” 11 ”
ــــــــــــــــــــــــ
مع فجر اليوم التالي كانت ” الإعصار ” ، قد
غادرت مياه شط العرب ، وسرعان ما راحت تمخر مياه الخليج العربي .
وعلى المائدة ، جلست ياسمين قبالة أبيها ، تتناول طعام الفطور ، دون أن تتفوه بكلمة واحدة ، ورمق همام الطباخ العجوز بنظرة سريعة ، ثم نظر إلى ياسمين ، وقال : نحن هنا .
وتململت ياسمين ، لكنها لم ترد ، فتساءل همام : أرى زهرتي صامتة ، ما الأمر ؟
وأشارت ياسمين إلى الطباخ العجوز بعينيها السوداوين ، وردت قائلة : اسأله .
وأسقط في يد الطباخ العجوز ، واستبدت به حيرة شديدة ، فضحك همام ، وقال : لا عليك ، أعرف أنها تمزح .
وحدقت ياسمين في الطباخ العجوز ، وقالت : أرأيت ؟ إنني أمزح .
ونهض همام ، وقال : إنني مشغول اليوم ، وقد أتأخر ، تناولي غداءك متى تشائين .
واكتفت ياسمين بهزة من رأسها ، دون أن ترد بكلمة ، ومضى همام ، يسير بخطواته المتثاقلة ، وخرج من القمرة، وعندئذ انحنى الطباخ العجوز على ياسمين ، وقال :بنيتي ، ارحميني من .. .فقاطعته ياسمين قائلة : أمرك ، شريطة أزور هندباد .. متى أشاء .
وتساءل الطباخ العجوز محرجاً : وإذا عرف أبوك ؟ بنيتي ، إنني رجل عجوز .
فردت ياسمين قائلة : لن يعرف .
فطامن الطباخ العجوز رأسه ، وقال : كما تشائين ، يا بنيتي .
ونهضت ياسمين ، وقالت : لا تزعل مني .
وابتسم الطباخ العجوز ابتسامة حزينة ، فحضنته.. ياسمين ، وقالت : إنني أحبك .
ورد الطباخ العجوز قائلاً : وأنا أيضاً أحبك ، كما أحببت المرحومة ..أمك .
وتلفتت ياسمين حولها ، وقالت : والآن أريد بعض الطعام لأخذه إلى هندباد .
فقال الطباخ العجوز : لا عليك ، لقد أفطر .
ولاذت ياسمين بالصمت حائرة ، فقال الطباخ العجوز : خذي له شيئاً من شربت الزبيب .
وهمت ياسمين أن تمضي إلى المطبخ ، فسبقها الطباخ العجوز إلى ذلك قائلاً: لحظة ، سأتيك بدورق من الشراب .
ودخل المطبخ ، وسرعان ما عاد بالدورق ، وقال : خذيه إليه ، إنه يحب شربت الزبيب كثيراً .
وأخذت ياسمين الدورق ، وقالت بامتنان : أشكرك ، أشكرك جداً .
وتطلع الطباخ العجوز إليها ، وقال بنبرة توسل : أرجوك ، يا بنيتي ، لا تتأخري .
واتجهت ياسمين إلى الباب المؤدي إلى القمرة الصغيرة ، وهي تقول : اطمئن ، لن أتأخر .
وفتحت الباب ، واجتازت الممر الضيق المظلم ، وطرقت باب القمرة الصغيرة ، فجاءها صوت هندباد من الداخل : تفضل.
ودفعت ياسمين الباب ، ودخلت حاملة دورق الشراب ، وقالت : جئتك بشراب تحبه ، شراب الزبيب .
ونظر هندباد إليها متسائلاً ، فأجابت قائلة : هذا ما أخبرني به الطباخ العجوز .
وأخذ هندباد الدورق منها ، وقال : هذا حق ، إنني أحب هذا الشراب ، أشكرك.
وجلس إلى المائدة ، وأضاف : لنشرب معاً .
وجلست ياسمين قبالته ، وقالت : أشرب بشرط .
وملأ هندباد قدحاً ، وقدمه لياسمين مبتسماً ، وقال : حسن ، اشربي .
وآخذت ياسمين القدح ، وقالت : لم تسألني عن الشرط .
وتناول هندباد قدحاً آخر ، وملأه بشراب الزبيب، وقال : أقبل شرطك مهما يكن .
فقالت ياسمين : أريد أن تحدثني عما جرى لك مع الربان ..همام .
ولاذ هندباد بالصمت لحظة ، ثم قال : حسن ، اشربي شرابك أولاً .
ورفعت ياسمين القدح ، وشربت ما فيه من شراب الزبيب ، ثم وضعت الكوب فارغاً على المائدة ، وتطلعت إلى هندباد ، وقالت : ها قد شربت الشراب ووفيت بالشرط ، حدثني .
” 12 “
ـــــــــــــــــــــــــــ
توغلت ” الإعصار ” في مياه الخليج ، وسرعان ما توارت اليابسة ، وصارت السفينة بين فضاءين من الزرقة ، مياه الخليج .. والسماء .
وكلما مرّت الأيام ، واقتربت الجزيرة ، كان قلق همام وتوتره يتزايدان ، وصار يقضي معظم وقته فوق ظهر السفينة ، وحين كان يضطر للعودة إلى القمرة ليلاً ، كان لا يكاد يغمض له جفن ، خاصة وأنه لم يستطع حتى الآن أن ينتزع من سندباد وعداً بالتعاون معه ، للحصول على الكنز.
لا أحد يعرف مكان الكنز غير سندباد ، فقد كان رهينة عند القراصنة ، عندما خبأوا الكنز في الجزيرة ، وما إن أقلعوا، وتوغلوا في البحر، حتى هبت عاصفة شديدة ، أطاحت بالسفينة ، وغرق كل من عليها ، عدا سندباد وقرش .
ولم يعرف قرش أين خُبئ الكنز ، لأنه ظل على السفينة ، عندما نزل القراصنة ، ومعهم سندباد ، وخبأوا الكنز .
ونفد صبر همام ، حين صارت الجزيرة على بعد ما يقرب اليومين ، فحزم أمره ، واتجه إلى قمرة سندباد ، ورآه قرش مقبلاً ، فأخرج المفتاح من عبه ، دون أن يتفوه بكلمة ، وأداره في قفل الباب.
ودفع همام الباب ، ودخل القمرة ، مربد الوجه ، ورمقه سندباد بنظرة خاطفة ، وأولاه ظهره ، ووقف يحدق عبر الكوة في البحر ، وخاطبه همام بنبرة حاول أن تكون هادئة : سندباد .
ولم يلتفت سندباد ، أو يرد بكلمة ، فتابع همام قائلاً : اسمعني ، يا سندباد .
وقال سندباد ، دون أن يلتفت : منذ فترة طويلة ، لم أر ياسمين .
وتابع همام قائلاً : نحن نقترب من الجزيرة .
وتجاهل سندباد ما قاله همام ، وقال متسائلاً : كيف حالها ؟
وصمت همام لحظة ، ثم أجاب : بخير .
وقال سندباد : لابد أنها الآن شابة .
فرد همام قائلاً : إنها تقريباً بعمر هندباد .
والتفتت سندباد إليه ، وقال : أنت لا تستحقها ، يا همام .
وصمت همام لحظة ، وقد بدا حزيناً منكسراً ، وتطلع إلى سندباد ، ثم قال : إنني مريض ، يا سندباد ، وقد لا أعيش طويلاً ، وما أفعله إنما من أجل ياسمين .. وحدها .
فقال سندباد : ياسمين بحاجة إليك أنت ، وليس إلى أي شيء آخر ، وخاصة بعد رحيل أمها ، وهي تضعها .
واحتد همام قائلاً : دعك من هذا ، يا سندباد .
فأقترب سندباد منه ، وقال : همام ، هذه الجزيرة مشؤومة، ولم يطأها أحد ، ونجا من الموت .
فرد همام قائلاً : أنت وطأتها ونجوت .
ثم أضاف ، وهو يتأهب للخروج : ولابد أن تنجو هذه المرة أيضاً ، فحفيدك هندباد معك .
وخرج صافقاً الباب وراءه ، والتفت سندباد منفعلاً ، وراح يحدق ثانية ، عبر الكوة ، في البحر
” 13 “
ــــــــــــــــــــــــــ
من أعلى سارية السفينة ” الإعصار ” صاح البحار المراقب ، مشيراً بيده إلى البعيد : الجزيرة .. الجزيرة .. الجزيرة .
وارتفعت ضجة فوق ظهر السفينة ، وراح البحارة يهللون فرحين ، ووقف عدد منهم قرب الحاجز ، يتطلعون إلى حيث يشير البحار المراقب ، الواقف في أعلى السارية .
واقبل همام من جناحه ، وصعد السلم على عجل ، ووقف بجانب الحاجز القريب من الدفة ، ونظر البحار المراقب إليه ، من أعلى السارية ، وهو يشير بيده : سيدي ، أنظر هناك ، تلك هي الجزيرة الكنز .
ونظر همام إلى حيث يشير البحار المراقب ، وإذا خط داكن من قمم الصخور ، وذرى الأشجار ، يلوح في الأفق البعيد ، فقال فرحاً : حقاً هذه هي الجزيرة ، جزيرة الكنز .
وتناهت الضجة والتهاليل إلى سندباد ، وهو راقد في قمرته ، فنهض بسرعة ، ووقف قبالة الكوة المطلة على البحر ، وراح يننظر إلى البعيد ، متذكراً الجزيرة التي دفنوا فيها الكنز .
وعند خط الأفق ، رأى الجزيرة ، تنهض بصخورها وأشجارها ، من أعماق البحار ، فهز رأسه ، وقال : إنها هي ، جزيرة الموت ، والويل لمن يطأها .
وسمعت ياسمين الضجة ، فخرجت من قمرتها مسرعة ، ورأت الطباخ العجوز يرتب الصالة ، فتساءلت بحيرة :ما الأمر ؟
ورد الطباخ العجوز قائلاً : لقد وصلنا الجزيرة ، يا المنشودة ، يا بنيتي .
وصاحت ياسمين : الجزيرة!
وانطلقت إلى الباب المؤدي إلى القمرة الصغيرة ، وهي تقول : لابد أن أخبر هندباد بالأمر .
وهتف بها الطباخ العجوز قائلاً : مهلاً يا عزيزتي ، قد يأتي أبوك في أية لحظة .
وفتحت ياسمين الباب ، دون أن تلتفت إليه ، واندفعت عبر الممر الضيق المعتم نحو القمرة الصغيرة ، ودفعت بابها وهي تصيح : هندباد ، لقد وصلنا الجزيرة .
ونهض هندباد ، وقال بصوت حزين : وما الفائدة ، ما دمنا أنا وأنت حبيسين .
وتطلعت ياسمين إليه ، وقالت بحماس : لن نظل حبيسين ، بعد الآن يا هندباد ، سننزل إلى الجزيرة ، مهما كلف الأمر .
وأطرق هندباد رأسه لحظة ، ثم قال : ياسمين .
وردت ياسمين مترددة : نعم .
فقال هندباد : لقد حدثتك عن نفسي ، وأريد أن تحدثيني ..
وقاطعته ياسمين ، وقالت محاولة التهرب : سأحدثك ، ولكن ليس الآن .
ثم اتجهت مسرعة إلى الخارج قائلة : فلأذهب قبل أن يراني أحد .
وفتحت الباب ، وأسرعت تجتاز الممر الضيق المعتم ، إلى قمرتها .
وفوق ظهر السفينة ، ووسط ضجة البحارة وتهليلهم ، تقدم همام ، ووقف قرب الدفة ، وصاح : أيها البحارة ..
وكف البحارة عن التهليل ، ووقفوا ينصتون ، فتابع همام قائلاً : سنرسوا الليلة قرب الجزيرة ، وغداً ، مع شروق الشمس ، سننزل معاً إلى الشاطىء الجزيرة ، استعدوا ، فقد وصلنا الهدف .
” 14 ”
ــــــــــــــــــــــــ
أفاقت ياسمين ، قبل شروق الشمس ، وأبوها مازال يغط في النوم ، ونزلت بهدوء عن سريرها ، وفتحت الباب ، وخرجت من القمرة .
وتوقفت لحظة في الصالة ، تنصت إلى الطباخ العجوز ، وتأكدت من انشغاله في إعداد الفطورفي المطبخ ، فمشت على رؤوس أصابعها ، وفتحت الباب المؤدي إلى القمرة الصغيرة ، وأسرعت تجتاز الممر الضيق المعتم ، ثم دفعت بهدوء باب القمرة الصغيرة .
واستيقظ هندباد على صوت الباب يدفع ، وفتح عينيه ، وإذا ياسمين تدخل القمرة ، فهب من فراشه متمتماً : ياسمين !
فردت ياسمين هامسة : لا ترفع صوتك .
ثم اقتربت منه ، وقالت : لقد أنزل أحدهم قارباً صغيراً إلى البحر ، ربما للاستكشاف ، تعال نأخذه ، ونذهب به إلى الجزيرة .
ولاذ هندباد بالصمت حائراً ، فأطبقت ياسمين على يده ، وجرته قائلة : هيا يا هندباد ، هيا بسرعة وإلا ضاعت الفرصة .
ونزل هندباد من سريره قائلاً : هيا .
وتسللا من القمرة ، عبر الممر الضيق المعتم ، إلى
الصالة ، وتناهى إليهما وقع أقدام الطباخ العجوز ، فأسرعا بالاختباء خلف المنضدة ، وأطل الطباخ العجوز من باب المطبخ ، وتلفت حوله ، ثم هزاّ رأسه ، وعاد إلى المطبخ .
وخرجت ياسمين وهندباد من وراء المنضدة ، وأسرعا على رؤوس أصابعهما ،مجتازين الصالة . وفتحت ياسمين الباب الخارجي ، وأطلت برأسها ، متلفتة يميناً ويساراً ، ثم التفتت إلى هندباد ، وهمست قائلة : لا يوجد أحد ، هيا .
وخرجت ياسمين من الصالة ، وخرج هندباد وراءها ، وأغلق الباب. ولمحا بحاراً ينزل السلم من حيث الدفة ، فتواريا على عجل، خلف كومة من الحبال . وتوقف البحار عند أسفل السلم ، متلفتاً حوله ، ثم دخل العنبر .
وأطلت ياسمين برأسها من خلف كومة الحبال ، وتلفتت حولها ، ثم قالت : البحارة في العنبر ، يتناولون فطورهم ، هذه فرصتنا ، فلنذهب .
وخرجا من خلف كومة الحبال ، وركضا بمحاذاة السياج . وتوقفت ياسمين ، عند سلم من الحبال ، يتدلى من أعلى السفينة إلى البحر ، وأطلت من الحاجز ، وقالت : هاهو القارب ، فلننزل من هنا .
وقبل أن يرد هندباد بكلمة ، تسورت ياسمين الحاجز ، وأخذت تنزل السلم . وما إن وصلت القارب ، حتى أشارت لهندباد قائلة : هيا يا هندباد ، انزل .
وتسور هندباد الحاجز ، كما فعلت ياسمين من قبل ، ونزل السلم ببطء ، حتى وصل القارب ، فقالت ياسمين : لنمض بالقارب إلى الجزيرة بسرعة ، قبل أن يكتشفوا أمرنا ، وتضيع الفرصة .
وجلست ياسمين وهندباد جنباً إلى جنب ، وأخذ كلّ منهما مجذافاً ، وراحا يجذفان بقوة ، وابتعدا بالقارب عن السفينة، متجهين إلى الجزيرة
” 15 “
ـــــــــــــــــــــــ
هب همام من نومه مرعوباً ، فقد سمع زوجته الراحلة تصيح من العتمة بصوت متشنج ، مستغيث : ياسمين .
وفتح عينيه ، وكاد يصعق ، حين لم يجد ياسمين في فراشها ، فارتدى ملابسه على عجل ، وأسرع إلى الصالة منادياً : أيها الطباخ .
وأقبل الطباخ العجوز من المطبخ ، وهو يمسح يديه المبللتين بمريلته ، وقال : سيدي .
وتلفت همام حوله قائلاً : أين ياسمين ؟ إنها ليست في فراشها .
وجحظت عينا الطباخ العجوز رعباً ، وتمتم : ياسمين !
وتململ حائراً ، ثم دبّ نحو القمرة الداخلية ، وهو يقول : لحظة سيدي ، لعلها في قمرتي .
وتساءل همام مستغرباً : قمرتك ! وماذا يمكن أن تفعل في قمرتك ؟
وتوقف الطباخ العجوز ، وقد أسقط في يده ، ثم قال متأتئاً : أقول يا سيدي .. ربما .
ثم فتح الباب ، وانطلق متعثراً عبر الممر الضيق المظلم ، إلى قمرته ، وسرعان ما عاد ، مكفهر الوجه ، وقال متأتئاً : سـ..سـ..سيدي .
فحدجه همام بنظرة غاضبة ، وقال : تكلم .
وقال الطباخ العجوز : سيدي .. هندباد أيضاً.. غير موجود .
ودمدم همام قائلاً : ماذا !
ثم اتجه بخطى واسعة نحو الباب الخارجي ، وهو يتساءل : ماذا يجري هنا ؟
ومضى إلى الخارج ، وصفق الباب وراءه ، ولم يعد الطباخ العجوز ، يقوى على الوقوف ، فتهاوى منهاراً على أقرب مقعد .
وخرج همام من جناحه ، وصعد السلم إلى حيث الدفة ، ووقف مطلاً على البحارة ، وصاح : أيها البحارة .. .
و أقبل البحارة مسرعين ، من مختلف أطراف السفينة ، ووقفوا أمامه منصتين ، فقال بصوت منفعل : ابنتي ياسمين، خرجت من قمرتها ، وربما خرج معها حفيد سندباد ، ابحثوا عنهما في كل مكان ، من السفينة ، هيا .
وعلى الفور انطلق البحارة مسرعين ، وبحثوا عن ياسمين وهندباد ، في كل طرف من أطراف السفينة ، دون جدوى .
ونزل همام السلم نافد الصبر ، وأقبل بحار من العنبر ، واتجه مسرعاً نحو حاجز السفينة ، فخاطبه همام متسائلاً : هل وجدتوهما !
وأطل البحار من الحاجز قائلاً : لحظة ، سيدي . فصاح به همام : ماذا تفعل أيها الأحمق ؟
والتفت البحار إليه ، وقال : سيدي ، لقد كلفتني ليلة أمس أن أنزل قارباً لاستكشاف الجزيرة ، وقد أنزلته فجر اليوم إلى البحر ، وهو غير موجود الآن ، لقد اختفى .
وأسرع همام ، وأطل من الحاجز ، ولم يجد للقارب من أثر ، ونظر البحار نحو الجزيرة ، ثم صاح ، وهو يشير بيده : سيدي ، أنظر ، القارب هناك ، فوق الشاطئ .
ونظر همام ، حيث أشار البحار ، ورأى القارب فعلاً ، فوق الشاطئ ، فصاح بالبحار ، وهو يتجه نحو قمرة سندباد : نادِ البحارة جميعاً ، وانزلوا القوارب ، سنذهب فوراً إلى الجزيرة .
وانطلق البحار نحو العنبر قائلاً : سمعاً وطاعة ، سيدي .
وما إن رأى قرش همام مقبلاً ، حتى أخرج المفتاح من عبه ، وأداره في القفل ، ودفع همام الباب ، ودخل القمرة .
ونهض سندباد ، محدقاً في همام ، دون أن يخاطبه بكلمة ، فقال همام : البحارة ينزلون القوارب ، سنذهب بعد قليل إلى الجزيرة .
فرد سندباد قائلاً : هذا الأمر لا يعنيني .
وقال همام : بل يعنيك بقدر ما يعنيني ، إن هندباد ، وابنتي ياسمين ، فوق الجزيرة وحدهما الآن .
وجحظت عينا سندباد متمتماً : ماذا !
فتابع همام قائلاً : لقد أخذا القارب الصغير ، صباح اليوم ، ومضيا به خلسة .
وحدق سندباد فيه غاضباً ، وقال : سأقتلك ، يا همام ، إذا أصيب هندباد بمكروه .
ثم أسرع إلى الخارج قائلاً : هيا ، فلنمض ِ ، قبل فوات الأوان .
” 16 “
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
قفز هندباد وياسمين من القارب ، حين وصلا إلى الشاطئ ، وسحبا القارب الصغير قليلاً فوق الرمال ، حتى لا تجرفه الأمواج .
وتراكضا متضاحكين ، متقافزين وسط المياه المندفعة فوق رمال الشاطئ ، وتوقفت ياسمين لاهثة ، والريح تطاير شعرها الأسود ، وتوقف هندباد قربها ، متقطع الأنفاس ، ومدّ نظره إلى أعماق الجزيرة ، وقال : لا أعتقد .. أن هذه الجزيرة .. مأهولة .
وألقت ياسمين نظرة إلى الأشجار الكثيفة ، وقالت ، وهي مازالت تلهث : من يدري ، لعلها تعج بالحيوانات المفترسة.
وضحك هندباد قائلاً : يا لخيالاتك ، إنها جزيرة صغيرة وسط البحر .
وتطلعت ياسمين إلى السفينة الراسية بعيداً عن الشاطئ ، وقالت : فلنبتعد ، ونتوغل بين الأشجار ، قبل أن يلحقوا بنا.
وأسرعت بالابتعاد ، متجهة نحو أجمة كثيفة الأشجار ، وما لبث هندباد أن أسرع في أثرها ، وتجولا بين الأشجار ، متوغلين في الغابة ، حتى أنهكهما التعب ، وتوقفت ياسمين ، لاهثة متقطعة الأنفاس ، وقالت : لنرتح هنا قليلاً.
وتوقف هندباد بدوره ، وقال : حسن ، لنجلس تحت هذه الشجرة الضخمة .
وتهالكت ياسمين جالسة تحت الشجرة ، وجلس هندباد إلى جانبها ، وساد الصمت ، ولم يعد يسمع غير أنفاسهما المتقطعة ، وحفيف أغصان الأشجار، وتكسر الأمواج فوق الشاطئ .
وأسندت ياسمين رأسها إلى جذع الشجرة ، وقالت : آه ليتني أعيش هنا .
وتساءل هندباد مازحاُ : وحدك ؟
فردت ياسمين : لا .
وتساءل هندباد ثانية : ترى من سعيد الحظ الذي سيكون معك !
ولاذت ياسمين بالصمت ، فقال هندباد : لو سألتني هذا السؤال ، لأجبتك على الفور .
والتفت إليها ، ثم قال : ياسمين ، انظري إليّ .
فردت ياسمين قائلة ، وقد توردت وجنتاها : لا أستطيع الآن ، يا هندباد .
وصمتت برهة ، ثم قالت : هندباد .
فرد هندباد قائلاً : نعم .
وقالت ياسمين : أنت لا تعرف حتى الآن ، من أكون .
فقال هندباد : أعرف أنك ياسمين ، وهذا يكفيني .
وفتحت ياسمين عينيها البنيتين ، وتطلعت إليه برهة ، ثم قالت : أنا ابنة .. الربان .
وندت شهقة عن هندباد : همام !
فهزت ياسمين رأسها ، وقالت : نعم ، همام .
وصمتت لحظة ، ثم قالت : إذا تمنيت البقاء في هذه الجزيرة الآن ، فستتمنى البقاء فيها وحدك .
وعلى الفور ، رد هندباد : أنت ِ واهمة ، فلن أتمنى البقاء هنا بدون .. ياسمين .
وهربت ياسمين بعينيها السوداوين ، وقد توردت وجنتاها ثانية ، وسرعان ما نهضت قائلة : لنستأنف سيرنا ، ونصعد إلى قمة هذا المرتفع .
ونهض هندباد بدوره ، وقال : ما رأيك أن نتسابق حتى القمة ؟
وتأهبت ياسمين للسباق قائلة : حسن ، هيا .
وانطلقا يتسابقان متضاحكين ، وسبق هندباد ياسمين ، ووقف ينتظرها عند حافة القمة ، وتعثرت ياسمين ، قبل أن تصل الحافة ، فمد هندباد يده ، وأطبق على يدها ، وصعدت ياسمين لاهثة ، ووقفت إلى جانبه ، وسحبت يدها من يده بهدوء ، وقالت : أهنئك ، لقد سبقتني .
وابتسم هندباد ، دون أن يرد بكلمة ، وعبت ياسمين الهواء ملء صدرها ، ثم رفعت يديها عالياً ، وراحت تدور حول نفسها قائلة : هندباد .. هذه الجزيرة جننتنا و .. .
وسكتت ياسمين ، وقد تشنجت أنفاسها ، فتطلع هندباد إليها ، وتساءل : ما الأمر ؟
فأشارت ياسمين إلى الطرف الثاني من الشاطئ ، وقالت : أنظر .
ونظر هندباد إلى حيث أشارت ياسمين ، وإذا سفينة راسية قريباً من الشاطئ ، فتساءل مذهولاً : ترى لمن هذه السفينة !
وهنا برز عدد من البحارة ، يتطاير الشر من عيونهم ، وأحاطوا بهندباد وياسمين من كل جانب ، وتقدم الربان من بينهم ، وقال : هذه سفينتنا .
ولاذ هندباد وياسمين بالصمت ، وقد أذهلتهما المفاجأة ، وقالت ياسمين متوسلة : أرجوكم ، دعونا وشأننا .
وتساءل هندباد بشيء من الحدة : ماذا تريدون ؟
فرد الربان قائلاً : اطمئنا ، لا نريد إيذاءكما .
ونظر إلى سفينة همام ، ثم قال : إن ما نريده شيئاً آخر ، وسنأخذه بأي ثمن .
” 17 ”
ـــــــــــــــــــــــــ
أنزل البحارة القوارب إلى البحر ، واتخذوا أماكنهم فيها ، وقد تدججوا بالسلاح . وأقبل همام وسندباد ، وما إن رآهما المساعد ، حتى نزل السلم ، وأسرع إلى همام ، وقال : سيدي ، لقد نزل جميع البحارة إلى القوارب .
وتوقف همام عند حاجز السفينة ، حيث السلم المصنوع من الحبال ، وقال : ابق في السفينة أنت و ..
والتفت إلى قرش ، فقال الأخير : لا ، أرجوك سيدي ، لا أريد أن أبقى في السفينة هذه المرة .
فرد همام قائلاً : لا بأس ، تعال معنا .
والتفت إلى سندباد ، وقال : هيا ، يا سندباد ، انزل قبلي .
وتسور سندباد الحاجز ، دون أن يتفوه بكلمة ، ونزل السلم إلى القارب المخصص للربان ، ونزل بعده همام ، وأعقبهما قرش ، وعندئذ صاح الربان : لنمض الآن إلى الجزيرة ، تحركوا .
وتحركت القوارب ، مبتعدة عن السفينة ، يتقدمها قارب الربان ، شاقة طريقها نحو الجزيرة ، ولاح القارب الصغير، ونهايات الأمواج تأرجحه فوق رمال الشاطىء .. فخاطب همام البحارة المجذفين قائلاً : ذاك هو القارب ، اتجهوا نحوه بسرعة .
وحالما وصلوا الشاطيء ، قفز همام من القارب ، وتبعه سندباد وقرش ، وسرعان ما نزل جميع البحارة من قواربهم ، وسحبوها فوق الرمال ، بعيداً عن مياه البحر .
وسار سندباد ، محدقاً في الرمال ، ثم توقف ، وقال : هذه آثار أقدام هندباد وياسمين .
وتطلع همام إلى آثار الأقدام ، وقال : نعم ، إنها آثار أقدامهما .
ثم التفت إلى البحارة ، وخاطبهم قائلاً : لنبحث عن ياسمين وهندباد ، فلابد أن نعثر عليهما أولاً ، اتبعوني .
وسار همام وسندباد ، متتبعين آثار الأقدام ، وسار الجميع وراءهما، وتوقف همام بعد حين ، محدقاً في الرمال ، ثم قال : يبدو أنهما غادرا الشاطىء من هنا ، وتوغلا في الجزيرة .
وتتبع سندباد الآثار بدوره ، وقال : أنت محق ، لنتبع آثارهما .
وترك همام وسندباد الشاطىء، وسارا يتقدمان البحارة إلى أعماق الجزيرة ، حتى انتهيا بهم إلى الشجرة الضخمة ، وحدق همام في الأرض ، ثم قال : لقد توقفا هنا .
وصمت برهة ، ثم رفع رأسه ، وقال : ترى أين عساهما قد ذهبا ؟
وتلفت سندباد حوله ، وتطلع إلى أعلى المرتفع ، ثم قال يبدو لي أنهما صعدا هذا المرتفع ، وذهبا إلى الطرف الثاني من الجزيرة .
ونظر همام بدوره إلى الأعلى ، وقال : من يدري ، لعلك على حق ، وإلا فأين هما ؟
وتطلع همام إلى الأعلى ثانية ، ثم التفت إلى سندباد ، وقال : إنني متعب جداً ، لنرتح قليلاً ، قبل أن نصعد هذا المرتفع .
وقال سندباد : ارتح أنت ، وسأصعد المرتفع مع بعض البحارة .
فرد همام قائلاً : كلا .
وجلس في ظل الشجرة الضخمة ، وقال : سنصعد المرتفع جميعاً بعد قليل .
” 18 ”
ــــــــــــــــــــــــ
أطل بحار فتيّ ، من وراء صخرة ، في أعلى المرتفع ، وراقب بحذر همام وسندباد وقرش والبحارة الآخرين ، وهم يتسلقون المرتفع لاهثين ، ثم انسل عائداً إلى الربان ، المتواري وراء إحدى الأشجار ، وقد أحاط به بحارته ، وقال بصوت خافت : سيدي ، إنهم يقتربون من القمة .
وابتسم الربان بخبث ، وقال : أهلاً بهم ، سيصلون القمة بعد قليل منهكين ، وبذلك يسهل علينا أسرهم ، والتحكم فيهم .
ثم التفت إلى البحارة ، وقال : اختبئوا خلف الأشجار ، حتى أشير لكم .
وعلى الفور ، اختبأ الجميع خلف الأشجار ، ولزموا الصمت ، حتى لم يعد يُسمع فوق المرتفع غير حفيف أغصان الأشجار ، وتكسر أمواج البحر عند صخور الشاطىء .
وواصل همام وسندباد صعودهما ، ومن ورائهما قرش وبقية البحارة ، حتى بلغوا أعلى المرتفع ، وقد هدهم التعب.
وتوقف همام متقطع الأنفاس ، وقال : يا إلهي .. سأموت .. من التعب .
وهنا برز الربان ، من وراء إحدى الأشجار ، وقال : ستموت يا همام ، ولكن ليس من التعب .
ومد همام يده إلى مقبض سيفه ، وقال مذهولاً : عنبر !
وابتسم الربان عنبر ، وأشار لبحارته قائلاً : عنبر .. وبحارته .
وبرز البحارة من وراء الأشجار ، وسيوفهم تتلامع في أيديهم ، وتابع عنبر قائلاً : لقد سبقتني إلى سندباد ، فتبعتك دون أن تشعر ، من البصرة إلى هذه الجزيرة .
وشهر همام سيفه ، وقال بحدة : هذه الجزيرة ستكون مقبرة لك ولبحارتك ، يا عنبر .
ورد عنبر قائلاً : قبل أن تجرب سيفك المنهك ، دعني أريك شيئاً .
وأشار بيده ، فبرز بحار من وراء شجرة قريبة ، يدفع أمامه هندباد وياسمين ، وهما مكممان ، وجحظت عينا همام ، وصاح : ياسمين .
وفي الوقت نفسه ، صاح سندباد : هندباد .
ولوح عنبر بسيفه قريباً من هندباد وياسمين ، وقال : كنزاكما في يدي .
وقال همام مهدداً : أطلق سراحهما .
فرد عنبر قائلاً : مقابل الكنز .
ولاذ همام بالصمت حائراً ، فنظر عنبر إلى سندباد ، وقال : ما قولك أنت يا سندباد ؟
وحدق سندباد فيه ، ثم قال : قولي يا عنبر ، إن هذا الكنز مشؤوم .
ورد عنبر قائلاً : لن تخدعني بهذه الخرافات ، الكنز ، أو كنزاكما .
ورمق سندباد همام بنظرة خاطفة ، ثم قال : سأدلكم على الكنز بشرط .
وتبادل همام وعنبر نظرات مترددة ، دون أن ينطقا بكلمة ، فقال سندباد : تقتسمان الكنز ، النصف لكل منكما ، هو وبحارته .
فقال همام : أوافق .
وقال عنبر: وكذلك أنا .
ثم قال لسندباد : وأنت يا سندباد ؟
فرد سندباد قائلاً : يكفيني أن أعود بحفيدي هندباد إلى أمه .
وصمت لحظة ، ثم قال : والآن أطلق سراح هندباد وياسمين .
فرد عنبر : لم أر الكنز بعد .
وقال سندباد : ستراه يا عنبر .
فقال عنبر : حين أراه ستراهما حرين .
وسكت لحظة ، ثم قال : هيا يا سندباد ، لا داعي للانتظار ، قدنا إلى الكنز .
وألقى سندباد نظرة خاطفة إلى هندباد وياسمين ، ثم سار بعزم ، وأخذ يهبط المنحدر ، وهو يقول : اتبعوني .
وسار الجميع في أثره ، همام وبحارته من جهة ، وعنبر وبحارته من الجهة الأخرى .
” 19 ”
ـــــــــــــــــــــــــــ
انحدر سندباد من أعلى المرتفع ، والجميع يتبعون خطاه ، حتى انتهى بهم إلى الشاطىء ، وتوقف عند صخرة غريبة الشكل ، تشبه سلحفاة ضخمة ، وحدق عنبر فيه متسائلاً : لماذا توقفت ، يا سندباد ؟
فأشار سندباد إلى بقعة بجانب الصخرة ، وقال : إن ما جئتم من أجله .. هنا .
وصاح همام وعنبر معاً : الكنز !
فهز سندباد رأسه ، وقال : نعم ، الكنز .
وتململ الجميع متحفزين ، وكل مجموعة تراقب المجموعة الأخرى ، وتتهيأ لكل طارىء ، فقال سندباد : مهلاً ، لقد اتفقنا جميعاً، ولن ينقض أحد منّا الاتفاق .
وحدق عنبر في همام ، وقال : من جهتي ، أنا أعطيت وعداً.
وقال همام : وأنا عند وعدي .
فقال سندباد : حسن ، أقترح أن يختار كلّ منكما بحارين من بحارته ، ليقوموا بالحفر .
وأشار همام إلى بحارين من مجموعته ، وكذلك فعل عنبر ، وتقدم البحارة الأربعة ، وبدأوا يحفرون ، ويلقون الرمال جانباً ، وسرعان ما اصطدمت المجارف بشيء صلب ، فرفع أحد البحارة رأسه ، وصاح : الصندوق .
فصاح به همام : احفر .
وأعقبه عنبر صائحاً : احفروا ، وأزيحوا الرمال عن الصندوق .
وواصل البحارة الأربعة الحفر ، حتى ظهر الصندوق تماماً، فقال سندباد : كفى ، ارفعوا الصندوق من الحفرة .
وألقى البحارة الأربعة المجارف ، ورفعوا الصندوق من الحفرة ، ووضعوه جانباً ، وحدق عنبر في همام ، ثم خاطب سندباد قائلاً : سندباد ، افتح أنت هذا الصندوق .
فتطلع سندباد إليه ، وقال : لا ، أطلق سراح هندباد وياسمين، وليفتحا هما الصندوق .
وأشار عنبر إلى البحار ، وقال : فك وثاقيهما .
وفك البحار وثاق هندباد وياسمين ، فأشار سندباد إليهما ، وقال : تعالا ، افتحا الصندوق .
وتقدم هندباد وياسمين ، وفتحا الصندوق ، وجمد الجميع مصعوقين ، فبدل الذهب والفضة والأحجار الكريمة ، كان الصندوق مليئاً بالرمال والحصى ،
وتساءل همام : ما هذا !
وركل عنبر الصندوق ، وتبعثر ما فيه من رمال وحصى ، وصاح : إنها خيانة .
وهنا صاح قرش : وأنا أعرف الخائن .
وأستل خنجره ، وأندفع نحو سندباد صائحاً : وخنجري .. الذي سيثأر لعيني .. سيدلكم عليه .
واندفع همام ، متصدياً لقرش ، وهو يقول : مهلاً ، أيها الغبي ، سندباد آخر من يخون و ..
وشهق مصعوقاً ، إذ تلقى طعنة قرش بدلاً من سندباد ، وقال بصوت متحشرج : آه .. أيها اللعين قتلتني .
وصاح عنبر : اقبضوا عليه .
وقبض بحارة عنبر على قرش ، وشدوا وثاقه ، بينما تهاوى القبطان همام على الأرض ، مضرجاً بدمائه ، وأسرعت ياسمين إليه ، وارتمت عليه تصيح : أبي .. أبي .
ورفعها سندباد ، مبعداً إياها عن أبيها ، وأسرع هندباد وأخذها جانباً ، وهو يغال دموعه ، وقال : تعالي هنا ، يا ياسمين .
وانحنى سندباد على همام ، وسحب الخنجر من صدره ، وألقاه بعيداً ، ثم قال : سآخذك معي إلى البصرة ، يا همام ، وأعالجك حتى تشفى .
وتطلع همام إليه بعينين ذابلتين ، وقال بصوت متحشرج : سندباد .
وردّ سندباد : نعم .
وأستطرد همام بصوته المتحشرج : لدي كنز .. لا أستطيع .. أن أعهد به .. إلى أي إنسان .. في العالم .. غيرك .
فقال سندباد : ابنتك .. ياسمين ..
وهزّ همام رأسه ، فتابع سندباد قائلاً : ياسمين .. ابنة أخي .
وبدا الارتياح على همام ، وقال : آه .. الآن أستطيع .. أن أرحل .. مرتاح البال .
وانطفأت عيناه ، ومال رأسه ، حتى استقر فوق صدره ، ونهض سندباد ، وقال بصوت دامع : رحل القبطان .. رحل همام همام .
وارتمت ياسمين ثانية فوق أبيها ، وانخرطت في البكاء ، وأستل عنبر سيفه غاضباً ، وقال : الموت للقرش .. الموت للقاتل .
وأعترضه سندباد قائلاً : لا ، يا عنبر ، هناك عقاب أكثر عدلاً .
وتساءل عنبر وسيفه في يده : ماذا تعني ؟
فرد سندباد قائلاً : هذه جزيرة معزولة ، لا يزورها أحد ، فليبق قرش هنا مع همام .. حتى النهاية .
” 20 ”
ــــــــــــــــــــــــ
مالت الشمس للغروب ، فنهضت ريحانة من مكانها المعهود ، فوق المرتفع المطل على شط العرب ، وقفلت عائدة إلى البيت .
وقبل أن تعد عشاءها ، قدمت العشاء للديك ، ولمعت في عينيها ابتسامة حزينة ، حين تذكرت أباها سندباد ، يفز فجراً على صياح الديك ، ويقول منزعجاً : لن أنام مرتاحاً، إذا لم أذبح هذا الديك ، وسأذبحه في يوم قريب .
وجلست في الغرفة ، تتناول عشاءها ، دامعة العينين ، وعلى عادتها ، في هذه الأيام ، لم تكد تأكل بضعت لقيمات ، حتى كفت عن تناول الطعام ، ورفعت الصينية ، وعادت بها إلى المطبخ .
وحين خرجت من المطبخ ، سمعت الديك يصيح ، فتوقفت لحظة في الفناء ، وقالت في نفسها : حقاً إنه ديك مجنون .
ودخلت الغرفة ، وجلست في فراشها وحيدة ، وسرعان ما أخذتها أفكارها بعيداً ، وتراءى لها سندباد .. وهندباد ، فغرقت عيناها بالدموع ، وكادت تنشج ككل يوم ، فنهضت وشربت قليلاً من الماء ، ثم أوت إلى فراشها .
وأغمضت عينيها ، لعلها تنام قليلاً ، وترتاح بعض الشيء ، لكن .. وككل مرة ، هبت أسئلة مضببة من أعماقها ، حاصرتها بدواماتها ، وكأنها دوامات إعصار ، وطردت عنها النوم .
ترى أين ذهبا ؟
أين اختفيا ؟
هل انشقت الأرض وابتلعتهما ؟
أم أن مياه شط العرب قد .. ، وطرق الباب .. فتنحت الأسئلة المضببة جانباً .. أهي تحلم ، وإلا فمن يطرق بابها في مثل هذا الوقت ؟
وطرق الباب ثانية ، فهبت من فراشها ، وفتحت الباب ، وإذا هي وجهاً لوجه مع سندباد.. وهندباد .. وفتاة في عمر هندباد ، وفتحت فمها على سعته ، وقد جحظت عيناها ، دون أن تستطيع التفوه بكلمة واحدة ، فابتسم لها سندباد ، وخاطبها كمن يوقظها من النوم قائلاً : ريحانة .
واستيقظت ريحانة ، وانفجرت تتساءل بصوت دامع : أبي ! أين كنت ؟
فرد سندباد مازحاً : وأين عساي أكون ؟ لقد قلت لك ، سأذهب وآتيك بهندباد ..
واندفع هندباد إلى أمه ، فاحتضنته بقوة ، وراحت تقبله ، فتابع سندباد قائلاً : وها أنا قد أتيتك به ، ومعه .. ياسمين .
وتطلعت ريحانة ، من خلال دموعها ، إلى ياسمين ، وتساءلت : ياسمين !
فرد سندباد قائلاً : طالما تمنيت أن يكون لك بنت .. وها قد أتيناك ببنت .. وأي بنت .. و ..
وصمت لحظة ، ثم قال : الحديث يطول ، لندع هذا الآن ، إنني جائع .
وهنا رجّ الديك البيت بصوته المرتفع : كو كو .. ريكو .
فقالت ريحانة مبتسمة : سأذبح لك هذا الديك ..
وتساءل سندباد : أهذا الديك اللعين ما زال حياً حتى الآن ؟
وتنحت ريحانة قليلاً ، وقالت ضاحكة : تفضلوا ، أدخلوا .
ودخل سندباد وهندباد وياسمين ضاحكين ، وأحكمت ريحانة إغلاق الباب .
في اليوم التالي لم يصح الديك ، بل إنه لن يصيح ثانية ، وكيف يمكن أن يصيح ، وقد انتهى عند نهاية .. رحلة السندباد البحري الثامنة ؟
15/ 8 / 2000