تتأسس البنية السردية لرواية ” ذاكرة أرانجا ” للروائي محمد علوان جبر ، على استحضار الذاكرة واستنطاقها ، ليمارس الاسترجاع دورا ً محوريا ًفي تكامل هذه البنية ، مصحوبا ً بحالات ترحال في الزمان والمكان تكشف عن معالم تحوّلات الشخصية وهي تحوّلات فكرية أو اجتماعية أو نفسية أو سلوكية ، إلى جانب تعدد أصوات الروي وتداخلها بالشكل الذي يملي ضرورة الاحتفاظ بيقظة المتابعة لتجنب مواجهة التشابك بين هذه الأصوات. ولعل في مقدمة ما يحتسب جديدا ً في هذه الرواية ان الروائي يخرج على الأطرالتقليدية للسرد مع انحسار واضح لرقعة الوصف والحوار وهما من مقومات السرد التقليدي .
تقع هذه الرواية في 227 صفحة من القطع المتوسط وقد صدرت عن دار فضاءات في عمان ، وتأتي بعد مجموعتي الروائي القصصيتين : “تماثيل تمضي ـ تماثيل تعود ” (2001) و” تفاحة سقراط ” ( 2005 ) . وأرانجا التي وظفها الروائي في عنوان روايته انما هو الإسم التاريخي لمدينة كركوك التي يقول عنها أحد أبطال الرواية انها : ” مدينة الحيوات ، مدينة الضجيج اللامتناهي ، مدينة لا علاقة لها بالأشياء رغم انها مدينة كل الأشياء ، مدينة الحجر والماء ….. في كل مدينة جديدة أدخلها لا تبرح مدينتنا الحجرية مخيلتي .. انها معي دائما ً ترافقني في كل مكان أذهب اليه .. أراها في كل المدن .. ” ( ص 9 ) ولكي يؤكد بعدها التاريخي يورد بعض أسمائها القديمة . ويشي قوله هذا بان سحر هذه المدينة يبسط سطوته عليه وقد ظل هذا السحر يصاحبه في حلّه وترحاله . ويخيّل لمن يقرأ هذا القول ان كركوك بتاريخها وما صاحبها من أحداث ستكون في مركز البؤرة السردية ، لكنه ما يلبث أن يكتشف ان الروائي اتخذها اطارا ً عاما لأحداث روايته لاسيما ان جزءا ًفقط من هذه الأحداث وليس كلها ، وقع فيها .
واذا كنا قد اخترنا الحديث عن معالم تحوّلات الشخصية الروائية هنا فسنتوقف عند شخصيتين رئيسيتين من شخصيات الرواية ونتتبع ما رافقهما من تحوّلات ، وهما شخصية الأب وشخصية الإبن .
تنشطر شخصية الأب إلى شخصيتين باسمين مختلفين : شخصية حسن كنيهر وشخصية هوبي عبد الرزاق ، وسيشغل كل منهما شطرا ً من حياة الأب . نشأ حسن كنيهر في( المجرية ) من أرياف العمارة وكان في مطلع شبابه يعمل في الرعي وحدث أن التقى براعية مراهقة ويبدو انه أغرم بها فاستفزذلك أخوتها فخيّروه بين الموت قتلا ً أو ترك القرية وفق ما يمليه العرف العشائري ، وكانت هذه هي نقطة البداية في تحوّله الاجتماعي والنفسي معا ً . لقد دبّرت أمه أمر رحيله فأوصلته ، مختبئا ً تحت عباءتها ، إلى الشارع العام المؤدي إلى البصرة حيث يعيش بعض أقاربها . ولاشك في ان هذا التحوّل المكاني المهين وارتحاله عن أهله دون رغبته قد أحدث شرخا ً في نفسه فلم يتوان عن ممارسة اللصوصية مع أقارب أمه الذين كانوا يسرقون الأقمشة العائدة للهنود والانكليز من مخازن الميناء .وحدث تحوّل آخر في حياته لكنه نفسي هذه المرة حين أحبّ نجمة قريبة أمه ، وما لبث أن أصبح وسيط تهريب اللؤلؤوالأحجار الكريمة بين البصرة وبغداد . لكن التحوّل المهم في شخصيته طرأ حين تعرف في الفندق الذي حل فيه في بغداد على شكيب عبد الستار وهو طالب جامعي شيوعي الاتجاه فأحدث نقلة نوعية في تحوله فكريا ً هذه المرة . لقد فتح شكيب عينيه على بغداد وخفاياها وقاده إلى بيت مشبوه في منطقة حافظ القاضي فذاق طعم الجنس لأول مرة في حياته . أما شخصية هوبي عبد الرزاق فهي شخصية دخيلة ، منتحلة ، طارئة على حسن كنيهر تطفلت على حياته السابقة لأمر خارج عن ارادته فصار سلوكه مزدوجا ًبسببها .أراد حسن كنيهر أن يتطوع في الجيش لكنه لم يكن يملك بطاقة شخصية باسمه فوجد نفسه مضطرا ً لأن يشتري بطاقة شخصية مسروقة باسم هوبي عبد الرزاق يسّرت له أمر تطوعه . فكان أن خضع لتحوّل سلوكي : من سارق ووسيط تهريب إلى عسكري يلتزم بالانضباط بصرامة مخلفا ً وراءه ماضيه الذي تستر عليه وفتح صفحة جديدة من تاريخ حياته ، لكن هذه الصفحة ما لبثت أن تعرضت للتشويه من جديد حين صار في مواجهة مأزق غير محسوب وجد نفسه معه في السجن حين تبرع بمبلغ ضئيل ، بدافع التعاطف الانساني ، لعسكري زميل له اعتقل في شباط 1963 فصار هو أيضا ً متهما ً بالانتماء إلى خلية شيوعية ونال سنة ً سجنا ً بسبب ذلك . واذا كان شكيب عبد الستار قد أحدث التحوّل الأول في وعيه فانه وجد فيه وفي شخصية سامر الذي التقاه في سجن كركوك ، نموذجين ايجابيين جعلاه يقترب من الشيوعيين ، لكن موقفه منهم ظل متذبذبا ً موزعا ً بين حبه لهم وحقده عليهم لأنه كان يحمّلهم مسؤولية ما واجهه من متاعب . وانتهى به المطاف إلى أن يتخلى عن كل شيء ويرتدي الكوفية والعقال في اشارة إلى ارتداده إلى الماضي والعودة إلى الجذور ، وهو تحوّل ألغى ما سبقه من تحوّلات كما أفصح عن هشاشة شخصيته بفعل تعدد هذه التحوّلات التي عاشها .
أما الابن إبراهيم فيكاد يكون الشخصية المركزية في الرواية ومحط اهتمام الروائي الذي لعله استمد هذه الشخصية من شخصيته هو لاسيما ان إبراهيم ظهر على مستوى واضح من الثقافة وهو ما يميز شخصية الروائي فعلا ً . ولاشك في ان التجارب الحياتية التي يمر بها المرء تشكل أساسا ً للتحوّلات التي تستجد عنده . لقد مرّ إبراهيم بتجربتين حياتيتين في مرحلة شبابه أسهمتا في بلورة ما طرأ من تحوّلات سلوكية ونفسية عليه تمثلت أولاهما في مشاركته في الحرب الطاحنة بما صاحبها من مآس ٍوأهوال ” في تلك الأيام كانت الجبهة تغلي ولا تعني شيئا ً آخر غير الموت، تلك الأشياء المتساقطة علينا بلا حساب ” ( ص 187 ) و ” مررنا بأكثر مآزق حياتنا ضيقا ً .. حرب بلا معنى ” (ص 188 ) و ” لا شيء يثير دموعي أكثر من من رائحة الجبهة وتلك التوابيت التي تمرق كالسهام ملفوفة براية الوطن ” ( ص 189) . وليس غريبا ً أن ترسخ صورة الموت في ذاكرته فيحدث هذا التحوّل النفسي في داخله والذي ظل يرافقه فيما بعد . أما التجربة الثانية فتتمثل في ذهابه إلى بيروت بحثا ً عن عمل في سفرة امتدت سنتين خسر بسببها حبيبته أسماء التي ملّت الانتظار فتزوجت غيره بعد أن تحوّل عنها على مايبدو وأحب الأربعينية العراقية روز ماري صاحبة صالة العرض التي أقام معرضه فيها . ولعل في طبيعة المناخ الاجتماعي والفكري والثقافي والنفسي في مكان اقامته الجديد ( بيروت ) واختلافه عن مكان اقامته السابق ( بغداد ) ما أحدث هذا التحوّل لديه وهو تحوّل أحدث شرخا ً في روحه .
كان إبراهيم قد عاش رجولة مبكرة حين وجد نفسه مسؤولا ً عن اعالة اسرته بعد تعرض أبيه للسجن . وشكّل تحمله المبكر للمسؤولية نقطة التحوّل الرئيسية في حياته وقد ترك ذلك بصمته على سلوكه تجلى في التصدي لصلافة عريف الانضباط هاتو الذي كان يعامل ذوي السجناء والموقوفين في سجن كركوك بصلافة . وقد ظلت صورة الحادث راسخة في ذاكرة أبيه الذي كان يراقبه عندما زاره في السجن ليوصل له المؤونة : ” رأيت طفولتي التعيسة وهي تسير في الممر المعتم، بقيت بعيدا ً عن مدى رؤية الوجه الهلع.. مبتعدا ً عن الضوء الساقط من السقف مخترقا ً مشبكات الحديد التي تحيط نوافذ دائرية ….. وبقيت هذه الصورة عالقة في ذهني إلى يومي هذا ” ( ص 11 ) .
يقول عنه أخوه سلام انه رسام وموسيقار وشاعر وخطاط . فهوإذن متعدد المواهب ويختزن قدرا ً واضحا ً من الثقافة مع ان الروائي لم يشر إلى مصدر هذه الثقافة أو مستوى تحصيله الدراسي ربما لأنه رأى ان ذلك انما هو تحصيل حاصل . وتؤكد هذا القول الإشارات التي تخللت بعض مفاصل الرواية كاطلاق أسم إجلايا ( وهي احدى شخصيات ” أبله ” ديستويفسكي ) على ابنة عمه أسماء ثم رسم لوحة لها أطلق عليها اسم ( إجلايا ) وكان قد اختار لها الرواية لتقرأها .واستعار “عيون الزا ” من أراغون وحولها إلى “عيون إجلايا ” في الرسائل ــ القصائد التي كان يكتبها لابنة عمه من بيروت . ولعل في لغة السرد التي اعتمدها محمد علوان جبرما يؤكد سعة اطلاعة وتنوع قراءاته . لقد كتب مقاطع كثيرة من روايته بلغة تقترب من لغة الشعرمثل قوله : ” الفجر في المدن التي تزورها أول مرة يشبه التلصص على امرأة جميلة من ثقب صغير ، الاقتراب قليلا ً من بعض أسرارها دون علمها ” أو ” ولكي نكون قريبين من بعضنا البعض ، أنا ودمشق ، تسكعت كثيرا ً في شوارعها مستنشقا ً الضوء من شمس نيسان وهي تلامس وجهي قبل أن تدخل مستودع مخيلتي التي كانت تحلق في ذلك الفجر ” ( ص 196 ) ، أو ” انبعث الضوء خيوطا ً من وسط اللوحة نحو النافذة المهيمنة عليها بحسدها الطري الذي رأيته يرتعش في أماكن معينة من خارطة الجسد الممتزج مع كتلة الضوء المنبعثة من اللوحة ” ( ص 212) .
قد يجد الروائي من يأخذ عليه انه منح شخصية سلام مستوىً من الوعي لا يناسب وضعه وهو يعاني من المنغولية ( متلازمة داون ) التي تشي بأن صاحبها يشكو من عوز ذهني ويقترب به من حدود البلاهة كما ان هذه الشخصية ربما تكون فائضة عن الحاجة لأنها لم تؤد دورا ً مؤثرا ً في تطوير الأحداث حتى ان حذفها لا يتسبب في اختلال في توازن السرد . . لكن هذا لا يخل بالقول ان روايته هذه تنطوي على ما يجعلها عملا ً سرديا ً مهما ً جديرا ً بالاعجاب !
ناطق خلوصي : معالم تحوّلات الشخصية الروائية في “ذاكرة أرانجا”
تعليقات الفيسبوك