شوقي يوسف بهنام* :

 

 

شوقي يوسف بهنام
شوقي يوسف بهنام

* مدرس – علم النفس
جامعة الموصل  
e-mail:-shawqiyusif@yahoo.com
e-mail:-shawqiyusif@hotmail.com      
علاقة الإنسان بعملية تعاقب الليل والنهار علاقة قديمة قدم الإنسان  نفسه . ونحن لا نريد ، هنا ، ارخنة لهذه العلاقة لأنها موضوع قد يطول بنا وقد يدخلنا في تفاصيل كثيرة ، نحن في غنى عنها ، وقد تجرنا ، كذلك إلى اقتحام ميادين معرفية قد .. بل من المؤكد .. انها تتجاوز مهمة هذه السطور . ومع ذلك فلا ضير .. البتة .. من الوقوف عند هذا الجانب أو ذاك قد يساعدنا ، بعض الشيء ، على فهم دلالات تلك العلاقة من جهة ورمزية كل من الليل والنهار بالنسبة لتصورات الخبرة الإنسانية . ومن المنطقي ان نبدأ بالمنظورات الإنسانية البحتة صعودا إلى المنظورات المرتبطة  بالدلالات الدينية المعروفة . وقد أطلق الإنسان مفردات كثيرة للدلالة على عنصري تلك العلاقة .. اعني الليل والنهار . وليس من شأننا أيضا ؛ الدخول في الاشتقاقات اللغوية لمفردات الليل (1)  . ومن خصائص الليل وصفاته ؛ الظلمة والعتمة والسواد وما إلى ذلك . ولقد أسهب عالم الانثروبولوجيا الفرنسي ” جيلبير دوران ”  في عدد من الصفحات كرسها لليل والظلمة وسوادها في كتابه المعنون ” الانثروبولوجيا ” حيث يقول ” يبدو الليل الأسود إذن وكأنه المادة الأساسية للوقت ، ففي الهند يدعى الزمن ” كالا ” وهذا اللفظ قريب جدا من ” كالي ” كما يعني كلاهما ” اسود ، قاتم ” بينما يدعى عصرنا الحديث ” كالي- يوغا ” أي ” عصر الظلمات . ذلك ما يدفع ميرسيا الياد لأن يلاحظ ان ” الزمن أسود لأنه دون منطق ورحمة ” وذلك ما يفسر أيضا لماذا يعتبر الليل مقدسا عند كثير من الشعوب مثل ” نيكس ” الهلينية وال ” نوت ” السكندينافية اللتين تمتطي كل منها عربة تجرها خيول سوداء واللتين تعتبران رمزين أسطوريين مخيفين ” .. والليل يجمع في مادته المشئومة كل التقييمات السلبية .. فالظلمات هي دائما سديم وصرير أسنان .. وحتى التعابير الشعبية تسمي ساعة الغسق ” بين الكلب والذئب ” … (2)  والواقع فان هذا الفصل ممتع في مادته من حيث إحاطته بالرمزيات المختلفة للظلمة وما كانت هذه العبارات غير عينة صغيرة فقط . أما في حضارات

بلند الحيدري بريشة فيصل لعيبي
بلند الحيدري بريشة فيصل لعيبي

الشرق أوسطية  فيحدثنا عنها الأب ” بولس الفغالي بما يلي ”  في العهد القديم .. في خبر الخلق ،  الظلمة هي خليقة الله تجاه النور في إطار الشواش الأولاني . وحتى في الظلمة المطلقة التي هي ظل الموت ، الله يستطيع ان يتدخل . فهو الذي كوّن النور وخلق الظلمة . وبالنسبة إليه لا تعود الظلمة ظلمة لأن النهار يخص الله والليل ويومه الاسكاتولوجي قد يكون ظلمة لا نورا . الظلمة قوة معادية تصيب الأشرار. فتصف كتابات قمران مجمل الشر ولكن حين يتدخل الله ، يرى الشعب نورا عظيما . وفي العهد الجديد فان الظلمة البرانية هي موضع العذاب للأشرار . في ساعة الموت ، رأى يسوع قوة الظلمة تعمل عليها . واستعاد بطرس في خطبته نبؤه يوئيل فتنقلب الشمس ظلاما لتدل على نهاية الأزمنة . وفي نظر بولس ، الاهتداء إلى الله هو عبور من الظلمة إلى النور وهو الذي سمى الخطايا ” أعمال الظلام ” . وفي مثوى الموتى تسود الظلمة والعتمة  (3) . وننتقل إلى التصورات الإسلامية لمفهوم الظلمة والليل وما يرتبط بها من مفاهيم ، حيث ينقلنا الباحث مالك شبل (4) إلى تلك التصورات على النحو التالي ”  يرمز الظلام الى عمى الكافر ، وهو في حالة “عدم الظهور المطلق ” وبكلام آخر هو العجز عن النفاذ  الى أسرار الخلق . يظهر المعنى في القرآن تحت صيغة نادرة : التكوير ،وهو عنوان السورة الحادية والثمانين ؛ يترجمها ” بلاشير ”  بمعنى الإظلام والتعتيم ، و” دنيزماسون ” بمعنى الحل ، الانفكاك . و ” جاك بيرك ” بمعنى ، وكلمة ديجور تؤدي معنى الظلام (5) . وللظلمة معنى يفيد بدايات الخليقة حيث لا وجود الا للذات الإلهية في الأزل قبل إشعاع التجلي (6).  وفي منظور الطب النفسي تستحيل الظلمة إلى موضوعا للرغبة والولع والعشق ويطلق عليها Lygophilia  ويعرفها الحفني على انها ” ولع يكاد يكون هوسا بالأماكن المعتمة ، وشغف مرضي بالأوقات التي يتخللها الظلام كأوقات الغروب ، أو عندما تغيب الشمس وراء السحب ، وميل قاهر إلى الظلال والألوان القاتمة ، ويكثر عن الشعراء والمصورين إلى حد ما ، والبعض قد يفسره بأنه استشراف للمجهول أو للعدمية ، وقد يعكس ميولا اكتائبية (7) . ومن وجهة نظر فلسفية يدخلنا الدكتور زكريا ابراهيم إلى صورة ميتافيزيقية عميقة عما يسميه ب ” تجربة الظلام ” حيث يقول” ان الليل هو تجربة ميتافيزيقية فيها نصطدم بذلك الحضور الثقيل الذي هو حضور الوجود العام ” (8) . ويستشهد هذا الباحث بأقوال الفيلسوف الفرنسي ” ميرلوبونتي ” الذي تحدث تجربه الوجود في الظلام وعلاقتها بالذات أو الأنا .   تلك إذن المفاهيم الإنسانية والدينية عن الظلمة ونحن قد توقفنا عندها لنتعرف على مفهوم ” بلند ” لها كما تصورها في منجزه الشعري . والواقع ان الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر متخمة ،إن صح التعبير ، بالمفردات الدالة على الظلمة ومرادفاتها . والباحث المختص يستطيع ان يضع جدولا لمعرفة انتشار تلك المفردات في هذه الإعمال . والمفردة التي استخدمناها هنا ،اعني مفردة متخمة ، هي اختصار لذلك الجدول . ولاشك في ان هذه الصفحات لن تغطي على كل المواقع التي ترد فيها مفردة ظلمة ومرادفاتها من مجموع منجزه الشعري .ولنبدأ رحلتنا مع الشاعر لنجوب عوالم ظلماته.
في المقطع الثاني من قصيدة ” نشيج ” يحدثنا الشاعر عن أحزانه الليلية فيقول:-
يا دمعتي
الليل قد خيمت أشباحه
في غرفتي البالية
لله
خليني إلى وحدتي
أبث للشمعة أشجانيه
فشمعتي شاعرة طالما
غنت لي النور بأجوائيه
تشكو لي النار
وأشكو لها
نارا ً
من الحب بخفاقيه
تصارع الليل فما ينتهي
كأنما الظلماء
أياميه
صفراء في اللون كطيف التي
وهبتها العمر
وأحلاميه
يا شمعتي ..
أمسك ِ الضر …أم ..
سرت بأحشائك أدوائيه
أم هذه الصفرة
من وجهها
تذكرة
تلهب أشواقيه
يا شمعتي
ماتت عهود الهوى
دفنتها في ليل أوهاميه
لم يبق من حبي
إلا صدى
مشوش
يرثي
لآماليه
(الأعمال الكاملة ، ص101 – 103)
***************************
بلند ينقلنا إلى خبرة ذاتية صرفة يعيش من خلالها علاقة مع المكان . ولكن لا  مكان بدون زمان . الا ان هذه العلاقة تعبق بروائح الماضي . بتعبير أدق فان الشاعر يتجاهل الحاضر ويتقهقر الى ماضيه المشوش . والخطاب الموجه الى الذات وهو ما يسمى في مفاهيم علم تحليل الخطاب Monologe  دونما وجود للآخر الموضوعي الخارج عن الذات أو ما يسمى ” المناجاة ” (9)  . فالشاعر يوجه ندائه إلى مجموعة من الأشياء التي تحيط به مثل الشمعة والغرفة ودمعته والليل الذي يلفها من كل جهة . والشاعر يعرف حق المعرفة ان لا جواب من هذه الأشياء . فهو بالتالي خطاب أحادي صرف . ومع ذلك فهو يستمر في تلك المناجاة لأنها وسليته الوحيدة للتفريغ الانفعالي لديه. هذه صورة واحدة لموقف بلند من الظلمة . في قصيدة ” لا شيئ هنا ” يصور لنا الشاعر أزمته في الوجود. لنقرأ القصيدة لنرى أبعاد تلك الأزمة . يقول الشاعر :-
ايه يا فجر صباباتي .. انته
لملم الآن صبابات المنى
كل شيئ قد طوى تاريخه
وانطوى في ظل عهد
موهنا
اتكا الماضي على أحلامه
يلعن الصمت
ويشكو الزمنا
وسيمضي اليوم محموم الخطى
يتمطى
فوق رجليه الضنى
توغل الظلمة في أيامه
وهو  كالأمس يصلي للسنا
( المصدر السابق ، ص 112- 113 )
*************************
أن الظلمة في هذا المقطع ستقترن بمستقبل الشاعر في هذا الوجود . ينبغي ان نلاحظ ان الشاعر موغل في اليأس  فالظلمة توغل في كل أيامه . بمعنى آخر .. كل أبعاد الزمان . لن نتجنى على الشاعر ونصفه بأنه صديق الحزن . ماضيه مظلم ..حاضره مظلم هو الآخر . مستقبله كذلك .يستمر الشاعر فيقول “-
كل ما في حاضري يصرخ بي
أيها المجنون …لا شيئ هنا .
(المصدر نفسه ،ص 113 )
**************************
هذه الأصوات التي تناهت إلى الشاعر هي حصيلة ذلك تلك الضغوط الحياتية والتجارب المؤلمة التي عاشها الشاعر .
أيها المجنون … لا شيئ هنا
************************
تلك هي المحصلة إذن ،وهي محصلة مؤلمة إلى حد كبير ، وذلك لسببين . السبب الأول هو تلك النهاية المفجعة للذات ؛ السقوط في دائرة الجنون . والسبب الثاني هو لا وجود لما كان يبحث عنه الشاعر هناك . فماذا ينتظر إذن . هل هناك من أمل يتوقعه الشاعر ؟.لنرى في مقطع لاحق كيف يرسم لنا الشاعر مسار الزمان…زمانه هو على وجه الخصوص :-
ها هو الحب يولي
هربا
لم يعد كالأمس
ان غارت به
مدية الحزن تغنى بالألم
ومضى ينسج من تلك الدما
خفقة النور وإلهام الظلم
وإذا ما الدهر أبلى أملا
كانت التوبة في جرح
ودم
كيف أمسى طلالا ً كابي الرؤى
وصحارى
من رمال …وعدم
كلما لذت بدنياه امحت
غير سطر قال : لا شيئ هنا
(المصدر السابق ، ص 113- 114 )
*************************
وواضح من المفردات التي يستخدمها الشاعر للتعبير عن مسار زمانه انها مفردات مفعمة بالتشاؤم والقنوط واليأس واللاجدوى في الوجود .اعني وجوده الخاص هو . ورغبة الشاعر الأساسية التي يتمحور عليها الشاعر ، هنا، هي ان يكون محبوبا من الآخر . والشاعر كثيرا ،على ما يبدو وكما سوف نلاحظ ذلك في مناسبة أخرى (10) يركز على قضية ان يكون محبوبا على وجه العموم من قبل الغير . فهو يعاني ويشكو من الهجر والتخلي والصد بل وحتى يصل الأمر به الى الخيانة . تلك المشاعر تندرج ضمن المشاعر التي تهيمن على الشخصية الفصامية من النوع الاضطهادي . ذلك النمط الذي يعاني من سوء فهم نوايا الآخرين إزائه . وفي أوج أزمة الشاعر هذه ، ينعدم الشعور بالزمان وديمومته عند الشاعر . لنرى ما هي علامات تلك العلاقة مع الزمان لديه :-
كل آمالي تلاشت
مثلما يتلاشى النور عند الغسق ِ
وتساوى الليل عندي
والضحى
رب ليل فجره لم يفق
أجرع الحزن كؤوسا ً
كلما
أفرغت أترعتها من أرقي
صوبت من كل صوب أسهم
لست ادري
أي سهم أتقي
وإذا استنجدت بالوهم
هوت
مدية الأحزان تفري مخنقي
(نفس المصدر السابق ، ص 114 – 115 )
********************
الجزء الأخير من هذا المقطع هو تناص مع قول المتنبي :-
أي محل ارتقي أي عظيم أتقي
وكل ما خلق الله وما لم يخلق
محتقر في همتي كشعرة في مفرقي
(ديوان المتنبي ، ج2 ، ص  32)
*****************
قول المتنبي هذا قاله مرتجلا في صباه وهو قول يفوح منه عبق نرجسي منقطع النظير . الصورة معكوسة عند شاعرنا .الإحساس بالاضطهاد هو المحور الذي يدور في فلكه الشاعر . بلند ، هنا ، يشعر بالتعاسة  من كل حدب وصوب . فتساوت الأمور لديه واختلطت المعايير عنده أوفي العالم المحدق به . كلا الاحساسين وارد ومحتمل . ضياع وفقدان المعايير في العالم يقود بالفرد الى عدم معرفة الطرق السليمة للتوافق معه . إذن شاعرنا يعيش أزمة ضياع وجودي إن صح التعبير . وتأثر الشاعر بالمفاهيم الوجودية لا يحتاج إلى جهد للوصول إليه . وهذا ما نراه في المقطع التالي حيث يقول :-
أيها التائه في ودياننا
ضل مسراك فلا شيئ هنا
(الديوان ،ص 115)
************************
فعلاوة على تيهانه في وديان هذا العالم فهو موقن كل اليقين بلاجدوى الوجود  . وهذا اليقين جاءه من نداء خارجي كذاك النداء الذي باغت الخيام في ساعة السحر وأيقظه من سباته الروحي فبدأ بالتساؤل الفلسفي عن وجوده في الوجود .وهاهو شاعرنا يعيش ذات الأزمة . لنرى كيف يرى شاعرنا نفسه .. اي ما هي صورته عن نفسه ؟ . يقول بلند :-
أنا إنسان كباقي الناس
لكن … ويح نفسي إنسان
تراني
ليس لي ماض ٍ
وما لي غير يوم
يرسم العمر على سود أغاني
وغدي
فوق يد الغيب دنى
لتهاويل رماد
ودخان
تخفق الأيام في راحته
بالأسى
بالذعر
بالصمت المهان
وسيمضي مثل يومي بددا ً
ذابل الأحلام مخنوق الأماني
(الديوان ،ص 116-117)
*****************************
لا أريد ان اعلق كثيرا على قوله ” ليس لي ماض ٍ ” . فالشاعر يجبرنا على ان نتبنى تأويلا مفاده ان ماضي الشاعر ملبد بالتعاسة . هل يخجل الشاعر من ماضيه إلى هذه الدرجة التي يوحي بها هذا المقطع ؟؟. هذا الخجل سينسحب إلى الحاضر والمستقبل . صورة بلند عن نفسه في الزمن صورة سلبية تماما . إذن ماذا هو ؟ هذا ما نراه في المقطع التالي :-
تتلوى في دمائي صيحة
أيها السادر لا شيئ هنا
(الديوان ، ص 117 )
*************************
إذن بلند ليس غير صيحة تتلوى في دمائه وهذه الصيحة لن تجد غير جوابا واحدا لا غير الا وهو:-
أيها السادر  لا شيئ هنا
************************
لنرى كيف يرسم لنا الشاعر صورته عن المستقبل …اعني مستقبله هو . وهذا ما نجده في المقطع الأخير من القصيدة . ها هو الشاعر يقول :-
وغدا للقبر تسعى قدمي
كي أريق العمر في مظلمه
ويبيد القدر الغافي على
قلبي المحموم بقيا حلمه
فإذا العالم
حس هامد
ترقص الظلمة في مأتمه
وإذا مرسم الهامي دجى
تنعب الديدان في مرسمه
كلما لج بها الجوع
مضت
تنحت الحكمة في أعضمه :
يا أخا الروح الذي استحقرنا
كل دنياك
بأيدينا
……هنا
أيها الإنسان يا  من دستني
دودة …. دنياك في كفي ….هنا
(الديوان ، ص 117-118)
********************
إذن تلك هي النهاية المفجعة التي ينتظرها الشاعر وذلك هو مستقبله في هذا الوجود . والشاعر في قرارة نفسه يرفض هذا المصير المخيف . لقد استخدم عبارة ” وغدا للقبر تسعى   قدمي ” للدلالة على ان هذا الخيار ليس من اختيار الشاعر .انه القدر والذي يصفه هنا ب ” الغافي ” والذي لا يملك ملكة الاختيار في مهمته . انه أعمى وحسب . كل هذا الإنسان الذي حلم “ماركس ” بتحريره وكان قد سماه ” انه أثمن رأسمال في الوجود سوف ينتهي بين كفي دودة !! . ونحن نعتقد ان حلم “ماركس ” هذا كان من الأحلام التي تبناها شاعرنا في ما بعد .ومن امتعاضه من تلك النهاية المخيبة للآمال له . وتلعب الظلمة هنا دورا مهما. فليست حياته الذاتية هي التي تسودها الظلمة بل العالم كله يرزح تحت نير الظلمة حتى في أدق تفاصيله . ان الشاعر يعيش حالة سأم  Boredomدائم (11) . فالعالم من حوله تلبده الظلمة وحياته من الداخل هي الأخرى مفعمة بالظلمة والخواء والفراغ واللامعنى حتى وصل به الأمر إلى ان يخاطب الفناء لكي تنهي تلك المهزلة . وهذا ما نجده في قصيدته المعنونة ” السأم ” . يقول الشاعر :-
يا طيوف الفناء هذي حياتي
دمريها
فقد سئمت الوجودا
بدَلي النور
بالظلام
ودوسي
تحت رجليك عمري المكدودا
فقد سئمت الحياة أطلال صمت
ودموعا
ينسجن حولي الشقاء
وركاما ً من الهموم الجواثي
فوق قلبي
تهده اعياء َ
(الديوان ، ص 127-128)
**************************
إذن فهذه هي أمنية الشاعر في تحديد نهايته المأساوية في هذا العالم . والشاعر يرى العالم الذي من حوله كسجن مظلم يزداد حلكة وظلاما يوما بعد يوم . فالنزعة التفاوئلية غائبة لديه ، بينما نرى روح التشاؤم هي المهيمنة  والسائدة لديه . وها هو في قصيدة الطبيعة الغاضبة وفي المقطع الأول منها على وجه التحديد يقول الشاعر :-
الليل جاث
والظلام مكشر عن نابه
والرعد يرعد كلما هتف السناء ببابه
فكأن خلف الليل
قلبا مل طول عذابه
سئم الدجى والوحشة الرعناء ملء
اهابه
سئم السكون تعربد الأشباح في محرابه
(الديوان ، ص 145)
***************************
الواقع فان الدارس لديوان الشاعر ” بلند الحيدري ” سيجد ، كما قلنا ، عشرات المفردات والعبارات التي يعج بها ديوان الشاعر والتي تدل على هيمنة فكرة الظلمة وسطوتها وهموم الليل وضغوطه على أنفاس الشاعر لدرجة لا يتسع فيها الحديث عنها في محاولة كهذه ولكن ذلك ليس بالعمل المستحيل لدى الباحث الذي يحاول رصد كل نصوص الديوان وقصائده .

الهوامش :-
1- معلوف ، لويس ، 1996  ، المنجد في اللغة ، انتشارت إسلام ، طهران ، ص 742-743 .
2- هذه العبارات موجودة في صفحة 66 ومن الفصل المعنون ” الرموز الظلامية ” من كتاب ” جيلبير دوران ” وهو بعنوان الانثروبولوجيا : رموزها وانساقها ،  وبترجمة : د. مصباح الصمد والمنشور من قبل المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع لعام 2006 ، ط2 ، ص 64-70 .
3- الأب ، الفغالي ، بولس ، 2003 ،المحيط الجامع في الكتاب المقدس والشرق القديم ، المكتبة البوليسية ، جونية ، لبنان ، ط1 ، ص 795 .
4- يقلل الباحث المغربي ” فريد الزاهي ” من أهمية عمل مالك شبل حيث يصفه بالعمل الصحفي أكثر من كونه بحثا علميا أكاديميا . راجع ؛
د . الزاهي ، فريد ، 1999 ، الجسد والصورة والمقدس في الإسلام ، أفريقيا الشرق ، لبنان ، المغرب ، ص 15 .
5- شبل ، مالك ، 2000 ، معجم الرموز الإسلامية ، دار الجيل ، بيروت ، لبنان، ص 198.
6- شبل ، مرجع سابق ، نفس الصفحة السابقة . وراجع مفهوم الظل في رمزيته الإنسانية ؛ د . خليل ، احمد خليل ، معجم الرموز ، 1995 ، دار الكتاب اللبناني ، بيروت ، لبنان ، ص 110 .
7- د. الحفني ، عبد المنعم ،2003 ، موسوعة الطب النفسي ، مكتبة مدبولي ، القاهرة ،ط 4 ،ج1 ، ص 363 .
8- د. زكريا ، ابراهيم ، 1962 ، تأملات فلسفية ، دار الآداب ، بيروت ، لبنان ، ص 201 .
9- مانغونو ، دومينيك ، 2008 ، المصطلحات المفاتيح لتحليل الخطاب ، ترجمة : محمد يحياتن الدار العربية للعلوم ناشرون ، بيروت ، لبنان ، ص 87- 88 .
10- ركزنا على هذا الموضوع في دراستنا المعنونة “صورة المرأة عند بلند الحيدري ” . وهو غير منجز بعد .
11- سوف نتناول ظاهرة السأم عند بلند الحيدري في مكان آخر .

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. صادق المخزومي  : قصيدة الرصيف للشاعر صباح أمين – قراءة أنثروبولوجية.

مقدمة من مضمار مشروعنا ” انثروبولوجيا الأدب الشعبي في النجف: وجوه وأصوات في عوالم التراجيديا” …

| خالد جواد شبيل  : وقفة من داخل “إرسي” سلام إبراهيم.

منذ أن أسقط الدكتاتور وتنفس الشعب العراقي الصعداء، حدث أن اكتسح سيل من الروايات المكتبات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *