(لم تكن بدرية خاتون مُخترقةً حُجب الغيب لتعلم أن قدمي خادمتها “كتيتي” اللتين قادتاها دون دراية منها بالمنعطف المؤدي إلى درب “الصابونجية” للوصول لمحلة “الفضل” سوف يكون المكان الذي تُعرف به والذي سوف تعيش بأحد بيوته المدعوة “بيوت الگزلية” ، وأنها سوف تنام تحت إحدى كلله الحمر من على سطح دار “ريمة حكاك” التي سوف تصبح قوّادتها دون منازع بعد أن تركها “كرجي” أمانة في أحد بيوت الگزلية لحين تدبّر أمره)
(موسيقى ورقص أفريقي وأصوات تنبعث من حيطان الإيوان ترجع إلى زمن سحيق . وشيئا فشيئا تتحول حديقة الدار إلى غابة رطبة وتتحول النخلة إلى شجرة موز ، ورجال يُصطادون بمفخّخات حديدية ، ويُباعون في البصرة . أصوات وجلبة ؛ زعيق رجل ينفرد من هذا الزعيق ؛ صوت محمد بن علي من جنوب البصرة . إنها الثورة على العبودية ، يظهر فيها مرجان بهيأة رجل أنهكه العمل بتجفيف المستنقعات وإزالة الأسباخ من الأراضي . نقل الملح إلى حيث يُعرض ويُباع لقاء وجبة طعام يثخن الجراح ويزيدها ألماً . مرجان ثائر بيده معول مع بقية المُعدمين . إذن هو من شيعة قائد ثورة الزنج . بعدها رأتهُ مستسلماً مع بقية الزنوج القادمين من زنجبار وموت العديد منهم)
نيران العبيدي
رواية (منعطف الصابونچية)
تمهيد وتقريض :
—————عندما أكملتُ رواية “منعطف الصابونجية” (1) للكاتبة “نيران العبيدي” ، كان الشعور الأول المُضاف إلى الإحساس بالمتعة والدهشة ، هو الأسف ، وبزوغ “لو” كبيرة في ذهني . “لو” أن الكاتبة كانت تمتلك “النفس” الروائي الطويل ، والتجارب المتراكمة – قراءة وممارسة – والخبرة المتعمّقة في أسرار هذا الفن الخطير : الرواية ، ألم يكن بإمكانها أن تقدّم للقارىء العراقي والعربي – وحتى العالمي بعد الترجمة المقتدرة – تحفة روائية تؤسّس معماراً فريداً لرواية عراقية تبزّ أرقى النتاجات الروائية بأية لغة أخرى ؟ً! . لكن ما يخفّف الأسف هو أنّ محاولة الكاتبة الروائية هذه هي الأولى بعد مجموعة قصصية واحدة أصدرتها في عام 2013 ، وأنّ محاولتها البِكر هذه جاءت جميلة ، ممتعة ، متفرّدة ، عراقية بل بغدادية الوجه والفم واللسان ، بحيث يمكنها أن تقول وبلا تردّد من الآن فصاعداً : أنا الكاتبة نيران العبيدي .. صاحبة رواية “منعطف الصابونچية” . ولن تقلل ملاحظاتي السلبية اللاحقة من تفرّد الرواية أبداً . وسيرى القاريء أن إيجابياته أكبر من سلبياتها . ولكن هذا هو النقد .. وهذا هو شغل الناقد .. وإلّأ ما الذي سيفعله ؟ أضف إلى ذلك حقيقةً صارت مبتذلة عن أن النقص من صفات العقل البشري المكينة . ولأزيد الكاتبة و القارىء اطمئناناً أقول إن نتاج نيران الروائي الأول هذا جاء وفق المثل الذكوري – لكن الطبيعي – الذي يقول إن الديك الفصيح من البيضة يصيح .
ولكن يبقى الجواب على سؤال الـ “لو” الذي افتتحتُ به هذه الدراسة هو : نعم . كان بإمكانها . لكن العامل الرئيسي – بالإضافة إلى عوامل أخرى مهمة – يتمثل في القاعدة الذهبية التي أكدتُ عليها مراراً ، وهي أن (القصة القصيرة فن .. والرواية علم) . ويمكن للقارىء الكريم أن ينطلق من هذه القاعدة لينسج خيوط العوامل الأخرى .
# كاتبة تُدركُ اشتراطات (التخييل التاريخي) :
——————————————
في كلمة التعريف بروايتها على الغلاف الأخير تعبّر نيران العبيدي – على المستوى النظري – عن نظرة ثاقبة إلى اشتراطات جنس روايتها المتفرّد والذي يدخل ضمن حقل الرواية التاريخية المعتمدة على (التخيّل التاريخي- Historical Imagination) كأواليّة حديثة تشاد بها بنيانات الرواية التاريخية وذلك حين تخاطب القارىء قائلة :
(لا يخفى على القارىء الكريم ، أن أيّ عمل إبداعي فيه خلقٌ وإبداع وإعادة خلق ، ولا يوجد عمل إبداعي بدون سند اجتماعي وموروث شعبي وتاريخي . لقد اعتمدتُ في هذه الرواية على كثير من المعلومات القيّمة المستقاة من كتاب أمين المميز “بغداد كما عرفتها” ، كذلك اعتمدتُ على الحوادث التاريخية التي اوردها المؤرخ العراقي عباس العزاوي في كتاب “العراق بين احتلالين” وصغتها بأسلوب أدبي روائي ، لكن العمل الأدبي لا يُعد وثيقة تاريخية بأي حال من الأحوال ، وإن اقترب من الواقع لكنه يبقى محلّقاً في آفاق رحبة يمتزج فيها الخيال بالواقع) .
وتشاء الصدف أن ابدأ بقراءة الرواية بعد أن أكملتُ دراسة طويلة عن مصطلح (التخيّل التاريخي) الذي لم يحل محل الرواية التاريخية كما قد يخطىء البعض ، ولكنه صار أواليتها الأساسية في بنائها وفي تعاملها مع حقائق التاريخ التي تريد استعادتها وتوظيفها بتحويلها من ماضٍ وقائعي صامت بعيد إلى حاضر سردي تجاربيّ قريبٍ وحيّ . إنها الكيفية التي يصبح فيها التاريخ سرداً والسردُ تاريخاً حسب وصف “بول ريكور” ، وهو أبرز الباحثين في هذا المجال بعد الفيلسوف والمؤرخ البريطاني “روبن كولنغوود” الذي ابتكر مصطلح (التخيل التاريخي) ، والفيلسوف والناقد والشاعر الأمريكي “هايدن وايت” الذي نقل هذا المصطلح إلى حقل نقد الفن الروائي والذي مازال حيّاً . وقد استفادت نيران من مصادر ومراجع تاريخية معروفة ، لكنها لم تقدّم لنا تاريخا محكيّاً أبداً ، بل قدّمت تخيّلاً روائياً تلوب في أحشائه حوادث التاريخ مجسّدة من خلال سير شخصياتها الذاتية ، وشبكة علاقات تلك الشخصيات ، وما جرى على أرض الحاضنة الإجتماعية (بغداد) التي ترعرعوا في أحضانها من وقائع أثّرت في مسارات حيواتهم ، وأصابتها باللعنة ، وقلبتها حتى الخراب . أي أن (الحُبكة) هي التي تتكفّل – على يدي الروائي المقتدر طبعاً – بتقديم هذا (التركيب) – إذا استعرنا مفاهيم الجدل الهيغلي – العجيب والمدهش من الواقع والخيال . الحبكة هي التي تتكفّل بتقديم (تاريخ) جديد مستعاد يجري أمام أعيننا ، لكنه ليس التاريخ الذي قرأناه وقدّمه لنا المؤرخ .
وقد أدركت نيران هذا الشرط الحاسم واشتغلت عليه ببراعة منذ لحظة استهلال حكايتها هذه ، استهلال صادم في سطره الأخير ، ترسمه أنامل القدر أو المصادفة ، وهي في حقيقتها قوى اللاشعور الماكرة المتجبّرة . يقول الراوي – والرواية تُحكى في بدايتها بضمير الغائب الذي يتيح حرّية أكبر للمؤلّف في ملاحقة سلوك شخصياته – واصفاً تلك الحركة التي تأتي أشبه بالنبوءة الرهيبة التي سوف تتحكّم بحياة (البطلة) كما كان يجري في الأساطير الأغريقية ولدى سيّدة الحكايات ألف ليلة وليلة أو الحكايات الخرافية كسيف بن ذي يزن وغيرها :
(لم تكن بدرية خاتون مُخترقةً حُجب الغيب لتعلم أن قدمي خادمتها “كتيتي” اللتين قادتاها دون دراية منها بالمنعطف المؤدي إلى درب “الصابونجية” للوصول لمحلة “الفضل” سوف يكون المكان الذي تُعرف به والذي سوف تعيش بأحد بيوته المدعوة “بيوت الگزلية” ، وأنها سوف تنام تحت إحدى كلله الحمر من على سطح دار “ريمة حكاك” التي سوف تصبح قوّادتها دون منازع بعد أن تركها “كرجي” أمانة في أحد بيوت الگزلية لحين تدبّر أمره – ص 5) .
وبين نقطتين : المستوى الاجتماعي الرفيع لبدرية عند مبتدأ الحكاية / النبوءة ، والمصير المروّع الذي سوف ينتظرها كمومس ، تتلاعب مخالب “القدر” الذي تُرسم خطوطه – بخلاف ما يتوقعه الكثيرون – من “الداخل” لا من “الخارج” ، ستمتد خيوط الحكاية السوداء .. خيوط حياة بدرية المدمّرة .
الرواية مرآة المجتمع :
———————-
ويستطيع الكاتب – بل من أولى واجباته – أن يستثمر كل فرصة حدثية ليقدّم حزمة من الوقائع والأحوال والسمات . ففي الأسطر الست اللاحقة نتعرّف ، وبوضوح ، على طبيعة المستوى الإجتماعي لعائلة بدرية مترافقاً مع سمة مهمة من سمات المكان . فبمجرّد الإشارة إلى الخادمة السوداء “كتيتي” نفهم أنّ بدرية تنتمي إلى عائلة جيّدة الحال . والأم ؛ أم بدرية ، هي سيّدة الدار الواقعة في “محلة الغالبية” توصي الخادمة، بأن تحافظ البنات الثلاث على خمرهن ، وأن لا تدع أحدا يتحرّش بهن ، فأخوهنّ الزعيم يونس ابن الحاج مصطاف يهز محلة الفضل حين يضرب قدماً بالأرض . وسبب خروج البنات هو أن يفرج الله عنهن ليتزوجن ويدفع عنهن شرّ العنوسة ، خصوصا بدرية الكبرى التي نافت على الثلاثين ، فحال الفتاتين الأخريين : صبيحة الوسطى، ومديحة الصغرى (في الخامسة عشرة من عمرها) ، أهون من الأولى بما لا يُقاس .
و(ابن ملّا جواد الفيلي) هذا – وهذه من الملامح الفولكلورية الجميلة عن الحياة البغدادية آنذاك التي كانت الروائية تقدمها في صورة “جرعات” محسوبة ممتزجة بحركة الشخصيات وكانسيابات تلقائية في مسار حركة الحياة – كانت له “عيادة” هي :
(عبارة عن صندوق خشبي مقلوب يتوسط الشارع المؤدّي الى سوق الصفافير والنسوة مكتضات حوله وهو يكتب لهن الحجب بشفائهن من الصداع ، أو ورقة يبللها وتشربها لفك الچبسة ، أو بازبند يحمل بداخله ضلع هدهد كي تلجم به لسان عمتها ، أو سحرا اسود يُدفن في المقبرة يفرّق حبيبها عن معشوقته ، أو دعاءً من اجل وصال زوج فرّ وراء احد الدلقية وتركها هي وأولادها تهيم بذكر طاريّه – ص 6) .
وتلاحظ هذا المزج العفوي بين الفصحى والعامية الذي يركّب لك لغة خطاب جديدة تناسب المرحلة المستهدفة بالوصف ، وتتوازى مع المستويات الثقافية والخلفيات الاجتماعية للشخصيات . وكنت أتمنى أن يستمر هذا الإستخدام حتى في أقوال وحوارات الشخصيات ، فكتيتي لا تستطيع جمع الزقاق على “أزقة” ، وتقدر على استخدام مفردة (دربونه ودرابين) على سبيل المثال ، كما أن بدرية لا تستطيع الهتاف ، وعاهرات المنزول/ المبغى ، يضربنها وأخواتها بالقباقيب الخشبية واليمنيات : هلمّي .. خاله (ص 12) .
حتى القوّاد لديه قيّم وغيرة :
—————————
لم ينقذ النسوة المُحاصرات من قبل العاهرات المستأسدات لتحقيق ثأرهن من المهانة والإنذلال والشرف المضيّع في صورة الهجوم العاصف على رمز للتحصّن الإجتماعي ممثّلاً بالبنات المحجبات الإرستقراطيات إلا موقف من “قبضاي” طلب من تابعه الصبي “داود” أن يستأجر عربة يوصل بها العائلة إلى محلة “الفضل” ، ولا ينبس ببنت شفة . لاحظ حرص هذا “الحثالة” في تلك المنطقة الفاسدة على قَيم هذه العائلة وشرفها . وبسبب من حالة الكآبة الوطنية التي يعيشها الشعب العراقي في الوقت الحاضر ، نلاحظ في السنوات الأخيرة “نكوصا” في السلوك يتمثل في العودة إلى “أيام عرس” شعب ضاقت نفسه من كل شيء ، وأغثى روحه “المحرّرون” و”الفاتحون” حتى من الحياة . أقول نلاحظ عودة لاستعادة لمحات من سلوكيات القطاعات الرثّة من المجتمع العراقي في الأربعينات والخمسينات وحتى الستينات ، تعكس تمسّك الشقاة والقبضايات والسرسرية والحرامية والأدبسزّية بقيم معينة لا يتعدّونها مهما كان السبب ومهما كانت المغريات على الإطلاق . ويحدث هذا في المواقع الإلكترونية والصحف والمجلات والفضائيات وذكريات الناس ، والأهم بالنسبة لنا أن يحصل هذا في حقل الإبداع ، وتحديداً في الجنس الإبداعي الذي يعبّر عن وجدان الشعب ويشكل مرآة صافية لحياته الإجتماعية وهو الرواية . خذ مثلاً من رواية الروائي “محمود سعيد” (حافة التيه) وهي الجزء الأول من (ثلاثية شيكاغو) :
(تذكّر كيف انتفض أحد اللصوص الذين التقاهم في سجن الحلة، سنة 1963 حينما ساقوا معظم المثقفين الشباب إلى السجون، انتفض عندما أشار أحدهم إلى لصّ آخر:
-زميلك
-زميلي! لا ، حقير ، كلب
-لماذا ؟ كلاكما محكوم بالتهمة نفسها
صرخ بكل قوته:
-لا، أنا “حرامي”، نعم، لا أنكر، لكنني شريف
-عفواً لم أقصد إهانتك، لكن لماذا تحتقره؟
-بدل أن يسرق حاول أن يعتدي على شرف ربّة الدار، أخذت تصرخ. قُبض عليه. هذه نذالة.
علم آنئذ أن لكل فئة مهما انحطت مُثُلها العليا الخاصّة بها، حتى اللصوص لهم قوانين شرف جعلوها رائدهم في مهنتهم! – ص 82 و83) (2) .
ما أستطيع قوله ، كتداعيات ، وأنا أقرأ هذه الرواية ، إن بعض السياسيين أسوأ من المومسات ، وإن ومن الإجحاف والتجنّي مقارنتهم بهن . فالمومس – وكما خبرنا ذلك – تمنحك لذة مقابل أجر .. وهي تستحق رثاءك دائما والتعاطف معها .. والبعض من الزبائن يقع معها في مصيدة “عقدة الإنقاذ” (3)، فيُخرجها من هذه الحياة الفاسدة ويتزوجها ، أو يرتبط بها وتُخلص له حتى الموت بالرغم من غدر الظروف – بل غدره هو شخصيا – وضغوط المجتمع .. وقسم منهن قمن بأدوار وطنية في مساعدة الثوار وإخفائهم ونقل المعلومات والمنشورات ، وهي صورة “المومس الفاضلة” كما رسمها سارتر مثلا . لكن بعض السياسيين يسلبك ثرواتك .. ويحطم مستقبلك ومستقبل وطنك وأولادك .. ومن السهل عليه أن يقتلك .. بل أن يفتك بشعوب كاملة بلا رحمة كما نلاحظ في شتى أرجاء المعمورة .
حين يحب الكاتب بطله :
———————–
وحين يلتحم الكاتب بنصّه ، ويحب شخوصه ، وخصوصا بطله الأثير ، يتلبّسه وينفعل بمشاعره ، وتتكسّر بعض قواعد الفن السردي الصارمة على يدي قوى اللاشعور المتعاطفة الخلّاقة . تنسرب في بعض اللحظات التي ترتخي فيها سلطة الشعور بدرجة كبيرة – وسلطة الشعور إذا لم ترتخ قيودها لا يتحقق الإبداع الأصيل – أوصافٌ وجمل وأفكار كانت مُحتبسة في وجدان الكاتب .. تنفلت قبل أوانها تحديدا تحت حثّ الإحساس “بالقدرة الكلّية – Omnipotence” التي هي من أعظم عطايا الإبداع ، وقد تكون واحدة من العوامل التي جعلت الآلهة تحذّر من الشعراء الغاوين . فحين استأجر الصبي “داود” عربانة / عربة لنسوة بيت حجي مصطاف لكي يفلتن من الفضيحة قرب المبغى ، قال الراوي ومن خلفه الكاتبة طبعاً :
(انطلقت العربانة التي يجرها حصانان بعد أن زُوّدت بفانوسين وضعا على جانبي المقعد الخلفي لتبديد ظلمة الطريق ، وصوت سياط الحوذي ينطلق نحو المجهول – ص 13) .
إن هذا السوط هو – وبهذا التلغيز الوصفي المتناشز مع محلّه وسياقاته المكانية والزمانية – هو سوط الأقدار المتجبّرة التي رسمها لاشعور الكاتبة لتحديد مصائر بدرية وأفراد عائلتها قاطبة بل حتى لخادمتها كتيتي وخادمها مرجان كما سنرى . والمصائر الكبرى هذه – وببعدها الرمزي الذي يجب أن لا ننساه أبداً والذي سوف نتناوله قريباً – تتكثف في “المنعطف” الخطير الذي سيواجه العائلة ، متجمّعاً في شخص هو خلاصة النبوءات المتجبّرة والإنكسارات القاهرة ، وهي : بدرية . فبدرية سواء أفي سيرتها المحطمة المباشرة أم في علاقاتها بالشخصيات الأخرى : قاهرة أو مقهورة (في الواقع كلّها ضحايا لعجلة زمان هادر ساحق لا يرحم كما سنرى) ، هي التي تُستجمع عندها خيوط التمثيل الرمزي (التخييلي السردي) ، والحقيقي (الإجتماعي) . إنّ محنة بدرية المركزية هي القهر ..
رواية حتى الجلّاد فيها ضحيّة :
——————————
والقهر المرير الإجتماعي والنفسي الذي مارستها عليها سلطة ذكورية متجبّرة في عائلة يتمسك أربابها الرجال – خصوصاً الأب مصطاف والعم ابراهيم باشا والإبن الأكبر يونس باشا – عبثاً بأذيال أمجاد غاربة تلفظ أنفاسها سريعاً وتسير حثيثاً نحو مقبرة اسمها الماضي القريب ، معبّراً عنه بانحطاط وانحلال السيطرة العثمانية ومعها الواقع الإقتصادي والاجتماعي والطبقي المتهالك ، وما أسّسته هذه التشكيلات من قيم أخلاقية وأنماط سلوكية ، وباقتحام القوة الإستعمارية العسكرية وما يتبعها من تغييرات اقتصادية وتعليمية وسياسية وتمزّقات اجتماعية ممثلة باحتضار طبقات قديمة وصعود طبقات جديدة ، وما يترتب على ذلك من تمظهرات سلوكية وقيم أخلاقية مغايرة سوف تكتسح المجتمع وتطوّح بثوابته .
حرمان بدرية هو خلاصةٌ وبؤرةٌ تمثيلية للحرمان العام على كافة المستويات ، والذي اختارت الكاتبة – وبدراية – تلخيصه في الحرمان الجنسي أولا ثم الإجتماعي ثانياً . ويبدو لي أن الإحتلال والفتح العسكري – مهما كانت أغطيته ودوافعه – ينطوي رمزيا ونفسيا على قدر من “الإغتصاب” وقدر من “التفريج” ممتزجين بغرابة ، ويتطلّب – وهذا هو الأهم – تحرير الإرادة الجنسية المُعتقلة بدرجة أو أخرى لدى الشعب المقهور ، وخلق حوافز تحرّك الكامن والمكبوت في نفوس الأفراد وخصوصا فيما يتعلق بالرغبات الجنسية المقموعة ، وما يرتبط بها من هواجس حارقة حول السيطرة على الجسد والتحكّم بحاجاته التي تحفّزها نماذج للتمرّد والإنفلات يجلبها الغازي “المتفتح” والأكثر تطوّراً . وليس عبثاً أنّ البغاء – وهو يتضمن في عمقه جانبا مقدّسا سوف تطرق عليه الكاتبة في قسم (فصل) وهي تستهله بأناشيد عشتار – ينتعش في ظل القوّات الغازية ، مثلما تتفجّر حاجات السكان لتفريغ القهر عبر الغريزة الجنسية (لاحظ التكاثر السكاني لدى الشعوب المقهورة) .
لقد عطّلت السلطة الذكورية القامعة في بيت الحاج مصطاف (البيت الوحيد أبو النخلة) النمو الطبيعي لحيوات وأجساد البنات الثلاث ، وفي مقدّمتهن بدرية التي جاوزت الثلاثين من العمر – كما ومازالت عذراء ، وها هي تشكو لخادمتها كتيتي ضياع عمرها وضغوط جسدها وحاجاته المشتعلة العطشى الباحثة عن الإرواء والإطفاء :
(خاله لو هذا الحچي ينحچي چان حچيته . ألسنا بشراً ؟ ألا نشعر بالرغبة في رجل يضع يده ويلمس جسدنا . مو گضه العمر بالآه والونّه – ص 14) .
ويتضاعف ثقل القمع الخانق حين يُحرّم على الضحيّة حتى الإفصاح عن آلامها وإحباطاتها عبر الكلام الذي لو سمعه الذكر المتسلّط فسيكون جزاؤه الموت . حتى الكلام صار محرّماً بل مساويا للموت . وكتيتي تواصل تحذيرها بدرية من أن تسمعها الحيطان المتحالفة مع أبيها وأخيها يونس . لكن بدرية ، وهي كأنثى تحسب عمرها بالدورات العشتارية ، طفح كيلها وجعلها اكتئابها المزمن مهيّئة لاقتراف أي سلوك مهما كانت طبيعته الإنتحارية على مستوى النتائج الإجتماعية :
(أووف خاله . بدأت أكرههم وأكره طريقة العيش معهم . أتمنى أن أكون خادمة في بيت الأغوات فقط يكون لي زوج وأولاد يملون حضني .. يريدون بغدادي . قولي لي من أين نأتي بهم ؟ كل الخطّابه من تيل تاوه (ديالى) يعني معربانيه . وإذا خطب واحد بغدادي قالوا ليس من ثوبنا . خاله والله لو أكو واحد يقبل الهزيمة كان هربتْ معه ، وخلصتْ من هاي العيشه – ص 14) .
وما يشعل خيبات بدرية ، ويزيد من وتائر خوفها وقلقها من المستقبل ، ويجعلها تستعجل أي حلّ حتى لو كان فراراً يحطّم سمعة العائلة ، هو أنها تشاهد – كل لحظة – صورة مستقبلها الكسيرة الذاوية المتهالكة التي عبرت حافة “بعد فوات الأوان” ممثلة في صورة عمّتها : العمّة ستة ، التي تلاعب أخوتها : مصطاف وابراهيم بمقدرات حياتها ، وضيّعوا عليها أي فرصة للإرتباط المشروع برجل ، مثلما حرموها من إمكانية الإستقلال الإقتصادي – وهو حاسم في تقرير حرّية المرأة في مجتمعاتنا وفتح الآفاق أمام انعتاق إرادتها واستقلالية قرارها – وذلك حين حرموها من ميراث أبيها . كل لحظة تشاهد بدرية صورة مستقبلها القريب في عمّتها الوحيدة المعزولة .. طريحة الفراش .. ثرثارة .. خرفة .. لكن عذراء !! لكنها – أي العمّة – تمتلك ذاكرة حادة بتسلسلات وقائع خيباتها وآمالها المُجهضة .. ووعياً تشخيصياً لأسباب هذه الخيبات والآمال المجهضة ، فتصرخ من أعماق غرفتها المظلمة :
(يا قسمة التي تتكلمون عنها ؟! طالما البنات في بيت حجي مصطاف ، إيأسوا .. لا زواج ولا هم يحزنون . هاي آني هم ضحية لهؤلاء الأنذال أخوتنا . قضينا عمرنا نحلم إلى أنْ الحيطان ملّت من أحلامنا . هِمنا .. هِمنا .. وبعدين سكتنا – ص 15) .
بغداد المحروسة
16/4/2014