حسين سرمك حسن: أخي عبد الخالق : وداعا … وسأكشف سرّك المقدّس

قبل عشرة أيام اتصل بي أخي وشقيق روحي ( عبد الخالق المختار ) قائلا هناك صحفية تلح علي من أجل لقاء صحفي ، فقلت له : وما الضير من ذلك ؟ هذه فرصة للتواصل مع جمهورك . قال : يا أخي أسئلة تقليدية : رأيك في الليل واللون الأسود .. شنو هاي . قلت وماذا تقترح ؟ قال : هل تتذكر الأسئلة التي وجهتها إلي في الأمسية التي أقمناها في الملتقى الثقافي العراقي . قلت : نعم . قال هذه نجعلها لقاء صحفيا موسعا وجميلا . قلت : هذا من كرمك ونبل أخلاقك . ولأنني أعرف عبد الخالق ومنذ سنوات طويلة بصورة تفصيلية فنا وحياة أكملت الأسئلة في نفس الليلة وأرسلتها إليه صباح اليوم التالي بعد أن أرسل لي عبد الخالق عنوان بريده الألكتروني الذي لم أكن أحتاجه بسبب تواصلنا المستمر ، وكان ستخدما إسم الشخصية التي قام بها في مسلسل ( مناوي باشا ) . فأجبته برسالة :

عبد الخالق ..والله أنت باشا في الفن والحياة .

ولمن لا يعرف عبد الخالق فهو باشا حقيقي في أخلاقه العالية وروحه الإنسانية العظيمة وبساطته وصدقه . هل تتذكر يا عبد الخالق تلك الأماسي التي كنت تزورني فيها في بيتي في حي الأمين وقت انقطاع التيار الكهربائي كي تتجنب ضغوط معجبيك في منطقتنا الشعبية وهم كثر ، يصحبك أخوك الشهم الرجل والبطل في الحرب والحياة ( عبد الهادي المختار ) الذي جمعتني به الحياة العسكرية والجوار السكني فكان خير أخ ورفيق . تتذكر وأنت تعرف الظروف الصعبة التي كنت أمر بها فتغمرني بأخوتك ونبل أخلاقك وكلماتك الطيبة وضحكتك الإنفجارية أحيانا والتي لا تناسب هدوءك الظاهر ؟ . هل تتذكر (عمر) الصغير الذي أحببته لسماره الحنطاوي وهو يقدم لنا الشاي وتقول : ( هذا حسين زغيّر ) ؟ . إني أعجب كيف تحدّث بعض زملائك الفنانين من الفضائيات وقالوا أنك كنت في وضع صحي جيد مؤخرا !! قبل خمسة أيام من وفاة عبد الخالق اتصل بي الفنان شداد عبد القهار وقال : أنا في دمشق الآن وفي طريقي إلى باريس غدا ويجب أن نلتقي . مرت سنتان ولم أر شداد بسبب مغادرتي بغداد إلى دمشق ، إلتقينا وسرنا وكان معنا النحات رضا ذياب والروائي سعد هادي والصديق علي جبوري . قال شداد : نتصل بعبد الخالق المختار لنسلم عليه ولا يرد . قلت له : عبد الخالق متعب جدا ولكن هو يرد علي ، سأتصل به أنا واتصلت بعبد الخالق فرد بصوت متحشرج ومتعب جدا وقال : دكتور أنا أعرف أن شداد ورضا وعلي في دمشق ولكني لا أستطيع الرد .. لم أجد عبد الخالق يائسا ومتعبا مثل هذه المرّة .. تحدث مع شداد واختصر المكالمة . في اليوم التالي اتصل بي عبد الخالق وقال أنا أعتذر لأنني أجيب على الأسئلة ببطء رغم أنني ( متونس ) بالأسئلة لأنها رائعة . في اليوم التالي اتصل مساء غير قادر على الكلام وقال : دكتور الهيموغلوبين مالي ( 6غرام ) .. وكطبيب فإن هذه النسبة خطيرة جدا لأن الحد الطبيعي لا يقل عن ( 13) غراما . كنت أشعر ولأول مرّة بأن عبد الخالق الإنسان الجبار قد أتعبه المرض هذه المرّة . لم أسمعه يتحدث بهذه الطريقة من قبل . حتى عندما التقيته وهو خارج من المستشفى مساء بعد أن انهار وغسلت كليته في أثناء تصوير مسلسل الباشا وكان يحمل ( الكانيولا ) في وريد كفه !! وعندما جلسنا في مقهى الروضة وسألته : هل يستحق الفن أن يموت الإنسان من أجله قال بابتسامة الواثق : نعم وأكثر . ولمن لا يعرف عبد الخالق المولود ببغداد المحروسة سنة 1960 ، والحاصل على بكالوريوس الفنون المسرحية ( التمثيل والإخراج ) بدرجة جيد من أكاديمية الفنون عام 1982 ، أقول أنه أنموذج للفنان المثقف ، فقد حصل على الماجستير بدرجة جيد جدا من الأكاديمية عام 1989وعمل مدرسا في معهد الفنون الجميلة / قسم الفنون المسرحية لعشر سنوات ( 1991-2001) ورئيسا لفرع التمثيل في المعهد لثلاث سنوات . قدم المختار أكثر من (20) عملا مسرحيا بدءا من سليمان الحلبي ومرورا بمكبث واللعبة والذيب وأنتيكونا وحبيبتي ديزدمونة وخمسة أصوات ( التي أدى فيها دور الراحل حسين مردان وحاز عنه على جائزة أفضل ممثل ) والأحدب وانتهاء بالمتنبي . أخرج للمسرح ( الخروج دخولا) للكاتب عبد الحميد الصائح ، و(مكبث) مناصفة مع الفنان ( شفيق المهدي ) . قدم (45) عملا تلفزيونيا بدءا من النعمان الأخير ومرورا بالهاجس والجرح وقضية الدكتور س ورجل فوق الشبهات وأشهى الموائد في مدينة القواعد ومناوي باشا ( جزئين) والملاذ آمن والسرداب والباشا والرحيل والإختطاف وأخيرا الحيدرخانة . مثل للسينما فيلم الحب كان السبب وفيلم حكاكه . نال جائزة الدولة التشجيعية عام 1996 عن دوره في الفيلم التلفزيوني ( الضيف ) وجائزة أفضل ممثل في المسرح عام 1997عن مسرحية خمسة اصوات، و جائزة الدولة للإبداع مرّتين 2001و2002 عن مناوي باشا والملاذ آمن . جائزة مهرجان القاهرة مرّتين 2000و2001  ، وجائزة مهرجان المسرح الأردني عن مسرحية ( الهجرة إلى الحب ) . وهو صاحب الرقم القياسي في تاريخ المسرح العراقي حيث عرضت مسرحيته ( الذيب ) أكثر من (100) يوم . وإنني أقدم هذه المعلومات استذكارا لمآثر العزيز الراحل ، ولأنني وجدت الكثير من الفضائيات العراقية لم تقدم سوى معلومات بسيطة وكأنها لا تملك أرشيفا عن الفنانين العراقيين . وحتى بعض الفنانين العراقيين لا يعرف أحدهم الآخر . وفي آخر أمسية عقدها له الملتقى الثقافي العراقي بدمشق قبل شهر وقدمته فيها أقسم عبد الخالق بصحته العليلة بأنه سيذهب مشيا على أقدامه إلى بغداد المحروسة . ماذا أقول أخي عبد الخالق وأنت تتركني هكذا وحيدا في الغربة .. كنت أخا وصديقا ومتكأ أيها الشريف الغيور .. ماذا أقدم لك ولمحبيك الآن سوى أن أكشف سرّك المقدّس الذي لا يعرفه سوى القلة من أصدق أصدقائك .. هذا السر سيزيد من عظمتك في عيون أبناء شعبك الذي أحبك وسيضاعف حجم خسارة شعبك لك عراقيا وطنيا غيورا قبل أن تكون فنانا معجزا .. هل تعلمون كيف أصيبت كليتا عبد الخالق بالعجز الذي دمّر حياته وسرق شبابه وأوصله إلى الموت ؟ .. كان عبد الخالق مقاتلا برتبة ملازم احتياط يدافع عن وطنه .. وفي إحدى المعارك الطاحنة أصيب عبد الخالق إصابة بليغة أدت إلى بتر جزء كبير من قدمه اليمنى وعانى من نزف شديد جدا .. ظل عبد الخالق ينزف ست ساعات حيث كانت وحدته على قمة جبل وتأخرت الطائرة السمتية التي تخلي الجرحى كثيرا بسبب القصف .. جف جسم عبد الخالق وبذرت جرثومة العجز في كليتيه .. فهل سمعتم عبد الخالق يتبجح بهذه البطولة يوما ما في لقاء أو حديث قبل الإحتلال ؟ .. هكذا يكون العراقيون الشرفاء البواسل الذين اختاروا تراب وطنهم المقدس إلى الأبد فاختارهم الله ليكونوا بجواره إلى الأبد في عليين بعد أن أشبعناهم قهرا ومرارة وكمدا .

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. زهير ياسين شليبه : الروائية المغربية زكية خيرهم تناقش في “نهاية سري الخطير” موضوعاتِ العذرية والشرف وختان الإناث.

رواية الكاتبة المغربية زكية خيرهم “نهاية سري الخطير”، مهمة جدا لكونها مكرسة لقضايا المرأة الشرقية، …

| نصير عواد : الاغنية “السبعينيّة” سيدة الشجن العراقيّ.

في تلك السبعينات انتشرت أغان شجن نديّة حاملة قيم ثقافيّة واجتماعيّة كانت ماثلة بالعراق. أغان …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *