د. حسين سرمك حسن : المحاور الشجاع والمفكّر الجبان

hussein sarmakقد يبدو هذا العنوان قاسياً . لكن لا يوجد غيره عنواناً يعكس حقيقة ما يجري ويفرّج عن النقمة والغضب الذي يعتصر القلب . فالنخبة المثقفة في بلادنا – في العراق وفي الوطن العربي – تشهد هزيمتها ، وتتراجع كل يوم أمام مدّ الوقائع الساحق الذي يكتسح كلّ شيء . ومن المفترض أن المثقف والمفكر هو الذي يتصدّى لهذه الوقائع والمتغيّرات واقفاً في الخط الأول أمام الجماهير . الآن نعيش هزيمة المثقف العربي الماحقة الفاضحة ، وأهم أسباب هذه الهزيمة تكمن في المثقف نفسه .. في هزال إرادته .. وفي نفاقه .. والأفظع في جبنه . وهو نتاج هذا الواقع المنافق المتناقض ، ولن تُفلح كل رقع القراءات والمجلّدات والمؤلّفات الضخمة والتصريحات الطنّانة في سدّ ثقوب البنية الكسيحة ولا في تغييرها . المشكلة أن العقلية العربيّة صارت متخصّصة في صنع الأكاذيب الثقافية : هذا مفكّر طنّان .. وذاك متظّر ونّان .. وهذا فيلسوف شعبان .
تحدّثتُ في سلسلة حلقات عن أنموذج هذا التخليق الفكري الزائف ممثلاً بواحد ممن يُسمّى بالمفكّر ، وتوضع عنه ليس الكتب بل المجلّدات كلّ يوم ، ويطبّل له كمحامي عن حقوق الإنسان العربي ، والكل شاهده وهو يقدّم مؤلفاته هديّة للطاغية القذافي على التلفاز . وقبل لقائه بالقذافي نشر مقالة عن جريمة القذافي في اختطاف وتصفية السيّد المجاهد موسى الصدر ورفيقه . هكذا يظهر النفاق صارخاً وتتعرّى البنية الكسيحة . ولكن كتابنا ومثقفينا الأشاوس مستمرون في تدبيج المقالات ووضع المؤلفات التي تمدح هذا “المفكّر” ، وتطبّل لفتوحاته الثقافية التي لا تزيد عن مجموعة مقاطع يلوكها في كل مناسبة بنفس الكلمات والحروف والمقاطع وكأنه يستلها من جيبه . راجعوا “مؤلفاته” وستجدون نفس المقاطع المكرّرة الباهتة التي أكل الدهر عليها وشرب ثم .. وقبل أيام عرضت قناة العراقية لقاءً مع “مفكّر” فالح في الفكر والتحليلات منذ أربعين عاماً خارج العراق . تنقّل بين دول العالم – إشتراكيّها ورأسماليّها – وحضر عشراات المؤتمرات والتقى بمئات الشخصيات الفكرية الأجنبية . وكلما جاء إلى العراق ارتفعت الطبول المفكر المفكر .. دير بالك عنه .
عودوا الآن إلى موقع قناة العراقية وشاهدوا اللقاء المؤلم والمفزع .. شاهدوا حال المفكرين العراقيين الأشاوس وتحليلاتهم . تصوّروا حواراً فكرياً فيه المحاور شاب شجاع .. بل يعبّر عن أقصى الشجاعة .. في حين أن المفكّر منافق وجبان . انتظرته الجماهير ليطل عليها ويعينها في محنتها بتحليلاته الفكرية ، وإذا برائحة النفاق الخانقة العفنة يشمها أبسط من شاهد اللقاء . خذ مثلاً : المحاور الشجاع يسأل “المفكر” : هل تؤثر المرجعيات الدينية على المواطن واختياراته ؟ فيجيب المفكر : كلّا .. المواطن هو الذي يقرّر !! . يعود المحاور الشاب ليسأل بصورة أكثر شجاعة عن أمور نعرفها نحن العراقيين جميعاً ويحاول سحب “المفكر” إلى الحق والفكر الحر : ألم تؤثر المرجعية حين قالت انتخبوا القائمة الفلانية ؟ فأجابه السيّد “المفكّر” : (كلّا .. المواطن يريد ينتخب أو يريد ما ينتخب) . ثم يلحّ المحاور على بديهية أن توجيهات المرجعية تدخل في باب الحلال والحرام .. ولا من مجيب . وهكذا سار اللقاء .
لاحظ أن هذا أسلوب روّاد المقاهي البسطاء أو باعة المخضّر (يريد يروح يريد ما يروح) بعيداً عن العوامل الإجتماعية والدينية والبنية النفسية واللاشعور الجمعي الديالكتيكي . وِلَكْ ما أثّرت فيك أربعون سنة من الجولان في العالم ؟ .. أبسط إسكافي يقول تؤثّر ، وأنت المفكّر تقول ما تأثِّر .. وين تحليلاتك .. وين مؤلفّاتك ..
تحيّة للمحاور الشاب الشجاع
و.. على المفكر المنافق الجبان ..

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

حــصـــرياً بـمـوقـعـنـــا
| رنا يتيم : إشكاليّة المثقّف والحداثة .

بطيئة كانت عجلة التاريخ فيما يتّصل بالابتكارات، والتحديثات. ثم كانت الثورة الصناعية، بمآزره فكريّة فلسفيّة، …

| حسن العاصي : قياس جديد لمواقف الأوروبيين تجاه الهجرة واندماج المهاجرين .

أصبحت الهجرة جزءًا من حقيقة الحياة اليومية للأوروبيين في دول الاتحاد الأوروبي. يوجد اليوم ما يقرب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *