دحبور في هذه القصيدة يعيش خبرة الضياع والضياع الوجودي على وجه الخصوص . ولن نخوض في التفاصيل النظرية لهذا النوع من الضياع . قدر ما نريد الولوج الى نص من نصوص هذا الشاعر الذي يشعر انه صديق الألم ورفيق الضياع . والقصيدة التي سنقف عندها هي دليل حي لما نقول . والسؤال الاول الذي يباغتنا هو عنوان القصيدة ذاته . فما معنى ” الشوكة الخالدة ” . ؟ انها باختصار شوكة قد استقرت في اللحم ولا تريد مغادرته . ومن المؤكد ان الشاعر لا يقصد بهذه الشوكة بمفهومها الدارج . بل هي رمز للألم الذي لا ينتهي . العمر هو هذا الألم الذي لا ينتهي . دحبور إذن ألم لا ينتهي . ودرب بلا نهاية . كيف يكون الضياع بعد إذن ؟ . يفتتح دحبور قصيدته وهو يعيش بين جدران زنزانة الحياة وثمة عصفورة قد جاءته بأخبار . ترى ماذا قالت له العصفورة والتي أطلق عليها عصفورة الأيام . يقول دحبور :-
– 1 –
قالت له عصفورة الأيام :
خطوط كفيك بلا نهاية
تبدأ من كفيك ، أو من صفحة الغواية
قلبك مفتوح بمصراعيه
والغول – في الحكاية
ترميك بالنهار والظلام
أوان َ لا يوقظك الرعد ، ولا تملك ان تنام
(الديوان ، ص 468 – 469)
**********************عصفورة الأيام بديل رمزي لبريد القدر . ذلك البريد الي يحمل كل يوم أخبار وأخبار .. ولسيء الحظ ، مثل شاعرنا ، يحمل كل يوم خبر جديد . وكل خبر يحمل معه فأل شؤم . ولهذا فأن عصفورة الأيام هذه قالت له بأن خطوط كفيه بلا نهاية . ذلك يعني انه يسير بلا هدى فلا طريق واحد يسلك . انه أمام طرق كثيرة ولا يدري أيهما يسلك . وبدلا من أن يكون الكف رمز أمل صار هذا الكف اللعين مصدرا للشؤم واليأس . من هنا الخوف في ان يتأمل خطوط يديه . حياته كلها مرهونة بالغواية . رأينا كيف ان خولة في مكان آخر قد حرضت الأب عليه . انه تحت طائلة الغواية إذن . اينما يولي وجهه فهناك الغواية واقفة له بالمرصاد . ليست فقط الغواية .. بل الغول هي الأخرى تطارده اينما مضى . فلا ليله ليل ولا نهاره نهار . حتى الرعد نفسه لا يمكنه ان يوقظه وفي الوقت نفسه لا يملك ان ينام . اي مفارقة هذه التي يعشيها دحبور ؟ اي حزن هذا الذي يعيش تحت تأثيره ؟ . الموقف … عجيب . فهو في مفترق الطرق .. أمامه طرق كثيرة ولكنه لا يعرف اي واحدة يسلك كما قلنا .. الغول تقبض على انفاسه . ولكن الشاعر لا يملك غير قلب مفتوح ومفتوح بملء مصراعيه .. هذا عزائه الاكبر في رحلته هذه . في المقطع التالي نجد تتمة للمأساة التي سردها دحبور عن نفسه فيقول :-
سحابة مرت على عينيه
ولم تزل عصفورة الأيام
تقول ما أدركه ، من قبل ، وهو خائف
فالنهر يدنو واثقا إليه ِ
وجمرة العواطف
تنقله عن حطب الآثام ْ
(الديوان ، ص 469)
*******************
السحابة هي الأخرى محملة بالأخبار . لاسيما عندما تحمل المطر ! . نحن نعلم كم تبلغ سعادة الذي يمشي في الصحراء ويرى في الأفق سحابة لعلها تمطر وتجعل من صحرائه واحة فيها مكان للاتكاء ولو لحين . الا أن عصفورة الأيام هذه ما زالت تزف له الانباء .. وأي أنباء .. انها أنباء غير سارة .. الغول يراقبه ويتابعه ولا يملك من ان ينام على الرغم من توهمه بأنه نائم وصوت الرعد لا يوقظه . انه خائف من عصفورة الأيام وما يحمله له بريدها . النهر هو الاخر يريد إغراقه مثل الغول التي تريد التهامه . يدنو منه واثقا لأنه يعرف ان دحبور قد ملئه الخوف . ثمة صراع بين جمرة العواطف وحطب الآثام . دحبور محصور بين الاثنين . مثل فتى نزار قباني الذي أنبأته قارئة الفنجان بأنه سوف يكون :
ستبقى يا ولدى مسجونا بين الماء وبين النار
وتمضي في بحر الحب بغير طلوع
وتكون حياتك طول العمر كتاب دموع
*******************
هكذا هو بين جمرة العواطف وحطب الآثام !! . لنلاحظ ان الشاعر يستخدم مفردة الحطب والجمرة لظاهرتين متناقضتين وهما العواطف والآثام .. فالجمرة هي نتيجة العواطف الملتهبة بينما الحطب هي وقود الآثام الحارقة !! مفارقة نفسانية يعيشها دحبور وقلبه مفتوح المصراعين .. لا بأس ، كقراء للنص ان نستفيد من مختلف المرجعيات حتى ولو لم يقصدها صاحب النص بصورة مباشرة ، وهذه يمكن ان ندرجها ضمن ظاهرة تخاطر الأفكار قبل ان تكون ذات قصدية مباشرة في الاقتباس أو التناص . ونميل الى الظن ان دحبور واسع الاطلاع او هكذا ينبغي ان نفترض . حيث ان عنوان القصيدة ليس محض صدفة في الاختيار . فالحواري بولس تحدث هو الآخر وهو قد سبق دحبور في استخدامه لمفردة الشوكة ولكن بمعنى قد يختلف عن المعنى الذي يقصده أو يرمي إليه دحبور . فهذا الحواري ، بعد انقلابه الديني صارت له صورة أخرى عن الذات . صورة ممزوجة ما بين التفاخر والتعالي تارة وما بين التقليل والكراهية تارة أخرى . وما يهمنا هنا هو علاقة استخدام هذا الحواري لمفردة الشوكة وصورة الذات . ففي إحدى رسائله (2كورنثوس 7:12) يتفاخر بآلامه وعذاباته وجهاده حتى انه ظن انه قد وصل الى القداسة وحتى لا يتمادى في شعوره هذا لطمه الله بشوكة في الجسد حتى تكون عائقا له لتحول دون وصوله الى تلك المرتبة أو الحالة المرجوة . وميزة الشوكة انها مزروعة في الجسم ولا يستطيع صاحب الجسم إخراجها من دون الشعور بالألم . فالألم هو الخيار الوحيد للجسد سواء ُأخرجت الشوكة منه أم بقت مزروعة فيه . من هنا خلود الشوكة . ومن المؤكد ، على الرغم من أن قراء نصوص هذا الحواري الذين يذهبون الى ان الشوكة كانت آلاما في الظهر أو العين ، الا انه ، في تقديرنا ، كان يقصد الشوكة ببعدها النفسي او الروحي إن صح التعبير . كانت هذه الوقفة هي فقط للخروج بتأويل لعنوان قصيدة شاعرنا دحبور الراهنة . وسواء أكان دحبور على اطلاع بسر شوكة هذا الحواري ، ونحن نميل الى الاعتقاد انه كان على علم بذلك لأن بيئته تسمح له بالاطلاع على ثقافة الآخر ونصوصه ، أم كان على غير علم بها فأن المعنى الذي يعنيه دحبور هو ، في تقديرنا ، ذات المعنى الذي كان قد عناه ذالك الحواري المتحول . أنه العذاب الخالد الذي يحمله دحبور بين جوانحه ويسير به اينما توجه . عذاب لم ولن يفارقه .. وربما مازال كذلك والله اعلم . انه باختصار عذاب القضية . وطالما ان هناك قضية فأن العذاب يكون علامتها . مشكلته ، على ما يبدو ، هي مع الضوء . الضوء بكل ما تعنيه هذه المفردة من معنى . هذا ما نراه في مقطع آخر من القصيدة . وهو يعلم بهذه الإشكالية المرة والحلوة معا !! . ويبدو ايضا ان مفردة الجنون .. مفردة شائعة في قاموس دحبور . وذلك لشيوعها هي والمفردات الدالة على ذلك . ولنرى كيف يستخدم الشاعر هذه المفردة وكيف يستثمرها ؟ يقول دحبور :-
أعرف ُ هذا الضوء مجنونا ، تعودت ُ عليه من زمن ْ
أعرف كيف يرسم المرأة أحينا على شكل وطن ْ
فمرة يرسمها أما
ومرة حمّى
وتارة يطلقها نهرا من الشجن ْ
فليس من حاكمة إلا وكانت عنده ُتسمى
لكنه لم يعط السر هنا ، ولم يقل أنت ِ من
فأنت ِ من ؟؟
(الديوان ، ص 469- 470)
*************************
لا نحتاج إلى مفاتيح كثيرة للولوج إلى هذا المقطع الذي يعالج دحبور موقفه من سر المرأة إن كانت كذلك . ُسئل فرويد مرة عن من هو الكائن الذي استعصى عليه حله فأجاب على الفور : انها المرأة . وها هو دحبور ينظم إلى رائد التحليل النفسي في الموقف من المرأة . قلنا ان الضوء عند دحبور يعني الجنون . ترى هل تعني العتمة والظلام عقلا ؟ . والمنطق يرى ان هذا هو الجواب الصحيح الذي طرحه دحبور لعلاقة الضوء بالجنون . ما يميز دحبور ، هنا ، هو الفته بالجنون كفكرة وكظاهرة وكخبرة معاشة يوميا . معنى عبارة دحبور :
تعودت ُ عليه من زمن
هو انه إلف ظاهرة الجنون في حياته اليوميه وفي قاموس مفرداته . وفي تقديرنا ان هذا جاء نتيجة إيماءات الإشارة التي اعتاد عليها دحبور في علاقاته مع الآخر .. وها هنا مع المرأة خصوصا . إيماءات الإشارة ideas of reference هي كل حركة أو قول تصدر من الآخر يفسرها الفصامي على انها تعنيه هو بصورة أو بأخرى . وكلما ضغطت عليه هذه الإيماءات كانت حياته جحيما يوميا لا يطاق . فيسير في الشارع تحت طائلة الذهول !! . تعّوده عليها صارت بمثابة صديق له . مثل ظله يلازمه اينما ذهب . إذا كانت المرأة سرا بهذه الصورة فمن حق دحبور إذن ان يعيش حالة اللاثقة التامة في الآخر . يبقى التساؤل عنده قائما لم ينته بعد ولذلك لم يجد ما تركن إليه نفسه . في المقطع التالي يضع دحبور يده على الجرح كما يقال . انه يعرف سبب آلامه ومعاناته . لديه ما يسمى بلغة الطب النفسي حالة الاستبصار . فالخلل ليس عند دحبور بل في العالم … في الاخر .. والآخر هو الجحيم كما يقول سارتر . فأنا في حالة صراع دائم معه . هو تحت طائلة الشك وسوء الطوية بلغة الفيلسوف الفرنسي الكبير سارتر . نجد في المقطع التالي صورة لفعل الاستبطان يمارسها دحبور . لنرى إذن مسار تلك العملية عنده . انه يقول :-
إنها الشوكة المزمنة ْ
تتجول في القلب ،
في كل عاصمة وخزة ٌ ،
وألبيّ ــ
كأن دمي لتجاربها عيـّنة ْ
وأحبك ِ ، أو هكذا أدعي ؛
ليس قلبي معي ،
فأنا آن طلعت وجهك ِ أسلمتُ قلبي إلى وخزة ٍ ،
وتخففت ُ من همزة ٍ تبعتني من الأرض حتى مدى الوهم ،
أذكرُ أني استمعت ُ إلى صوت أمي ،
( تراها تغنّي أم المبحرون أتوا بشقيقي )
(الديوان ، ص 470-471)
*******************
ما يزال دحبور يدور في فلك اللغز الذي دوخه ! اعني المرأة . ذلك الكائن المجهول الذي يتمظهر بمظاهر مختلفة أو يتخذ أدوارا مختلفة . وإذا كان دحبور ، كما رأينا ، لم يحدد هوية لغزه هذا فانه هنا سوف يحدده بالأم . فهو يتذكر واحدة من اغاني النوم التي كانت تغنيها لدحبور لينام وينتظر العشاء .. !! . كان هذا التذكر بمثابة اتكاء له وبلغة علم النفس حالة من النكوص والتثبيت على مرحلة عمرية معينة . لقد مل دحبور جميع الوجوه .. الوجوه التي تحيط به مليئة بالسواد .. بالكراهية .. كل وجه يجمل الف وجه ولكل لحظة . بقي هذا الوجه المنكسر هو الوجه الوحيد الذي ينظر الى دحبور بعيون ملئها الدفء . وحتى هذا الوجه يقول انه يحبه .. ويكشف دحبور عن قناعاته فيقول عن ذلك الحب انه محض ادعاء . ليس في قلب دحبور أو في ذاكرته اي بقايا لأي وجه . كل الوجوه مسخت .. صارت محض نسخ من الكاربون الأسود مكورة في الذاكرة .. صار الوجه بالنسبة له مرادفا للألم والقرف . ودحبور يعلن بصراحة انه يعيش تحت طائلة تأثير الآخرين .. يتذكر جثة أخيه وقد حملها المبحرون .. انها المأساة التي لا تنتهي . يعيش دحبور حالة من التناقض الوجداني إزاء هذا الوجه . ولا يهمنا كثيرا من يكون صاحب الوجه هذا . المهم ان هناك الم سببه هذا الوجه لشاعرنا . لنرى ما هي عذابات دحبور نتيجة هذا الوجه :-
وجهك ِ ليس امتدادا هنالك ،
وجهكِ ليس حيادا ،
وأغربُ من كل هذا وذاك :
وجهك ليس طريقي ،
على أني أتجمع في اللحظة البينة
حول نهر ابتسامتك ِ الصعبة الهينة ِ
(الديوان ، ص 471)
***********************
هناك ضياع نفسي يعيشه دحبور إزاء الوجه . هذا التمزق بين عدم تلاقي طريقهما وبين وجهها الذي ضاع من يد أو من ذاكرة دحبور لكنه في خاتمة المقطع لا يتمكن من الهروب والفرار منه .. انه يجمع شتاته عند مطلع نهر ابتسامتها . دحبور لا يطلب شيئا . انه خجول .. تهزمه الإشارة .. تسحقه الإيماءة .. يتكور حول ذاته .. يقول دحبور :-
لم أطالب بشيء ،
ولم تَعديني بشيء ،
ولكن شمسك أرْوَحُ من أي فيء ٍ ،
وحين اقتربتِ بلا سبب ، أو توهمت ُ ــ
صرت ُ إلى لهب ٍ ،
فانتهيت إلى حطب ٍ ،
هكذا ؛
واشتبكتُ مع الوقت ،
لم أدر ِ ما مرَّ هل هو ثانية ٌ أم سنة ْ
(الديوان ، 471- 472)
*******************
انه وصال بلا تواصل . كل منهما في مكانه . لم يتحرك كليهما خطوة واحدة .. قلنا ان دحبور يخاطب وجه ما .. وجه يجول ويصول في ذاكرته .. بل ليس في ذاكرته سواه . هذا اللقاء محض خلق من عندياته .. من مخيلته .. لقد توهم انه اقتربت منه .. وكان ما كان .. صار لهبا ثم حطبا .. الزمن عند دحبور توقف .. أضحى جامدا لا يتحرك .. أليس هذا ذهولا مثلما نراه في حالات الفصام التخشبي ؟ .. ويستفيق دحبور من سباته هذا بالسؤال من جديد عن صاحب هذا الوجه . أهي الأم . أم الوطن .. أم الحبيبة التي على شاكلة الأم .. كلهن يندرجن تحت مفهوم المرأة . يا لها من لغز لا يقبل الحل أو الكشف .. يقول :-
وبعيدا عن الكلمات الكبيرة ؛
أسأل : من أنت ِ
هل تسمعين بموتي الذي نقلته الإشاعة ،
والتقطته الإذاعة ؟
هل تسمعين ببيتي المقوض تحت الليالي المطيرة ؟
ها أنت ِ حاكمة ٌ ،
وأبو الهول ُيفضي بألغازه الأولية ،
فلتجهري بالبقية :
كيف تسربت ِ بيني وبيني ؟
وهل أنا متهم أم شهيدك ِ ؟
أم عاشق يستزيدُك ِ ؟
عيني على أفق ٍ ــ
لا يرى القلب منه إلى الآن غير الأحاجي
هل هو الوهم ؟
أم أنها الأم ّ ؟
إن الحليب يطوّق عمري ،
وفي نهر عمري نساء من الوهج والشعر ،
والثلج والصبر ،
لكني لم أجد ، قبلك ، امرأة صاغها الضوء من عسل
وزجاج
(الديوان ، ص 473- 474)
*********************
ودحبور هنا يعاني من مشاعر الاضطهاد بصورة ملحوظة عندما تنقل الإذاعات نبأ موته . ولقد اتضحت صورة هذا الوهم في مقطعنا هذا . دحبور صريح في إعلانه هذا .. لقد مرت الكثير من النساء على نهر دحبور ولكن واحدة منهن هي التي صاغها الضوء من العسل والزجاج . انه تعبير عن مدى تأثر الشاعر بصورة الأم . والحبيبة لن تكون حبيبة إن لم تكن على شاكلتها مصاغة من عسل وزجاج .. ترى هل مرت امرأة أخرى على نهر شاعرنا مثلها ؟؟ إذا لم يجدها .. ها هو يخلق نموذجا لها في مخيلته وهي مجموعة أوهام لا غير . سوف يعتبرها غنيمة من غنائم العمر بل العمر كله . ها هو يقول :-
ما حسبتك ِ صيدا ً ،
وأن كنت ُ أسألني : هل أحبك ِ ؟
ــ لا بد .. لكن رويدا رويدا ،
فليس جمالك ،
ليس اكتمالك ِ ،
ليست خصالك ِ ما هزمت قلعتي ؛
بل مزاجي
إن لي تعبا أتمدد فيه وذاكرة مثخنة
وقديما عقدت مع الأم حلفا ً ــ
حملتُ بموجبه الشوكة المزمنة
لست غضا ،
ولست ُ عصيا على الكسر ،
لكن أمي تمر بكل النساء
وهي تغسل ثوبي صباحا لألبسه في المساء
وهي تعجن خبزي بدمعتها لأرى لقمتي لينة
غير أنك ِ ما عدت ِ في حارة الفقراء
وأنا أتساءل ُ :
من أين جاءتك أمي ؟
ومن أين جئت ِ ؟
وكيف أردك ِ عن قلعتي المذعنة ؟
ولماذا إذا لاح وجهك ِ أيقظ َ في القلب شوكته المزمنة ؟
(الديوان ، ص 474 -475)
***************************
يحتار دحبور بين الأم ومثالها أو نظيرتها في عالمه اليومي . كانت بالنسبة إليه بمثابة صيد . إنها إذن غزالة لا تأتي الا بالصيد والقنص . في المقطع السابق تسللت الى بينه وبينه . دحبور يتعجب من هذا التسلل وهو يعيش في قلعة ذات أسوار محصنة . وهي إشارة إلى الجدار السميك الذي بناه حول نفسه . ومع ذلك فقد تمكنت من التسلل إليها . عبارته صريحة جدا :
أمي تمر بكل النساء
************
كم هي مطلقة هذه الأم . حتى المصطفات من النسوة في التاريخ لسن مثلها . دحبور يجتر ذاكرته . ها هو يتمدد على تعبه وله ذاكرة مثخنة بالآلام . دحبور لم يهزم بل فتح أسوار قلعته طواعية .. بمزاجه على حد تعبيره .. دحبور كائن رقيق .. حساس .. شاعر يتألم .. هكذا يرى نفسه . فهو مرغم في ان يصون الحلف القديم الذي أقامه مع الأم . انه يستعرض طفولته وأشكال الاعتماد النفسي وغيره من الخبرات التي كانت تمارس مع الأم .. باختصار شديد : انه الطفل المدلل ليس لدى الأم فقط بل في الكون كله !! .من هنا هذا الوجع الذي يهاجمه عندما يرى وجهها أو طيف ذلك الوجه في تيار وعيه فتستيقظ في القلب وخزات الشوكة المزمنة . في المقطع الأخير من القصيدة يعود مرة أخرى الى عصفورته .. لنرى ماذا تفعل به هذا العصفورة :-
نقلتُ عني ّ في كتاب الذكريات المفرحة :
تذبحني عصفورة الأيام
بريشة الجناح
وعندما يدركني الصباح
يقطعني مذياعها بنشرة الأوهام
فهل أنا مذبحة ومذبحة ؟
(الديوان ، ص 476)
********************
ما يزال دحبور يدور حول مشاعر كونه الضحية .. كبش الفداء . ويمكن ان تكون هذه المشاعر إسقاطا لهيمنة القدر أو ما يسمى بعصاب القدر . فبدلا من ان تكون عصفورة الأيام مبشرة مثلما كانت اجراس الميلاد التي كانت تنقل له الاخبار السارة صارت عصفورة الأيام نذر شؤم له فتحمل بجناحيها أخبارا سيئة ومحزنة له . ولذلك تذبحه هذه العصفورة . فهو إذن المذبحة بعينها .. فهو يستخدم المفردة مع الف التعريف لشموليتها واطلافيتها . وإذا كانت الصورة التي بدت للشاعر بهذه السوداوية فمن حقه إذن ان يكون غائصا باليأس واللاأمل . وهو لذلك يطرح سؤالا للقدر لعله يجد ما يشفي غليله . انه يقول :-
وما الذي يلوح ، في الصورة ، خلف هذه الحاكمة الجديدة
جزيرة أم مشرحة ؟
نقلت ُ عن أوساط أمي حِكما ً ، أجوبة عديدة
أقربها إليّْ :
لا شيء في شدق الردى أحسنُ لي من شيْ
ما لم نجابه معا المكيدةْ
نقلتُ عن جزيرة بعيدة
تقرير غول البحر للرؤوس والخلجان :
المبحرون . . . ضائع ، وهو طعامي الآن
وما عدا فلك . . . فهو حي
(الديوان ، ص 476 – 477 )
************************
نجد موقفا من المستقبل يشع فيه الظلام . لا يرى فيه النور . الحاكمة الجديدة ، وقد تأخذ معاني مختلفة تختلف بحسب القراءات ، ونحن نميل الى الظن ان الحاكمة الجديدة هي التي تدين الشاعر وتلاحقه . هناك خياران أمام الشاعر وهذين الخيارين يعدان رمزا لمستقبل الشاعر . جزيرة .. أم مشرحة . واحدة للإقصاء والأخرى للموت والمحصلة في كلا الخيارين واحدة . انها محصلة مأساوية في الحالتين . لكنه أمام هذه الحاكمة الجديدة والتي لم يرى صورة الأم من منظارها الا بشكلها القاتم والضبابي واللامعروف . انه أمام متاهة . من هنا لجوءه الى حكمة الأم باعتبارها مرجعيته الأساسية له . ودحبور يعيش ضغط هاجس قهري عميق بالمكيدة والمؤامرة . ويعد العالم كله عبارة عن مكيدة له . تعلم حكمة من الأم .. المجابهة معا . نعتقد انه يشير الى ضرورة الشعور بالنحن لمواجهة المكيدة . دحبور مولع بالغول كثيرا . انه معه اينما يسير . كأنما هو ظله أو رفيق دربه أو قدره . وقلنا ان من رمزيات الغول انها رمز القوة العمياء والآكلة (مثل العمالقة والزمان ) وها دحبور يجسد هذا الرمز عن غول البحر .. والمبحرون في البحر ضائعون لكن الغول هو طعام دحبور .. يدخلنا دحبور في عوالم لانهائية .. لا ندري هل وصل الى احدها بفلكه ورمى مرساته في بحر إحداها ؟؟؟ . نترك لدحبور الجواب على هكذا سؤال …