تزداد الرؤية الفنية والجمالية اتساعا في أعمال النحت العراقي يوما بعد يوم وهي سائرة في ركاب التداخل بين التراثي / التاريخي من جهة ومنظومة الحداثة من الجهة الأخرى ويحدث أن تكون مبتكرة لمناطق وجود تشي بمزيد من الثقة بتلك الأعمال التي نراها تبتعد عن المباشرة أو تلك التي تخفي قدرا من الشك في أصولها التعبيرية ومن بين الأسماء التي تركّز على ثوابت انعكاس منحوتاتها والحفر المواصل لها بمؤثرات البيئة والأجواء الفكرية يبرز اسم عبد الكريم خليل واضحا ومميزا والذي يغذي اغلب تكويناته النحتية من منابع موهبة ترفض أن تطوع نفسها لسياق ثابت ومحدد في مجرى العمل الفني فهذا النحات ظهر بشكل ملفت لما يرينا من أعمال تحمل رموزا وحداثة ونزوعا في الشكل والتعبير معا
ليس مصادفة أن نكتشف نظاما متداخلا في ثنايا تلك المنحوتات يمكن رؤيته من فضاء يجترح لنفسه وسياقه طبيعة خاصة تنطلق من المعاصرة المهتمة بالشكل أساسا والمتسعة بكتل صلبة يتسرب منها التلازم في بنية الاستعراض الفني جماليا ومحاولة ترميز الشكل بقاعدة جوانية / باطنية بتجلي صوفي في بعض الأعمال المعروضة له والتي تزاوج بين شكلين تتوحد فيهما الحركة ووحدة المعنى وهذا الشعور يولد لدى المتلقي تصورا مفاده أن انعكاس التنوع في الوظائفية له فسحة تعبيرية وفكرية لكن السؤال الملح هنا ما قيمة تلك الخصائص المحيطة ببنية الشكل النحتي وهي تتجلى بخفاء زخرفي ؟ المتتبع لعبد الكريم خليل لا تفارقه الرؤية والتعارف من بنائية هندسية تعبر بانتظام عن حسية منحوتاته فالرغبة في اجتراح مراكز خفية لصورة العمل الفني يمكن أن توقعنا في شكل تتباين فيه التقنية العملية والأسلوبية كونها تميل إلى إعطاء الإثارة إطارا جماليا يتوجب على المتلقي أن يتساءل عن مصادر معرفة تلك المنحوتات ومحيطها التعبيري والبيئي بل واعتمادها على العمق الجذري الذي أوصلها إلى هذه المكانة التي تتضمن أبعادا هي في حقيقة الأمر جزء من النظام التصويري الخاص بأسلوب اكثر تمهيدا على اعتماد الرؤية الجمالية في صيغتها وجوانبها الفنية ولعل الفعل الأكثر تقدما في هذه العملية الصيغ الفعلية للخامات التي يوظفها عبد الكريم خليل في تكويناته النحتية فلقد بلغت مكانة بشكلها المؤثر وتوصلاتها المرمزة أو الواقعية . ان الملفت للنظر في أعمال هذا النحات ما نبصره من حركة دائرية أو تكوين فراغي ورشاقة شكلية في المنحوتات وهو بهذا النمط التعبيري للشكل يعتمد على كسر قواعد الجمود الشكلي في التكوين النحتي بنفس القدر الذي يؤكده على المبالغة في انسيابية مكونات عناصر النحت لديه أو محاكاتها لحقائق إنسانية وهذه الملاحم في الحركة والشكل والتعبير تحتضن بلمحات بسيطة وعميقة ابتكارا شكليا لا يخفي انتماءه لإيحاءات تقترب من الرسم والنحت القديم
ثمة انعطافات وتحولات في سياق الشكل النحتي لدى هذا الفنان تتكامل معطياتها التعبيرية من خلال عدة مستويات منطقية تخص واقع النحت منها فرادتها في الأسلوبية التي تعكس أسبابها الإيحائية والشكلية حينما تتعمق بنمط صياغة معاصرة من شأنها التأكيد على المعنى بشكل مباشر إضافة إلى الوحدة الموضوعية المتحققة في اكثر أعماله والتي يغلب عليها واقع بلورة الرؤية الجمالية لصالح الشكل الخارجي ولعل الأمر الملفت تلقي مضامينها في مركزية واحدة تصب في جوهر العملية الإنسانية ورغم المعالجات التعبيرية الواضحة إلا أن عددا من تكويناته تتضمن استحقاقا لفرادتها في التمرد حينما تركز على وسائل اكثر جاذبية في مناطق الفكر الإنساني والجمالي وهذه المغامرة لا تصب في استخلاص قيمة العمل الفني فحسب بل هناك القاعدة الأساس المعتمدة في استثمار طاقة النحت لصالح رؤية جمالية تتغذى بالأساس من منظومة فكرية أراد أن يعمقها هذا النحات وفقا لما تمليه عليه الخبرة الواسعة والمتعددة فأعمال تحوي أشكالا مسترخية وغارقة في التعبيرية بعيدا عن ضغوطات التشريح الشكلي ما عليها إلا أن تتجاوز مفاهيم التقليدية في النحت لكي تشهد أداء متميزا يوفر لدى المتلقي اكبر قدر من السعة الجمالية والنفسية كحصيلة لم يسبق معالجتها من قبل ويجدر بنا أن نعرج على السمة العفوية في بعض أعماله وما هي في الأصل إلا تفاعل رؤى خصبة من شأنها أن تولد حالة تآلف بين مكونات التفاعل الفني اليدوي والكتل اللونية الغارقة في خوض غمار التشبع بالروحي ولعل أية مشاهد بصرية عن كثب لمنحوتات عبد الكريم خليل ترينا سعته التعبيرية وقدرته على صقل مجال هويتها وعمقها النحتي حتى أن المكونات البيئية والجمالية ومؤثراتهما تومئ لمعايشة وتفاعل مباشر مع الحياة وهذا التخصيص له موروثه ونضوجه الفكري اعتمادا على مقومات خبرة وتجربة وتقنية تميز بها هذا النحات دون غيره
خضيّر الزيدي : عبد الكريم خليل ؛ النحت البديل وفقا لرؤية التغيير
تعليقات الفيسبوك