لقد استولت ، حينا من الزمن ، هواجس الجنون على شاعرنا ، فتخيل نفسه يمشي في المدينة عاريا وما من احد اقترب لستر عورته !!!(1) . وقد رسم الشاعر من خلال تلك الهواجس صورة لمستقبله .. ذلك المستقبل الذي لا افق له .. والشاعر إذن ، وبهذا المعنى ، يعيش المتاهة بعينها .. متاهة ما بعدها من متاهة . وهاهو يجسد في نص آخر هذه الهواجس ، ولكن هذه المرة يلقي اللوم Blame على مدينته ، والتي هي علاوة على تصحرها فانها بعيدة كل البعد عن احلام الشاعر وطموحاته وعذاباته . دعونا نستكشف هذا التصحر بدأ يدب في مدينة الشاعر . ها هو يقول :-
هذا أنا ،
وهذه مدينتي ،
عند انتصاف الليل
رحابة الميدان ، والجدران تل
تبين ثم تختفي وراء تل
وريقة في الريح دارت ، ثم حطت ، ثم
ضاعت في الدروب ،
ظل يذوب
يمتد ظل
وعين مصباح فضولي ممل
(الديوان ، ص 188)
******************ذلك إذن هو التصحر الذي بدأ يتغلغل في كل مكان من اماكن مدينته . والشاعر يعيش هـّم ذلك التصحر ؛ فهو والمدينة على طرفي نقيض . لا حياة في المدينة .. صفير الريح هو الصوت الوحيد الذي يدوي في ازقتها . واوراق الشجر تتطاير وتتناثر هنا .. وهناك .. تقذفها الرياح حيث تشاء . الآخرون اين هم ؟ . لا احد يمر في شوارع المدينة وكأني بهم اموات . تحملهم اجساد لا غير . هم مثل الدمى الموقوتة . الظلمة هي ذلك الحضور البهي في المدينة ، لا يزعجها سوى عين مصباح فضولي ممل . هناك حارس ليلي غبي . وياله من وصف جميل قدمه لنا الشاعر عن تلك المدينة البائسة . ماذا سوف يحرس هذا الحارس الغبي في تلك المدينة ؟ يالها من مفارقة .. حارس غبي يحرس المدينة . والادهى من ذلك هو انه يعترض شاعرنا التائه الوحيد ..الغريب ويسأله من انت يا .. من انت . يقول الشاعر في المقطع التالي :-
دست على شعاعه لما مررت
وجاش وجداني بمقطع حزين
بدأته ، ثم سكت
(الديوان ، ص 189)
***********************
الشاعر هنا في ثورة امتعاضية ورافضة لظلمة المدينة وتصحرها . لا ندري صبر الشاعر على حالة الظلمة تلك ؟ . من المؤكد انه صرف زمنا لذلك .. حتى نفذ ذلك الصبر لديه فطفح به الوجدان وجاش . جااش بمقطع حزين حيث انتهى حالما بدأ . ان المدينة عند الشاعر لا تعني مدينة معينة ، فهي قد تكون رمزا للامة أو الحضارة أو التراث أو القيم السائدة في ذلك التراث . وهذا المعنى هو الذي نقترحه لمفردة المدينة . المهم هنا هو ان الشاعر لم يلتزم الصمت أو اللامبالاة إزاء مايراه . انه ليس مثل ساكني المدينة الآخرين .. انهم بنظره ؛ أموات وأسرى لتلال المدينة وكثبانها المغمورة بالرمال . لكن ان احتجاجه وامتعاضه كان قصير المدى ولم يبلغ مداه . يستمر الشاعر بوصف مسيرته تلك .. حيث يقول :-
من أنت يا … من أنت ؟
الحارس الغبي لايعي حكايتي
لقد طردت اليوم
من غرفتي
(الديوان ، ص 189)
*******************
لقد تجلت الآن جوهر حكاية حجازي التي يعيها حارسه الغبي هذا . ومثلما تكون المدينة رمزا اكبر من مدلولها المألوف ، سيكون معنى الحارس الغبي رمزا للقمع الجمعي والحضاري الذي يعيش اعبائه الشاعر . هنا ، في هذا المقطع نقلة في توجيه الاحتجاج والرفض والامتعاض . ان الحارس الغبي لم ولن يفهم حكاية الشاعر . لقد تصور هذا الحارس ؛ أنه في حضرة متشرد عادي .. متسول كبقية المتسولين الآخرين .. مجنون تائه .. شخص فقد هويته لانه فاقد الذاكرة .. ولهذا فمن المنطقي ان يلاحقه بالسؤال :- من انت ؟ ومن المؤكد ايضا ان هذا الحارس الابله لم يكتفِ بهذا السؤال بل حاول ان يجره ويدفعه وان يضع القيود في يديه وان يأخذه الى المكان المعروف لهؤلاء .. يقول الشاعر :-
وصرت ضائعا بدون أسم
هذا أنا ،
وهذه مدينتي ! (2)
(الديوان ، ص 189)
*******************
لم يفهم الحارس الغبي إذن ان الشاعر لم يكن كما سولت له ظنونه . اعني لم يك متسولا أو مشردا أو مجنونا .. بل كان مطرودا من غرفته .. من مدينته .. قد يعترض احدهم بالقول ان هناك قاسما مشتركا بين الشاعروبين أولئك الذين يلاحقهم هذا الحارس الغبي .. الا وهو الطرد .. من حضرة الاخر .. أليس لاولئك ايضا حكايات واخبار .. حكايات لايعرفها حارسنا الغبي هذا . وقد تكون هذه الحكايات اقسى من حكاية شاعرنا .. من يضمن لنا ان حكاية الشاعر هي وحدها تختلف عن سائر الحكايات . وانها هي الحكاية الوحيدة التي لم يفهمها الحارس الغبي . قد تكون خاصية مهمة في حكاية الشاعر لا نجدها في حكايات أولئك الآخرين . ان اولئك لم يتركوا لنا نصوصا مثلما فعل الشاعر . نصوصا تحمل رموزا واستعارات لها دلالات ومعاني مفتوحة . ولذلك يقي نص الشاعر يحمل بين جوانبه خطابا ، على الرغم من ضياعه في نهاية الأمر . الا انه خطاب زعزع صمت المدينة واشعل النيران بوجه ظلمتها …
الهوامش:-
1- راجع دراستنا المعنونة ” حجازي عاريا ” .
2- حجازي ، أحمد عبد المعطي ، الديوان ، د. ت . (دون تاريخ النشر ومكانه) .