إشارة :
ستقوم أسرة موقع الناقد العراقي بإعادة نشر بعض مقالات المبدع الكبير الراحل “حسين مردان” بين وقت وآخر ، لأنها وجدت فيها تشخيصا دقيقا وحيّا للكثير من أمراض الثقافة العراقية في الوقت الحاضر ، الأمر الذي يجعلها متجددة برغم رحيل مردان منذ أكثر من أربعين عاما ! هي دعوة للقراءة والتأمل في افكار المبدع حين يكون صادقا .
المقالة :
لا اريد ان اتحدث عن حرية الفكر فليس في هذا البلد من يفهم معنى هذه الكلمة غير القليل من المثقفين،لا اريد ان اتكلم عن القيمة الاخلاقية كرموز تختلف وتتطور معانيها ومدلولاتها حسب روح العصر ومتطلبات المدنية ولست اريد كذلك أن ادافع عن نفسي اذ يخيل الي اني لا استطيع ان اثبت سلامة نيتي للرأي العام كما اثبت ذلك امام المحاكم ولست اريد ان اتحدى بهذا المقال ادباء الجهل أو اثارة ضجة جديدة انما كل الذي أود عرضه هو أن الشاعر والشاعر بصورة خاصة غير مخير في نهج الطريق الذي يحدد له المنطق او السلوك العام او الازمات الاجتماعية وذلك لان الشاعر يلتصق بنفسه ويعيش في اعماقه اكثر مما يعيش بين الناس فهو اكثر ذاتية من الأديب أو القصاص. فالاديب مثلا يستطيع ان يبدع في مجال العاطفة والاجتماع والسياسة دون ان يتعمد التكليف أو يتنكب الاخلاص اما الشاعر فلا يستطيع ذلك ابدا،حيث انه يعتمد على احاسيسه وتجاربه وانفعالاته الخاصة اكثر مما يعتمد على المشاهدة والبحث كما يفعل (الأديب أو القاص أو الفيلسوف) هذا عدا الفرق الكبير بين(الشاعر والاديب)من ناحية الموضوع فالشاعر يتحدى الفكرة الشعرية ويبحث عن التجربة الموحية بينما باستطاعة الاديب ان يكتب في كل موضوع كما ان الناقد يختلف عن الشاعر والاديب معا اذ انه يعتمد على الذوق الفني وحده اذا ما استثنينا الأسس الفنيةالتي يتخذ منها الناقد حجة او شاهدا في بعض الاحيان والشاعر اذن ابن تجاربه واحاسيسه وانفعالاته أكثر مما يكون ابن مجتمعه او بيئته.فانا مثلا اشعر بنير الاستعمار واقاسي كل الشقاء الذي يقاسيه ابناء مجتمعي ولكني لااستطيع التعبير عن ذلك بشعري كما يستطيع الاستاذ الجواهري والسبب هو انني لم امارس السياسة ولست أملك من التجارب الخاصة والخبرة بمثل هذا الموضوع مما تؤهلني لقول قصيدة (ستالينغراد) وللسبب نفسه استطيع ان اقول ان حضرة استاذنا الجواهري لايستطيع ان يأتي بقصيدة كقصيدة(….) للشاعر بشارة الخوري وللسبب نفسه ايضا لايستطيع الخوري ان يأتي بمثل قصيدتي(زرع الموت) وقد حدث ان جربت الشعر الوطني ونشرت أكثر من قصيدة وطنية ولكني لم أجد في نفسي القوة على الاستمرار في مثل هذا النوع من الشعر إذ إن ثقافتي وطبيعتي وتجاربي بل ان مكونات حياتي لاتكفل لي النجاح في هذا الميدان وذلك لان عنصر الاخلاص وحده لايكفي لخلق عمل فني عظيم اذ كان الفنان غير ملم بنواحي موضوعه وعارف بخفاياه وغير متغلغل في اعماقه وجذوره واود ان اذكر بهذه المناسبة ماحدث بيني وبين الشاعر(الاخ صالح بحر العلوم) فقد التقينا صدفة في جلسة ادبيةفي(مقهى الرشيد)فوجه لي الشاعر بعض اللوم ولكن باسلوب رقيق ثم لم يلبث ان تطور اللوم والعتاب الى جدل عميق امتد منذ (الساعة العاشرة صباحا حتى الساعة الثالثة والنصف بعد الظهر).فقد كان الاخ(بحر العلوم)يريد من الشاعر ان يطرق كل موضوع ويتناول كل فكرة.وعلى الاخص الفكرة العامة التي لاتصلح في رأيي ان تكون موضوعا شعريا على الاطلاق وقد دفعتني رقة الشاعر ورحابة صدره الى مجاراته كثيرا واعترفت له بحاجتنا الى الشعر القومي في مثل هذه المرحلة التي تمر بها الامة العربية وانني ساخط على نفسي لاني لم اخلق من نفسي شاعرا وطنيا يعبر عن آلام الشعب وآماله ولكن الاخ(بحر العلوم)يريد اكثر من ذلك، يريد من الشاعر أن يكون صحفيا يعرض المشكلة ويبسط اسبابها ويشرح علاجها بينما اعتقد ان واجب الشاعر هو تصوير المشكلة أو الفكرة فقط وعلى القارئ ان يبحث عن الاسباب وطرق العلاج…والآنؤلندخل المرحلة الثانية من موضوعنا وهي كيف تتحكم تجارب الشاعر وملابسات حياته وغرائزه المتناقضة وان مهمة الانسان الأولى في الحياة هي تهذيب غرائزه وتوجيهها بحيث تنسجم وتخضع لعادات وتقاليد المجتمع الذي يعيش فيه والا فهو مخلوق شاذ فقد قيمته الاجتماعية بخرقه العرف والنظام.ولكن لو أخذنا أي رجل شاذ وخاصة أذا كان من ذوي الميل الى الفن واستعرضنا خبايا حياته بدقة وعناية لتكشف لنا الموجبات والدوافع العميقة لشذوذ هذا الانسان وتمرده.وقد ندرك ان المجتمع هو دائما أو في أكثر الحالات السبب في علة هذا الشذوذ، فالانسان إذن هو ليس المسؤول الوحيد عن شذوذه بل قد يكون غير مسؤول على الاطلاق، ولو بحثنا مثلا في حياة(نتشه) او(اوسكاروايلد) او(روسو) لوجدنا في حياة كل واحد من هؤلاء حادثة خارقة أو عاطفة غامضة كانت هي السبب في تحديه وخروجه على المألوف:ولما كنت ممن دفعهم المجتمع بهذه التهمة فسأحاول أن اعرض شيئا من حياتي الخاصة لحضرات القراء الاعزاء لعلني أحظى منهم ولو ببعض العذر.كنت ثالث طفل ﻷم قاسية جامدة العاطفة وأب سكير ضعيف الارادة رقيق الشعور الى حد الافراط،فجئت مزيجا من الضعف والقوة وخليطا عجيبا من الرقة والقسوة،وقد حاولت كثيرا أن أوفق بين متناقضاتي فلم استطع لذا كنت(مشكلة العائلة)التي لاتحل حتى قررت والدتي بالاتفاق مع شقيقتي الكبرى بطردي من البيت باعتبار أن ذلك هو العلاج الوحيد لكي أصبح رجلا قويا في المستقبل.ومنذ ذلك اليوم بدأ ينمو باعماقي ذلك(المسخ البشع)الذي تمخض أخيرا عن(حسين مردان)(الشاعر الملعون(.
*- العالم العربي- الاحد 15- تشرين الاول- 1950 السنة 27- العدد 7115.