“حين تضيّعنا الأوطان وتضيع منا، ولا يلمّنا شتات المنافي، يتبقى لنا الحب، ينير دواخلنا حين يُعتم الخارج، ويدفئ أرواحنا حين تجمّدها شتاءات الغربة والترحال. وفي البدء كان الحب، ثم كانت الكلمة!”
بهذه الكلمات اختتمت الدكتورة حياة جاسم محمد، موضوعا نشرته بمناسبة الذكرى الثانية لرحيل زوجها الدكتور زكي الجابر، الذي غادر دنيانا في التاسع والعشرين من شهر كانون الثاني “يناير” عام 2012، ونشرت ضمنه باقة من قصائد كثيرة له أطلق عليها عنوان “عراقيات”، وخص مدينته البصرة بالعديد منها، وغنّى في عمومها لـ “العراق كلّه من جباله وغاباته شمالاً حتى شطه واهواره جنوباً، وامتزج بتأريخه وتراثه الشعبي”.
لقد قرأت موضوع الدكتورة حياة، في الوقت الذي كنت أفكر فيه بالكتابة عن الذكرى الثانية لرحيل الدكتور الجابر، فوجدت أن خير ما يمكن أن أبدأ به كتابتي، هو ما اختتمت به تقديمها لما اختارته من مقاطع مكثفة عميقة التعبير والتأثير من قصائده “عراقيات”…. التي مازلنا نتمنى أن تقوم بنشرها وزارة الثقافة في العراق ضمن مشروع لنشر اعماله الكاملة المنشورة وغير المنشورة.
وإذا كانت الدكتورة حياة هي خير من يمكن أن يتحدث عن الفقيد، أجد من المناسب أن أعود إلى بعض ما ذكرته في موضوعها، حيث أكدت أن الراحل الكبير كان قد ” تنازعه علم التواصل الجماهيري والشعر، دون أن يفلح أحدهما في الاستئثار به، فظل حتى نهاية حياته موزعاً بينهما. مارس التواصل الجماهيري تدريساً وبحثاً وإدارة، ولكن لم يقوَ ذلك كله على طمس وهج الشعر في قلبه، فخلّف بعد رحيله شعراً كثيراً، لا سيّما في أعوام المنفى الأمريكي في أقصى جنوبه، وقد نشرَ بعض هذا الشعر في حياته، ولمّا يُنشر بعضه الآخر”.
كما تؤكد ان زكي “رأى الشعر فيض عاطفة، يتدفق عفوياً دون بحثٍ عن رمز متكلّف وأسطورة مفروضة، ودون اللجوء إلى تعقيد متعمّد، إلا ما اقتضاه النصّ والتجربة. وهذا التوجه في الشعر قديم قدم الشعر نفسه، عربياً وعالمياً، منذ جرير الذي يغرف من بحر مقابل الفرزدق الذي ينحت من صخر، ومنذ ووردزورث مقابل كولردج، وغيرهم”.
وتواصل الدكتور حياة حديثها قائلة: ” وكما توزّع زكي بين الإعلامي والشاعر توزّع شعره بين الهم العام، هم الوطن، وتجربته العاطفية. حمل زكي معه العراق عبر المنافي المتعددة، وغنّى فيه الوطن الممكن بكل إشراقاته وتجلياته، وبكى فيه الوطن الكائن بكل انهزاماته وخيباته.
وقبل أن تختتم التقديم تقول: ” وكما لم يستأثر الإعلام به دون الشعر، لم يستأثر به شعر الوطن دون شعر الحب، حب المرأة. ليست المرأة في شعره جسداً يُشتهى لا غير، ولا هي رمز لوطن مفقود أو موجود فحسب، وإنما هي كيان متكامل الأبعاد، جسداً وروحاً وفكراً، تُقصد لذاتها ولِما هي، بل هي في علاقة جدلية مع الرجل، تغتني بها تجربة الحب وتكتمل. وستُنشر بعض هذه القصائد تحت عنوان “قصائد للحب”.
وأنا أنتهي من قراءة كلمات الدكتورة حياة، أجد نفسي مع حلول الذكرى الثانية لرحيل زكي الجابر، أتحرق بمرارة قاسية وأنا أتذكر كيف ان هذا الإنسان المتألق والمتميز إعلاميا وأكاديميا وشعريا، لم يلق الاهتمام الذي يستحقه من قبل الجهات الرسمية، أو المنظمات الأدبية، أو النقاد والباحثين الأفراد، سواء في حياته أو بعد رحيله. وهكذا أجد نفسي إزاء ما أشعر به من حزن عميق، مضطرا إلى استعادة ما نشرته في ذكرى رحيله الأولى، والذي تضمن مقترحات مازال الواجب يحتم العمل على تحقيقها، وعسى أن يكون في التذكير منفعة أو إيقاظا او فائدة ..!
لقد اماتوا الشاعر عندما كان حيا، وتناسوا إنصافه ومنحه ما يستحق عندما غادرنا إلى العالم الآخر . ففي أوائل عام 2001 وصلني عدد من جريدة عراقية كانت تصدر في لندن، وهو يحمل خبرا عن رحيل “أستاذ الإعلام العراقي والشاعر الكبير الدكتور زكي محمد الجابر عن عمر ناهز التاسعة والستين أثر مرض عضال”.
هزني الخبر بعنف، وغمرني بأسى عميق، وسرعان ما وجدت نفسي اتصل برقم هاتفه لأتأكد من الخبر وأعزي زوجته الدكتورة حياة جاسم محمد و ابنهما محمد، اللذين كانا يقيمان معه في إحدى ضواحي مدينة دالاس بولاية تكساس. ولكن ما فاجأني وأفرحني في آن، هو ان من رد على مكالمتي كان زكي الجابر نفسه، و بعد أن سلمت عليه بصوت اظن انه لم يكن خاليا من بعض الاستغراب، بادرني – وهو يضحك مازحا – بالقول : يبدو انك قد سمعت بخبر وفاتي ..!
ولكن الشاعر الجابر فارق الحياة بالفعل، بعد مرور أحد عشر عاما، على موته الأول “المزعوم”، و مما يؤسف له أسفا ممضا بحق هو أن راحلنا الكبير لم يلق بعد “الموتين”، الاهتمام الذي يستحقه شاعرا رائدا جميلا، وباحثا وأكاديميا مرموقا.
لقد كان الشاعر الجابر الذي ولد في البصرة عام 1931 من الشعراء العراقيين الرواد، وقد ربطته علاقات صداقة وزمالة مع بدر شاكر السياب، ومحمود البريكان، وسعدي يوسف، و هناك قصيدة جميلة ضمن المجموعة الكاملة لسعدي اشترك في كتابتها زكي الجابر خلال الخمسينات. كما انه كان أكاديميا وإعلاميا مرموقا، وقد رأس قسم الإعلام بكلية الآداب في جامعة بغداد، وتولى منصب إدارة الإعلام في المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم بتونس. كما درّس الإعلام في جامعة الملك سعود في الرياض، والمعهد العالي للصحافة في الرباط، وحاضر في العديد من الدول العربية. وكان الفقيد قد أبعد من مناصبه بسبب معارضته لنظام صدام في العراق.
ومن هنا فان خبرا مثل خبر رحيله كان يجب أن يترك صداه، ولكن يبدو أن رغبته الشخصية بالابتعاد عن الأضواء، وتمسكه بالاستقلالية السياسية خارج تأثير هذا الحزب أو ذاك، وعدم ارتباطه بشلة ثقافية أو إعلامية ما، من الأمور التي غمطت حقه كثيرا، حتى ليبدو وكأنه أصبح شاعرا مجهولا أو مغمورا بالنسبة لكثيرين…!
ولكن لا بد من الإشارة هنا إلى أن جريدة “الرياض” السعودية، كانت قد نشرت في عددها الصادر بتاريخ 9/12/2010 أي بعد رحيله المزعوم بتسع سنوات، وقبل رحيله الحقيقي بما يقارب الأربعة عشر شهرا، موضوعا بعنوان “لا تنسوا من ترك أثراً بكم!!” كتبته الأديبة والإعلامية السعودية شريفة الشملان، التي كانت قد تتلمذت عليه في قسم الصحافة بجامعة بغداد، أواخر ستينيات القرن المنصرم
تروي الشملان في بداية موضوعها، كيف أنها لا تدري أي شيء ذهب بيدها لمؤشر البحث “غوغول”، لتكتب اسم د. زكي الجابر أستاذ الإعلام السابق، فتفجع عندما تقرأ خبرا قديما بعض الشيء نشر عن رحيله. وفي غمرة حزنها تكتب قائلة: لقد كان شاعرا وإنسانا بمعنى الكلمة، وهو عندما درس طلبته علوم الإعلام، علّمهم فيما علّمهم كيف تكون للمناقشة والحوار والبحث طرق للوصول إلى الحقيقة وللوصول إلى الوضوح ..
ونحن نتحدث عن رحيله “المزعوم”، تقفز إلى الذاكرة أبيات من قصيدة كتبها بعد أن سمع بخبر وفاته وهو لا يزال حيا قال فيها:
يقولون مات في غربته
بعيدا عن الأهل والنخل
عن بصرته
وقبل أوان الرحيل تساءل في وحشته
من الحي فينا
وفي سجنه الانفرادي مات العراق
ولم يبكه احد وهل يعرف الميتون البكاء !
ولعله من المؤلم حقا، ان الرحيل الفعلي للجابر، في التاسع والعشرين من شهر كانون الثاني عام 2012، قد قوبل أيضا بالعقوق والإجحاف. ونحن إذ لا نغفل ان الدكتور مليح صالح شكر الذي كان أحد تلاميذه قد نشر رثاء له في اليوم السادس من رحيله، وان حفلين تأبينيين قد أقيما له بمناسبة أربعينيته في كل من كلية الإعلام بجامعة بغداد، وجمعية الرافدين العراقية في المغرب، نجد أن وزارة الثقافة العراقية والاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق، قد مر خبر رحيل الجابر بهما وكأن شيئاً لم يكن، كما أن مهرجان المربد الذي كان هو أحد رواده، والذي يقام في مدينته البصرة، قد انعقدت دورتان له بعد رحيل الشاعر الجابر دون أن يرد أي ذكر له فيهما.
ونحن بهذه المناسبة نتمنى على الوزارة والاتحاد أن ينسقا بينهما لإحياء ذكرى الشاعر زكي الجابر، والعمل على نشر قصائده التي لم تصدر في ديوان بعد، مع مجموعتيه “الوقوف في المحطات التي فارقها القطار” الصادرة عام 1972، و “أعرف البصرة في ثوب المطر” الصادرة عام 1987، في إصدار يضم أعماله الشعرية الكاملة. كما نتمنى على اللجنة العليا لمهرجان المربد أن تخصص حيزا من برنامج دورته المقبلة لإحياء ذكراه
وإذا كان الشاعر قد وضع اسم مدينته البصرة في عنوان مجموعته الشعرية الثانية، فان ولهه وعشقه لهذه المدينة كان يفيض بعذوبة وصفاء، في قصائده، وفي كتاباته، وفي أحاديثه خلال لقاءاتنا الثنائية أو مع أصدقاء آخرين، في المغرب اواخر ثمانينيات القرن المنصرم. وقد شاءت الظروف ان انتقل أنا الى العيش في استراليا، ويغادر هو إلى أمريكا بعد إحالته على التقاعد في العام 1998، ولكننا بقينا نتراسل حتى وفاته، وبقي اسم البصرة يتردد كثيرا في رسائله وقصائده. ولكن ما يشجيني كثيرا، هو انني فقدت ما بعث به إلي من رسائل وقصائد بخطه، نتيجة تعرض محل سكني إلى فيضان فقدت بسببه الكثير من المطبوعات والأوراق التي كنت أعتز بها، إلا انني ولحسن الحظ عثرت في إحدى حقائبي على قصيدتين سليمتين بخط يده، حملت الأولى عنوان “وداعا .. أيها البصرة” وجاءت الثانية بعنوان “إيه ذات الخمار”، ورسالة واحدة فقط بست صفحات كتبها بتاريخ 5 شباط “فبراير” عام 2005، أي قبل رحيله بسبع سنوات، وقد حملها الكثير من همومه ومشاغله وتطلعاته، وبعض نفثات الهم العراقي الذي كان يحمله معه أينما رحل، وكان مما ذكره لي فيها” .. هذه هي الرسالة الثانية اكتبها إليك.. أما الأولى فقد مزقتها لأنها حافلة بالأسى .. أسى على هبوط الصحة، وأسى بدافع الإحباط، وأسى من تفاعل الثورة والثورة المضادة داخل النفس. ماذا سنخلّف وراءنا غير نثار من هشيم الورق .. وغير قبض الريح!”. ولكن الشاعر الراحل ترك وراءه الكثير مما يدفع إلى الاعتزاز، ومن ذلك ابداعه الجميل وعطاؤه البحثي الإعلامي المتميز، وقبل ذلك وبعده ذكره الطيب، ومواقفه النبيلة التي عرف بها.
وقد اتجه الشاعر خلال سنواته الأخير إلى كتابة قصيدة الومضة المركزة، فكتب مجموعة غير قليلة منها، اختار لها عنوانا عاما هو “عراقيات”. وبعض هذه القصائد يتألف من شطر أو ثلاثة أشطر، ومنها قصيدة له بعنوان: لم يحمله الوطن
فحمله ..
وسار !!
وجاء نص قصيدة أخرى مشابهة بعنوان “شتات” كالتالي:
لم يجمع شملنا الوطن
فكيف تلم شملنا المنافي ..؟!
وهكذا جاءت معظم قصائده الأخيرة مكتوية بحزن عميق، ومتشربة بمشاعر الإحباط والخيبة. ومع حنينه الدائم لمدينته البصرة التي مات بعيدا عنها بعد فراق عقود، نجده يقول في قصيدة بعنوان “نجمة الصبح”:
في البصرة
لن يصدقوك حين تقول النجوم بعيدة
فنجمة الصبح تنساب تحت غطائك
لتلتفّ بك
خشية لسعة البرد
وإذا كان الحديث عن الشاعر الراحل يطول ويطول، لا أجد ما أختتم به هذا الموضوع غير تجديد الدعوة إلى أن تكرّم الدورة المقبلة لمهرجان المربد الشعري شاعرنا الراحل، وأن تبادر وزارة الثقافة إلى جمع القصائد التي تركها وإصدارها مع مجموعتيه الصادرتين عامي 1972 و 1987 كأعمال شعرية كاملة.
خالد الحلي
ملبورن
*عن صحيفة المثقف