ناطق خلوصي : رحلة الهارب من الموت ؛ قراءة في رواية “صيد البط البري”

nateq  2يستعير محمود سعيد عنوان روايته الأخيرة ” صيد البط البري ” من تصريح لقائد جناح جوي أمريكي لإذاعة مونت كارلو خلال حرب الكويت، يقول فيه بمرح شديد : “سنصطاد العراقيين مثل صيد البط ” وقد اختار البط لأنه بطيء الحركة ولا يقوى على الطيران وبالتالي فإن صيده مضمون تماما ً . أما العراقيون المقصودون هنا فهم  المنسحبون من الكويت ( أو الهاربون منها في واقع الأمر )  من العسكريين والمدنيين الذين تعرضوا إلى واحدة من أبشع المجازر التي عرفها التاريخ الحديث، فقد ” ظلت الطائرات  تلقي بالقنابل ، بالمتفجرات ، بالوقود ، حتى بداية الفجر المنبجس  من أقصى الشرق وعندئذ ٍ بدأت الطائرات السمتية تقتنص من تبقى حيا ً ” كما تقول الرواية . وأما الهارب من الموت الذي يشير اليه عنوان قراءتنا هذه  فهو بطل الرواية ” منصف  ” الذي أخطأه الموت أكثر من مرة، وقام برحلة هرب بدأت مما صار يُعرف بطريق الموت وهو الواصل بين الكويت والحدود العراقية  والذي حولته الطائرات الأمريكية إلى مقبرة مكشوفة في العراء تضيق بالجثث . ولعل منصف هذا من قلائل الذين نجوا من المجزرة لكن رحلة هربه من الموت لم تتوقف عند هذا الحد . فقد لاحقه شبح الموت حتى بعد أن صار داخل حدود العراق . وحين وصل بغداد وجد ان أباه وأمه  كانا ضمن الذين صاروا جثثا ً متفحمة في ملجأ العامرية . ويعد الروائي بطله محظوظا ً إذ أخطأه الموت هذه المرة أيضا ً لأنه كان في الكويت ليلة قصف ملجأ العامرية فلو كان موجودا ً في بغداد تلك الليلة لصاحب أباه وأمه  إلى الملجأ وتفحم جسده هو الآخر ، وهو احتمال افتراضي ، قد لا يبدو مقنعا ً، صنعته مخيلة الروائي  بهدف القاء المزيد من الضوء على محنة بطله . وتمتد رحلة الهرب حتى وهو في ملاذه الآمن في شيكاغو التي تيسرت له فرصة الحصول على لجوء انساني فيها وعمل سائق شاحنة في احدى شركات التوزيع ليلاحقه شبح الموت هناك أيضا ً إذ اصطدمت  شاحنته بعمود كهربائي لمرتين في حادثين كادا يكونان مميتين ، لتبدأ أحداث الرواية من ثاني هذين الحادثين فيوظف الروائي الاسترجاع عائدا ً بالأحداث إلى نقطة البداية  . ومع ان بطل الرواية نجا من الموت فإن كوابيس طريق الموت ظلت تلاحقه في نومه : تعكّر حياته وتفسد علاقاته النسائية  حيث كان صراخه وهو نائم ليلا ً يتسبب في هرب النساء منه، ولم يخفف العلاج الطبي من غلواء تلك الكوابيس .
حين تناولنا ” ثلاثية شيكاغو ” من قبل ، قلنا ان ثيمات الضياع والجنس  والغربة عن الوطن تشكّل أعمدة أساسية يقوم عليها معمار أعمال محمود سعيد السردية .وها ان هذه الثيمات تجد لها حضورا ً في ” صيد البط البري ” أيضا ً ، حتى لتكاد هذه الرواية  ــ بأحداثها ونماذج شخصياتها ــ تشكّل جزءا ً رابعا ً  يضاف إلى أجزاء الثلاثية . ثمت مشتركات عديدة بين هذه الرواية والثلاثية. فبطلها منصف وأبطال الثلاثية : عمر  في ” حافة التيه ” وسعدي في ” أسدورا ” وسعدان في ” زيطة وسعدان ” ، عراقيون هربوا من وطنهم تحت وطأة ظروف قاسية ألجأتهم إلى ذلك ، واستقروا جميعا ً في شيكاغو ، المدينة التي يعيش فيها الروائي نفسه ويعرف جغرافيتها ويوظفها  في أعماله .
mahmod saeid 7والى جانب ذلك فإن المرأة ، صديقة ً أو عشيقة ً وليست زوجة ، تحضر بزخم واضح في الروايات الأربع ،وثمة امرأة فائقة الجمال يتكرر حضورها هنا أيضا ً مثلما تتكرر شخصية  الشهم المنقذ من خلال منصف الذي اعتاد على مساعدة اختيه في بغداد بمبالغ يرسلها لهما شهريا ً قبل  أن يقرر الرئيس الأمريكي منع تحويل أية مبالغ إلى العراق حتى لو كانت لأغراض انسانية ! .والى جانب ذلك فإن منصف يحاول أن ينقذ سناء ( احدى شخصيات الرواية ) حين تتعرض لمحنة تقودها إلى السجن .
ان الروائي يعمد إلى توظيف عنصر المصادفة في بناء أحداثه . فالمصادفة هي التي تقود  منصف إلى أن يرافقه راديو ترانسستر ساعده على التعرف على نية الأمريكان  قصف العراقيين المنسحبين على الطريق الواصل بين العراق والكويت فيبتعد عن الطريق وينجو من القصف ، وإن رأينا من خلال مجرى الأحداث انه كان في ذلك الطريق فعلا ً ولم يبتعد عنه ويتجلى ذلك من خلال التفاصيل التي أوردها عن مشاهداته في ذلك الطريق . كما ان المصادفة قادته للتعرف على نسائه الأربع اللواتي كان لهن حضور واضح في مجرى الأحداث خلال سنوات اللجوء في شيكاغو فضلا ً على نساء هامشيات لم يلعبن دوراً مؤثرا ً في حياته ربما باستثناء فريدة  التي كان قد أحبها في بغداد ثم خذلته  حين تزوجت من تاجر فأحدثت جرحا ً عميقا ً في روحه . واذا كان محمود سعيد قد اعتاد توظيف الجنس في أعماله فانه لا يعمد إلى ذلك بهدف توفير عنصر الاثارة الحسية  وانما كمعادل لاحساس ابطاله بالخيبة والاحباط .
تشكّل  شخصية سناء أبرز نساء منصف الأربع وقد ” دخلت حياته بهدوء وزرعت فيه هدف التوحد المستحيل مع نوع سام ٍ من البشر ، مع نوعية خاصة من التفكير ، أهدته فرحة العثور على مكمّل نوعي لا يتوازن مع شخصيته ” ( ص 58 ) . وكانت سناء هذه ذات موقع متميز في شركة التوزيع  التي  تعمل فيها منذ سبع عشرة سنة وكانت تتميز بقوة الشخصية  والصرامة إلى الحد  الذي جعل منصف يطلق عليها تسمية ( مسز تاتشر ) تشبيها ً لها بمارغريت تاتشر رئيسة الوزراء البريطانية  التي كانت تُعرف بـ ” المرأة الحديدية ” لشدة صرامتها . وظلت سناء زمنا ً لغزا ً غامضا ً قبل أن تزيح هي بنفسها الغطاء عن هذا اللغز فعرف انها فلسطينية وكشفت عن الغريب الذي زاد من غموضها إذ كانت تضع على وجنتيها ، دون سبب واضح ، لصقتين تشوهان وجهها وظهر انها كانت تعمد إلى القيام بذلك، وعلى امتداد سبع عشرة سنة ، لتحمي جمالها وشبابها وشرفها . وقد يبدو مثل هذا التبرير غريبا ً ويشي بضعفها الداخلي  الذي يتناقض مع صرامتها الظاهرية ، ويتقاطع في الوقت نفسه مع رغبة الأنثى ، أية انثى ، في أن تبدو جذابة في عيون الآخرين ، والرجال بشكل خاص . لقد بدا ان ثمة  خيطا ً سريا ً للتقارب صار يمتد بينها وبين منصف لكن فارق السن حال دون أن يمتن هذا الخيط . وبالرغم من اتها كشفت أمامه عن جوانب مهمة من شخصيتها ، فان الغموض ظل  يكتنف جانبا ً  خفيا منها . علّمها منصف كيف تستخدم الكومبيوتر والكتابة باللغة العربية تحت غطاء الادعاء بأنها حصلت على عمل في الخليج ليتبين فيما بعد انها عملت مع القوات الأمريكية في العراق وكانت وراء فضح الممارسات البشعة في معتقل أبي غريب فقاد ذلك إلى الحكم عليها بالسجن، وهو منعطف حاد في سلوكها .ولعلها فعلت ذلك للتكفير عن ذنب قيام عدد من الفلسطينيين بالمساهمة مع القوات الأمريكية بقصف العراق أثناء الحرب .
kh mahmood saed 5 أما حليمة المسكونة بالشبق فقد رسم الروائي صورة غريبة للمرأة من خلالها فهذه الغزاوية تزوجت ثماني مرات كما تقول الرواية ، وكان هوسها بالجنس يدفعها لأن تخون زوجها مع منصف ، لكن هذه المرأة التي دخلت حياة بطل الرواية عن طريق المصادفة ، انسلت خارجة ً من مجرى الأحداث دون أن تترك أثرا ً . وتعرّف بالطريقة نفسها على الطالبة اليزابث وصوفيا التي كانت تصحب ابنتها الصغيرة في الحافلة المتجهة إلى واشنطن للمشاركة في التظاهرة المناوئة للحرب على العراق.
وبدا بطل الرواية مسكونا ً  بالحنين إلى الوطن وهي الثيمة الأخرى التي يتكرر حضورها في أغلب أعمال محمود سعيد السردية : ” يقف في  باحة الطابق التاسع عشر في عمارة شقته . جدران من زجاج فقط . يتأمل المغيب . لا شمس ، لا صباح ، لا مساء ، لا شروق ، لا مغيب ـ لا شيء هنا  كما في العراق . ” ( ص 97 ) ، و” يطير في فضاء لا زوردي حر ، بأجنحة الذكرى ، فوق دجلة ، فوق بساتين النخيل والخوخ والبرتقال والعنب والتفاح ، يختلط بالنوارس ، يتدحرج على بساط أخضر في الراشدية ، في سلمان باك ، يترك نفسه ينساب في زورق أمام شارع النهر ” ( ص 115 ) ، و ” حدّق من الشباك إلى الشارع . ما إن يراه يتذكر الراشدية ، بساتينها ، فواكهها”  ( ص 171 ) . وإذ تعلق بالطفلة آشلي ابنة صوفيا فإنما لأنه تذكر أهله وهاج به الحنين إلى ابنة اخته الصغيرة  .
وقد يجد الروائي من يأخذ عليه انه مال إلى التقريرية والمباشرة وهو يصف مجريات التظاهرة المعارضة للحرب ضد العراق حتى بتفاصيلها الثانوية معتمدا ً اسلوب التقرير الصحفي  .ولعل عذره في ذلك انه أراد أن يكتب وثيقة احتجاج على الحرب بشكل عام والحصار بشكل خاص  وسلسلة الحروب التي تعرّض لها العراق ، وليدين النزعة العدوانية التي لازمت الادارات الأمريكية مثلما يدين اولئك العراقيين المقيمين في الخارج من الذين حرضوا الادارة الأمريكية على احتلال العراق ( وقد وردت الاشارة إلى الذين قدموا مذكرة تدعو هذه الادارة للتعجيل  باحتلال بلدهم ) واولئك الذين لم يكلفوا أنفسهم عناء المشاركة في التظاهرات الاحتجاجية الساعية لنصرة بلدهم .
وعلى الرغم من بعض الميل للتقريرية والمباشرة التي قد يجد الروائي ما يبرر اعتمادها  بهدف التوثيق، فإن هذه الرواية ( التي تقع في 212 صفحة من القطع المتوسط وصدرت عن دار ضفاف في الشارقة ) ،حفلت في الوقت نفسه بمشاهد سردية مفعمة ببلاغة الوصف: ” قهقه بقوة . التصقت به من الخلف ، لكن وجهها قارب وجهه، فضاعت حواسه في أريجها  ومدى خضرة عينيها …… أحسّ بالرغبة تسيل من عينيها” ( ص101 ) ، و ” استيقظ في داخله الطفل الصغير المتشوق للمجهول  ” 0 ( ص 133 ) و ” شعّ جمالها شمسا ً محرقة ، هجينة …. فم بارز إلى الأمام تحت حنك ينحدر نحو العنق في انسجام وحشي ، متدفق تحرسه عينان سوداوان واسعتان ” (ص 140) .
ربما نختلف مع الروائي حول خاتمة روايته  فنحن نعتقد ان الرواية انتهت مع سماع منصف بأن سناء في السجن ، وبالتالي فان التفاصيل التي تلت ذلك بدت فائضة عن الحاجة لاسيما تلك التي ترتبط بالذهاب إلى مكتب المحامي ، لكننا مع ذلك نحترم قناعة الروائي بالخاتمة التي اقترحها لأحداثه فهو المسؤول  عنها أولا ً وأخيرا ً

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. صادق المخزومي  : قصيدة الرصيف للشاعر صباح أمين – قراءة أنثروبولوجية.

مقدمة من مضمار مشروعنا ” انثروبولوجيا الأدب الشعبي في النجف: وجوه وأصوات في عوالم التراجيديا” …

| خالد جواد شبيل  : وقفة من داخل “إرسي” سلام إبراهيم.

منذ أن أسقط الدكتاتور وتنفس الشعب العراقي الصعداء، حدث أن اكتسح سيل من الروايات المكتبات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *