قاسم فنجان : “موت القوّاد”

kasim finjanلم يكن تواجدي في ذلك المساء البعيد صدفة عابرة،كنت عازماً على زيارته ومصراً عليها،لذلك لم أعدل عن قراري ولم أخضع لرغبات الصحب بالعدول عنها بعد أن آلمني كثيراً مشهد تشييعه اليتيم،أربعة رجال يحملون على كواهلهم الضعيفة نعش خشبي بلا سقف،جوانبه البالية تلطخها خربشات باهتة لم تفلح عيناي قط في قراءة محتواها الغامض،يمضون به مسرعين عبر شارع خاوٍ من الناس،يتسابقون للوصول الى مقبرة ليس على مشارفها الجرداء أي أثر لقبرأو لشاهدة قبر،ليس سوى حفرة تفغر فاهّها السوداء في وجه السماء البعيدة،يتوقف المشيعون عندها ويطرحون التابوت على الأرض،تمتد كفا الحفار الغليظتان الى الجوف الخشبي البارد  حيث رأس الميت المقطوع ينام مستسلماً في بركة  الدم المتخثرة،تنتزعانه منها فيتصاعد  بخار الدم الأرجواني مخلفاً وراءه جسداً تستره أسمال  ممزقة،يراقب الرجال الرأس الميت ويحزنهم إنكسار الوجه المستسلم بين يديّ الحفار،تعتريهم الشفقة عليه وتسري عدوى الأنكسار الى إفئدتهم القاسية،تتراخى مشاعرهم الصلبة حتى يعيدها الى ما كانت عليه  صوت الحفار المشروخ :
هيا ! إحملوا هذا القواد !
تتشابك أياديهم الكثيرة على الجثة الناقصة ويسلخونها من قاع التابوت بقسوة،يوارون جثمانه الثرى بلا تلقين،يكتفون بقراءة الفاتحة على روحه الحائرة ثم يتلاشون منفرطين كل ٌ في إتجاه.
الكل يعرفه في المدينة الصغيرة،داره البسيطة المنحسرة في قلب أقدم الأزقة،تشع بشهوات رجال تذوقوا على يديه طعم اللذة الأولى،من مواعظه الغريبة إكتسبوا مهارات خارقة رسخت فحولتهم المستعرة في أصقاع المنافي الباردة،لذلك أمسى بيته الصغير مع تعاقب الأيام ملاذا جنسياً لصغار المراهقين والرجال وحتى الطاعنيّن منهم،ينشرون على بلاطه المغمور بدبق الشهوة الأبيض غسيل أحلامهم،يتأمله بحسرة ويؤّمِن من أجله  أجمل النساء،يدعوهم بأدب جم الى وليمته الدسمّة،يفتح الأبواب ويوصدها ويصغي للفحيح الموجع في الغرف المقفلة،يتناهى إليه بعيداً دعاء إمرأته القابعة مع إبنتها في الغرفة المهملة في مؤخرة البيت،تصله كلماتها الرحيمة وتوخز قلبه العاصي بسهام التوبة الحارقة،يطأطئ رأسه ويسير عبر الرواق الى الباحة الخلفية،يصل الى الغرفة ويتنصت عبر بابها الموصود،تغمره الترانيم الحزينة بالحزن وتدفعه ليدفع الباب،يدفعه ويراها  بين يديّ الله جاثية على سجادتها القديمة،ترفع رأسها الى الأعلى وعيناها تترقرقان بالدمع على مآله الوضيع،يزلزله حالها المهيب فينتزع جسده من فضاء الغرفة الممغنط بالأدعية ويعدو الى الوراء،يرى في ألق أمسه البعيد طفولته الممرغة بالشقاء،يسمع صوت أبيه الأجش يدوّي عالياً في صحارى نفسه الشاسعة:
يا أبن القحبة !
تتصادى الكلمة في رأسه ويتذكرها جيداً!أمه الرقيقة بوجهها الجميل تروي له في مساءات غابرة عن حكايات العشق العقيمة،عن فارس ملثم مجهول،يجئ ممتطياً مهرته البيضاء الرشيقة،يومض كالبرق الساطع في حياتها ويغيب،مخلفاً وراءه غيوم الأنتظار وصهيل الأسى،لم تساعده ذاكرته البريئة على إدراك المعنى من حكاية الفارس المجهول،لم تسعفه سنه الصغيرة على إدراك أوجاع أمه العاشقة،لم تمسّه سياخ شوقها اللاسعة ولم تلسعه أشواك حسراتها اللاهبة،كان يدرك بغريزته الصافية خواء خزانة قلبها الرقيق من الرجال حتى حلَّ غيابها المفاجئ في فجر ذلك اليوم البعيد،غياب لم تعتقد به ذاكرته قط على أنه يقيناً غياب،لكنه كان غياباً حقيقياً لطخ فيما بعد رأس أبيه  الطاهر بالعار!
منذ ذلك الوقت وخطى الأب المثقلة بالخزي ما أنفكت تبحث عنها في المواخير،تتلصّص عبر الأبواب المواربة على الوجوه والأجساد العارية،تتاَبعُ ضوع الروائح المأفونة في الأروقة الموبؤة،تتسلل الروائح الغريبة الى باطن الأبن المتتبع أباه،توقظ مشاعره السابتة وتدعوه ليفتح لها مغاليقه السرية،يفتحها فتتلاطم الصور العارية في خزانات رأسه الصغيرة،تنضّد نفسها لتستحيل الى إيقونات راسخة،تلطخ وجه حياته القادمة بالدعارة،دعارة تفيض بشهوات طافحة تطفو وتسيل مع الدم،تعرّش في كل خلية من جسده الطري،تصرعه برعشات ينتبه لها الأب المكسوروينتحب،يصحو الأبن على بكاء أبيه المفجوع وينهض،يمدّ كفيه الصغيرتين الى العينين المترقرقتين بالدمع ويسأل:
لماذا ؟
يغيب صدى السؤال و تتلاشى صورة الأب  الغائب في الفضاء المأفون،يوصد الباب على الزوجة الساجدة ويتركها وراءه في سكينة التضرع،يخطو صوب الباحة المزركشة بالطوابير الهائجة ويتملى إنتظار الملامح المصطلية بنار الشهوة الحارقة،يتابع ولوجهم المرتبك الى الغرف الضاجّة بالعراء،تتناهى له من بعيد تأوهات النساء الجائعة وهي تتراجع تحت الصرير  الشره للرجال،تغيب التأوهات مع غياب الرجال بالتدريج حتى تتلاشى ويتلاشى بعدها كل شئ،يسود السكون المكان ويطبق حتى يبزغنّ العاهرات كالشموس المنطفئة من الجحور الرطبة،يمضينّ بتثاقل منهوكات مما علق  فيهنّ من روائح الرجال المالحة،يتكدسنّ نافضات عن أجسادهنّ الأسمال الدبِقة ويشرعنَّ بالأغتسال أمامه،يتسامى وشيش الماء المدوّي ممزوجاً مع القهقهات العالية الى رأسه كالحرب.
الآمر يطلبك ؟
ترى عيناه الخائفتان الجبهة المتحالفة مع الموت تغلي وتفور،يرى في مراجلها أجساد الجند المنصهرة،يبحث عن منفذ للنجاة فيرشده الجميع الى الآمر،يرى في  الآمر الملاذ من الهلاك الوشيك،يستعرض رغبته بلا حياء ويعلنها جهراً أمام الجميع:
أنا  قواد !
لم يكترث الجند لأعلانه الجرئ وكذلك الضباط،لكن الآمر المكترث أسبغ عليه المناصب المهمة ليحصّنه من الموت القادم،ضمّه الى حمايته الخاصة وأمرهم بأن يرتهنوا لأوامره،سيّده على الجند المغلوبين وولاه على أمرهم،إستاء الضباط من ظهورالخصم الرخيص وأعتبروه عاراً على الجندية،أما المراسلين المتذمرين من حضوره الشديد فشرعوا مع ضباطهم في حبك المؤامرات،كانت الدسائس الخطيرة تنتهي خاسرة بين يديه،كان ينتصر في الحرب فيما الكل كان يخسر فيها،راقه الحال الذي لم يكلفه سوى تأمين النساء للآمر في الأجازات الدورية،دفعه وضعه الجديد لينبّش في باطنه الأبيض عن الخير،راعه الخير الوفير فشرع في مساعدة الجند المحتاجين،تناهى في خدمتهم  حتى ذاع صيته عالياً ليصل الجند والضباط والقادة،أنشطر الجميع في تصنيفه الى شيطان وملاك،أحبه البعض وبغضّه البعض الآخر،لم يوّلِ أدنى إهتمام للّغط الدائر حوله لأن حياته كانت تسير على مايرام،تدرج في مناصبه ومهامه حتى صار أخيراً القواد الشخصي للقائد الكبير،تشظّت تداعياته بالحرب حينما همست في أذنه إحدى عاهراته المكتنزات :
إلامَ تنظر؟
تشاهد عيناه المتعبتان الرغوات الساحرة تسيل مع الماء على الجلود الملساء،تشدّه المؤخرات البدينة بتكوراتها المثيرة،تسحقه الأثداء الناعمة،يأوي الى المرحاض ويقعي مثل كلب مجروح،يرفع رأسه الى الأعلى ويعوي :
آآآآآآآآآآآآآآآآآآه !
يثير عواؤه العاهرات فينفرطنّ من حوله مهرولات تلاحقهنّ أشباح حرب غريبة،تسوره المخاوف عليهّن ويألف نفسه ثانية محشوراً في ماسورة قتل وحشية تدور رحاها في جبهات النفوس،إنها حرب تطحن الرؤوس وتقطّع الأجساد بلا رحمة لتحيل المدينة الى قبر مظلم وكبير،يجتاحه الرعب مما يدور ويرى في زوجته العابدة الملاذ الأمين،يدفع الباب ويوجعه خواء الغرفة المخيف،يدرك بغريزته حلول غيابها الأخير،يألف نفسه نهباً لوساوس مرعبة تمرّغ حياته بالشقاء،يهرب منها صوب المدينة المجنونة،ترى عيناه الخائفتان عاهراته الجميلات وقد احالتهّن الفتنة الى جثامين مبعثرة الأشلاء،يروعه المآل المخيف للحياة ويلج الأزقة الضيقة محتمياً بعتمتها،يبحث في درابينها عمّن يأويه،يطرق الأبواب وما من مجيب،يعود لائذاً بالجدران الى بيته الفارغ،ينتصب أمام بابه الموصد ويصغي لأصوات تتعالى من داخله المأزوم،يحني رأسه الثقيل على الباب فتتناهى إليه الأصوات قريبة جداً،إمرأته تترنم حنجرتها الصافية بأدعية هادئة يقطعها وابل من الرصاص الكثيف،عاهراته يصدحّن بقهقهات مشروخة تخرسها فجأة تكبيرات الموت المروّعة،دربكات لخطى مرتبكة على إثرها يرى مسوخ مقنعة تنتشرعلى سطح البيت،يسمّره الخوف من القتلة،يحاول الصراخ ولايقوى،تتراخى ساقاه ويهوي جسده المرتعش الى الخلف،يتحلق حوله المقنعون شاهرين خناجرهم المنقوعة بالدم،يتبيّن عيونهم الغاضبة ويعرفهم رواد أمسه الجميل،يسلم جسده اليائس لهم بأنكسار ويصغي لوشيش دمه الساخن يتفجر من أوداج رقبته النحيلة،يستسلم جسده المستعر لبرودة تغمره رغم حرارة الدم المنساب من رأسه المقطوع،يغمض عينيه الخائفتين ويفتحهما على رؤوس ترفرف بأجنحة تحت سماء حمراء !

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

حــصـــرياً بـمـوقـعـنـــا
| مها عادل العزي : قبل ان تبرد القهوة .

-الخامسة فجرا بتوقيت مكان قصي خلف البحار والمحيطات- اشعر بانهاك شديد.. او انها الحمى تداهمني …

حــصــــرياً بـمـوقـعــنــــا
| د. زهير ياسين شليبه : المهاجر .

كان علىَّ اليوم أن أرى فيلم المهاجر! اتصلتْ بي شريكة حياتي، أو “نصفي الأفضل” كما …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *