الوجه من خلال القناع
قراءة منتخبة من عبدئيل ..الشاعر موفق محمد
-1-
شعرية اللغة عند الشاعر موفق محمد في (عبدئيل )،لايمكن أن تؤدي وظيفتها، إلا وهي تستعر بنار الحماس (وعندما يعرف أحدنا تنغيم الشاعر فالشعر يرن بصورة مختلفة تماما)..أليس كذلك ياماكوفسكي؟
خطاب الثورة والجوع لايأتي مهموسا، لأنه خطاب تحريض /فاضح/ تخريب.. يستفزنا ضد التجار، ضد التجار وهم يستعملون الدين أستعمالا برانيا
: ( قبض الريح صلاة التجار
باطلة صلاة التجار /78- زائر الليل)
لذا يهتف الشاعر( أخلق لنا لغة جديدة كي نموت)
(أخلق لنا لغة لايحرقها جمر القلب
ألغاما تزرع في جمجمة القارىء)
(وأفاعي تزرع فوق ألألغام )
أن اللغة أية لغة لاتحمل هوية طبقية،ولايخفى ذلك على شاعرنا موفق محمد.
اذا أستعنا بكريستيفا سنرى أن الشاعر (يأخذ المدلولات ألأكبر ملموسية ليقوم بالزيادة في ملموسيتها قدر الإمكان وعبر منحها صفات خاصة وغير منتظرة وفي آلآن نفسه يرفعها اذا جاز القول عمومية تتجاوز
الخطاب المفاهيمي )(1) موفق محمد يحاول ترقية شعريته عبر رؤية اللامرئي ،فهو حين ينشد عذاباته ،يناشدنا بتقوية الباصرة ،لرؤية المشترك القهري بيننا .ولايكتفي بأستحضار الوقعائي /المرجعي وموضعته في سيرورة أواليات القصيدة ،بل هو يسعى في حركة من المفارقات والمشابهات بين المرجعي/ المعيش /المتخيل..بين الواقعي والمحتمل،بين الحقيقي ورموزه (2).اذا التقطنا هذه الخصوصية الشعرية في قصائد موفق ،اذا امكننا ان نرى رؤية الشاعر في قطرة دم :( انبثاق النور في جرح الشهادة ) ونسمع
(صرخة ترتجف السما منها ) ونتحسس (كل ميراث ألألم ) ونرى (جمرة لم تسطع منها البحار ولاالطغاة ولاالقلم ) وحين نطيل النظر في القطرة فيمكننا رؤية (علم آدم )(حلم ابراهيم ) ونتلمسها
(مفتاح الطريق الى الحياة من العدم )
-2-
موفق محمد قامة شعرية متفردة واقامته على الأرض : شعرية و(الإنسان الذي يقيم شعريا،يحمل ما يظهر: الى البداهة التي تصون وتكون خلاصا لكل شيء وهو بذلك يحمل كل ما يظهر في صورة العمل الفني الى نصاب ثابت ومتين )(3).حين تتسع قطرة وتتكشف لنا ،يتعطل الوسيط اللغوي وينوب عنه النشاط السيميائي( ابتكرنا لغة للموت تفهم بألأشارة ) .بعد هذا النشاط يكتفي الشاعر بجمرة ألأسئلة (هل كان آدم قبل آدم)
(من ياترى لف الجريمة وأستراح من الدماء )
(أم أن مفتاح الجريمة كان مفتاح الحياة )
أنها عملية شعرية في تفعيل الماضي الغائب والمغيب ، وهنا نتساءل مع هيدجر (أي الحضورين أسمى وأقوى ..حضور الأشياء الماثلة لأبصارنا أم حضور تلك التي تنادي) (4) ..أكررنتساءل ..ولأن الشاعر فقد الدهشة
فلا يستغرب وهو يرى ألأشياء تغور في حالة المسخ ،فلا غرابة
(من هذا المطر المتشح بالسواد
حزنا على رجولته التي يلو ط بها اليباب)
ولم تعد ألأرض أنثى(بل هي الذكر الوحيد الذي يلقح السما
بناطحات السحاب
لتلد لنا المقابر )..
ولاغرابة أيضا أن تكتب القصائد،بريشة الكاريكتير (قصائد بالكاريكتير ) أو يخرج المثبتة صورته بأطار من صورته ويرى مايرى في ست لقطات قصيدة(صورة مؤطرة/107) أو تتغير ألأدوار في قصيدة(الطرف السالب/113) ..ولا غرابة أن يكون للوردة شكل النجمة وللنجمة شكل الوردة وللضوء جسد التفاحة وللتفاحة جسد الضوء (قصيدة هدايا/117) انها سيرورة غرائبية للأشياء..لاحول للأنسان سوى قوة ألأسئلة
(ان كان رأسي عاطلا
والقلب مذبوحا بهاتين اليدين
فعلام سيري في الطريق
على أثنتين /قصيدة 1998)
واذا وهنت القدرة ،سيكتفي الشاعر ببث وصايا التحذير
(لاتطلق ساقيك مع الريح
لاتبك كرسيا امام المرآة تكسر من
أعجاز النسوة
ولاشيء سوى الصحراء/ من قصيدة وصايا لعداء …)
-3-
أثناء الضعف الذي يدب في قوة ألأسئلة والوهن الذي يشتعل في القدرة يبتكر المهموم الأنسان ،الذي لايرى من أفعاله سوى فضيحة الحياة (مر طعم الروح )مرارة توصله الى رؤية المضاد (طازجة فاكهة الموت ) نلاحظ
هنا الذوق الشعري في استعمال (الروح )بدل الحياة ..فالروح لايمكن أن تعني سوى الحياة بالمعنى الخاص والسامي..إن هذا المهموم يجترح فضاء وقتيا ،يستعمله تعويضا عن مفقودات من القيم،..الفضاء يسيل حتى يصلح لفن العوم،وبالتالي للتحليق بحثا عن الجمال والصدق..يوازن من خلالهما مرارة طعم الروح وطراوة فاكهة الموت (والخمر جميل وصديق) ليس هذا وحسب (الخمر طريق ) يسلكها الشاعر.واذا كان ألأنسان حافي القدمين واليدين أمام (ديناصور أعمى يزحف فوق الروح) ،فأن الخمرةهي القوة الحصانية المثلى،لتجاوز هذا ألأشد ثقلا فهو ليس مجرد ديناصوربل هو أعمى،مما يجعله يتباطأ وهو يزحف فوق الروح..وهي المفردة المتكررة في الديوان ،بشكل خاص .إن الديناصور فوق الروح يزحف ومؤثراته اللزجة تظهر في الروح،
لافي الجسد.
-4-
الشاعر يجعل من الخمر،شرط موجوديته ف(الجيل الطالع من قنينات العرق ألأبيض / مبتورا /بالحزن وثقل العائلة التعبى /وتكاليف العيش/ والثورة أو مايشبه أطباق الثلج /المقلية في أخبار الساعة عن ايجاد الحل
لمعضلة الفلاحين / والطبقات الرثة /والمرضى في المدن المختومة بالجوع /لايمكن أن توجد ألأ بالخمر/الخمر/ الخمر/ وطن للزاني /والسافل / والقديس ../قصيدة عبدئيل ).في هذه القصيدة..يتجسد الوجود : منفى ،ولا وطن للشاعر ..سوى هذا السائل المنحدر نارا في الجوف..السائل بفأسه المائية يوسع في مديات الرؤية،ويصنع وطنا حرا وقتيا..لمن يستهلكه…معادلة سوريالية وهي سمة مهيمنة في قصائد شاعرنا..أعني
(لاواقعية المرجع في واقعه وواقعية الكتابة في متخيلها)(5)أن الخمرة لاتفوح رائحتها العراقية فحسب بل هي
تشارك المهدى اليه(الى علي النداف أولا والى نص عرق عراقي ثانيا) ..نلاحظ في ألأهداء شحنة سيميائية ،أعني فعل المنادمة ..في هذه القصيدة (زائر الليل) يطلب الشاعر من النداف أن يمارس فعل الندافة على مستوى آخر فينتقل الندف من الواقعي الى المجاز(كان الوقائعي المرجعي،صار هو الخيالي ،وأن المتخيل صار عليه أن يمارس لاوظيفة التخيل،بل تحقيق واقعية مما يبدو خياليا) ..شعريا سيكون ألأمر كالتالي:
(أندف جبل الهم
أضرب في قطن الروح
اندف في عصب القلب المجروح)
لكن فعل الندافة،يكون بشرطين :
*سرية الفعل : (لاتكشف ابدا)
*المشاركة :(لاتتركني في هذا الليل العربيد وحيدا)
(لاتتركني رهن هواجس هذا القلب المذبوح)
ثم يطلب الشاعر ،أن ينتقل فعل الندافة من الخاص الى العام ولهذا العام خصوصيته السرية :
(أندف مزق المبغى ) (قطن العادة ) والندف هنا له وظيفة تطهيرية :
(فكل مباغي الكون الزائف )
(هذا الرعب الزائف )
(ترمي في برميل الروح الفضلات ).. ثم ينتقل الى فضاء أوسع
(أندف ورق السوق الكاذب )(أندف جلد الكلب الشائب )..ثم يعود
الى الشخصي( أندف قلبي
لاتسأل عن هذا الحجر الصلد)
-5-
هنا يفعل الشاعر نصيص اهداء مجموعته الشعرية (الى أمي التي أرضعتني حليب ألأرض وخبأت في قلبي أنين النخيل )..والأهداء مثبت بعد صفحة عنوان المجموعة ..وألأم المهدى اليها هي ام الشاعر موفق محمد (الى امي ..) وليس الى (ألأم ) بصورة عامة ..وميز الشاعر أمه بميزتين فاعلتين :
*أرضعت ./ خبأت ..
والفعل ألأول فعل أمومي / عام ..لكن ميزته هنا ان ألأم في تماه مع ألأرض ،وألأرض تتماهى في أم الشاعر ..
(أرضعتني حليب ألأرض..)والرضاعة هي فاعلية يتم فيها تحويل الجواني / الحليب الى مستقر جواني آخر /جسد الطفل .الأم هنا قامت بأرضاع ولدها حليب ألأرض ..والشاعر أعطى ألأرض صفة ألأطلاق ، دون أن يموضعها بتحديد..وحين نقول(حليب ألأرض)ستتحرك أستجابتنا نحو أفق الميثالوجيا العراقية تحديدا ،ونحن بدورنا نستفز أفق القارئة والقارىء بألأتجاه ذاته, الفعل الثاني: (خبأت )والفعل يومىء الى كتمنة/ كتمان ..،ويثير بي كقارىء تساؤلا :ألايؤدي مابعد الفعل الى تساؤل أبيض:
(وخبأت في قلبي أنين النخيل )؟! ألا يتناقض ذلك مع رقة ألأم العراقية تحديدا؟! هذه ألأم النبية التي احتملت ثكل كوني لامثيل له في تاريخ البريرية بطبعاتها المنقحة والمزيدة!! ما الذي سيبقى من قلب شاعر
مثل موفق محمد اذا نبض قلبه بأنين النخيل ..؟لكن حين نحك هذه المفردات ،سنكتشف ان ألأم ربت ابنها الشاعر على فن الأصغاء لأوجاع الثابتين والثابتات في أرض السواد المدمى، وقد إتمنته على ذلك..وهل هناك من معادل موضوعي لذلك أعمق دلالة من النخيل؟!ألا تحيلنا كلمة انين الى تلك الفاختة العراقية في الموروث الشعبي العراقي؟! (كوكتي يابنتي
وين جنتي؟
بالحلة.
جنت أشرب ماي الله
جنت آكل كوك الله )..؟
ثم…. ،يبدأ الشاعر بالتسبيح للأم وتعداد سجاياها الكريمة :
(نهر حنين أزلي أمي
طير الجنة أمي
أشجار دائمة الخضرة
أمي
قارورة عطر وجناح طلق أمي
يلمع في ليل عسس أمي ) ..
ثم يعود الشاعر الى مخاطبة نديمه على النداف:
(اندف مبتكرا طرقا أخرى للندف )..
وهنا نلاحظ ،ان أصرة العلاقة بين الشاعر والنداف/ علي
في حميمية متماسكة..وثمة محذوف في سيرورة القصيدة ،نتوصل اليه
من خلال قليل من الفطنة..كيف انتقل الشاعر من العام الى الخاص..وبالتالي الى العائلي ألأجمل متجسدا بمهابة حضور ألأم وتحديدا ام الشاعر.
-6-
حين أنتهيت من قراءة (عبدئيل) أعني قراءتي المتكررة والتي من المؤكد انها تحتاج الى أعادة قراءة في المستقبل القريب..حين أنتهيت..بقيت مشرقة في ذاكرتي ..هذه الحزمة الضوئية من الأسماء
(بنت عبدالله / يحيى الخطاط / سارق المكتومة / الجسر القديم/ علي النداف /…الخ ) هذه ألأسماء لم يعرفنا الشاعر موفق محمد عليهم في حفلة تعارف..بل تركنا نقيم معهم عبر سيرورة شعرية تضيىء استجابتنا
وتسرحنا في طيات المسكوت عنه.. أكررالمسكوت عنه وليس اللامفكر به
*المصادر
*:موفق محمد/ عبدئيل / دار قوس/ كوبنهاجن /الطبعة ألأولى/2000/ لوحة الغلاف والتخطيطات الداخلية/ سعاد حميد .
(1): كريستيفا/علم النص /ت: فريد الزاهي/ الدار البيضاء/الطبعة ألأولى /1991/ ص76.
(2) الدكتورة يمنى العيد/ بين خصوصية الحكاية وتمييز الخطاب / دار آلآداب /ط1 /1998/ص90
(3) هيدجر/انشاد المنادى/ترجمة وتلخيص بسام حجا/ ط1/ المركز الثقافي/ بيروت /ص91
(4) المصدر السابق
(5) د.يمنى العيد/ خصوصية الحكاية…/ص94