة من موتهم الذي يطاردهم بلا هوادة :
( بقعدْ معن ْ
بحكي معن ْ
بحلم :
يا ريتن ْ باقيين ْ
عمرهُن ْ
لو كانْ شي ميّة سني ، بتحسّ
إنو ولاد ْ فلّو
شو زغير ْ
هـَ العمر ْ !
وقلال ْ
هِنّي هـ َ السنين !
ومثل ال ْ كأنّو لاحقن ْ موتن ْ
وهِنّي
هربانين ْ – ص 193 ) .
ثم تأتي موجة ” إحيائية ” أكثر قوة وصخبا وإحساساً بالحياة . فهؤلاء الموتى قد استعادوا وظائفهم الحيوية ولم يعودوا مجرد ذكريات مختزنة نستعيدها ونخلص في الولاء لها . إنهم يتحدثون ويأكلون . والشاعر يتعامل مع أمواته العائدين ، أو الذين ماتوا ولم يموتوا ، بروح ” أمومية ” حانية . فهو يتفقد أحوالهم وهم نائمون .. يتأكد من أنهم قد تغطّوا بصورة جيدة ، ويشعل لهم نيران الموقد كي ينالوا الدفء الكافي :
( مرّات ،
بسمع صوتهن ْ
مرّات ،
بعزمهن لعندي ع َ العشا
مرّات
بتفقد ْ بأيام الشتي التخت ْ
اللي فوقو
غافيين ْ
انكانو مليح
مغطيين
بفتحلهن ْ بابي بأيام التّلج ْ
وبصير ولّع ْ نار تا إدفى أنا ومبسوط
إنّن
دافيين ْ – ص 194 ) .
ولكن معاناته الأساسية هي عدم وفاء الأحياء الآخرين لأمواته / أمواتهم ، فلا أحد يسأله عن أحوالهم وعن صحتهم . هو يتوقع أنه مادام لم يقرّ برحيلهم النهائي فإن على الجميع أن يتصرف وفق هذه الحقيقة ، ولكن يبدو أن الآخرين قد استسلموا لحقيقة الغياب الدامغة التي لا تنفع معها أي محاولة احتجاج التفافية ، وأي مناورة لاستدعاء أمواتهم من قبورهم . ولا حتى الولاء المستديم للراحلين :
( ما في حدا ، مرّه ، يسألني عنُن
عن صحّتن
ما في حدا بيقول :
سلملي ْ عليُن
مع إنهُن بعد بحياتي
موجودين
أكثر من الناس الّل
بعدن ْ
عايشين
ما في ولا مرّه معُن ْ فكّرت
إنّن بالسما ، أو بالقبر .
أو
من حياتي
فالّين – ص 195 ) .
إنهم ؛ الآخرين ، ليسوا بشعراء ، وهذا يوفّر عليهم عناء هائلا . إنهم يتعاملون مع الموت بـ ” عقلانية ” باردة لكنها جمعية ، الموتى يذهبون والأحياء باقون وعليهم أن يواصلوا حياتهم ، ولا يعطّلوها بالإهتمام بمن لا رجاء من عودته أبدا . ترى ما الذي سيقوله الآخرون ” المعقلنون ” حين يسمعون الشاعر وهو يؤكد أنه شاهد أحبته الموتى وهم جالسون يشربون القهوة في المقهى ، أو يسيرون بحرية في الطرقات مساء ؟! :
( وياما
بشوفن قاعدين
فوق
الكراسي
بيشربو قهوي ْ
وع َ هـ َ الطرقات ، أول هـ َ المسا
كيفُن لوحدن ْ
ماشيين ْ
وعا
عصي ْ
متل ْ الكأنّن ْ
سنديان
معكّزين – ص 196 ) .
لكن هنا تتجلى عظمة الشعر في معالجة انجراحاتنا الوجودية .. نحن كائنات هشّة خلاف ما نظهر من تماسك وانتفاخ .. الإنسان ، وهذه حقيقة وجودية لا يمكن هزّ أركانها ، الإنسان حيوان يموت ويعلم أنه سيموت . وكما يقول ( بوسويه ) فإن اهتمام الناس بدفن أفكارهم عن الموت قد لا يقل شأنا عن اهتمامهم بدفن موتاهم . الشاعر فقط هو الذي لا يدفن أفكاره عن الموت ، وإن دفنها فإنه ” يكفنها ” بأردية مبهرة تغيّب الإنتباهة الشعورية الراكدة والجبانة . وهو في هذه المحاولة الجسور مُساق بقوة قاهرة تحفزها مشاعره المُسقطة ، مشاعر الشوق والعيون الغائمة بالدمع العطوف :
( وياما
على
بابي
بيدقّو
وبفتحو
وبشوفهن ْ
قدّيش ْ
هنّي
مشتاقين ْ
وبِتحِسّ
إنّو
غيم ْ بعيونُن
كِتر
م َ مدمّعين
وبغمرن ْ
وزنودهن
عم يرجفو
ودموعهن
ع َ دراج ْ
تجعيدة
خدودن
نازلين ْ
ولا بسين ْ
جفون البكي
هنّي
و ع َ قلبي ْ
رايحين – ص 197 و198 ) .
وحتى الختام يبقى الشاعر في محاولة مستميتة للتعامل مع موتاه وكأنهم مازالوا في بيته .. يتركهم ويذهب إلى عمله ثم يعود ويناديهم ، وعندما لا يردّون لا تمر على ذهنه ، ولبرهة واحدة ، الحقيقة الصخرية المتعلّقة بالفناء المُحتّم ، ولكن تستولي على مداركه ، وبقوة ، تفصيلات ” السيناريو ” الإستعادي الشعري الذي وضعه ، والذي يجد لزاما عليه أن يمضي فيه حتى النهاية ، فيفترض أن موتاه عندما لا يردون عليه حينما يناديهم عند عودته إلى البيت ، هم نائمين وليسوا ميتين … والموت نوم طويل ، والنوم موت قصير :
( مرّات
بنساهُن ْ ، ي َ بتركهن ْ ببيتي ، بفلّ
حتى أشتغل ْ
برجع ع َ بيتي
بندهُن ْ
ما في حدا منهن بيردّ
بقول :
بعدُن هون ْ
منّن غايبين ْ
بسّ
يمكن نايمين – ص 199 ) .
د. حسين سرمك حسن : جوزف حرب : (8) البيت الملعون
تعليقات الفيسبوك