الجو حار تماما في هذا اليوم من ايام صيف تموز اللاهب ، ليس كالعادة ، حتى ان درجة الحرارة تجاوزت الخمسين درجة مئوية ، بحسب نشرات الاخبار التي تحاول التخفيف من درجات الحرارة لتعطي عذرا للموت ولنقل الجنازات في الوطن . في هذا اليوم كنت سافرت الى خارج الوطن ، لاداء فريضة دينية ، كعادة الكثيرين للتخلص من الضرر الذي يحدثه الحر مع انقطاع التيار الكهربائي .استيقظت مبكرا على رنات هاتفي المحمول ، ليوصل لي احد زملائي في العمل خبر نعي مسؤولنا في الدائرة الحكومية التي نعمل فيها . هو ليس مسؤولي المباشر بل هو مسؤول دائرتي التي اعمل فيها . وكانت كل الدلائل تشير الى انه لن يموت . ولذلك فقد تفاجات بالخبر ، كما فوجئ هو، السيد المدير ، للامر بالتاكيد . فحماياته وصعوبة الوصول اليه وما يحيط به من منافقين . وموانع تمنع الموظفين الصغار من امثالي . وغير ذلك من ابهة وبهرجة كانت تتبعه حين يسير في داخل غرف الدائرة ودهاليزها . وتاكيده المستمر على المحيطين به ان يامروا موظفي الدائرة ان لايتشاغلوا بما بين ايديهم من معاملات او قصص يومية . وان يظهروا اهتماما كبيرا به وهو يمر بينهم . وان يقفوا وقفة احترام وخضوع وتقدير ، صادق ، له وهو يقوم احيانا بزياراته الروتينية . اضافة لما كانت عائلته تبذخ فيه من صرف يومي وسفراته البوهيمية والحياة الخيالية التي يتمتع بها اولاده . كل ذلك يؤكد ان الرجل بسبعة ارواح . وان الموت لن يمر به ابدا . وكانوا يبررون ذلك بقولهم : ما الذي يحصل عليه موظف كبير ومسؤول محترم ، بمستوى مدير لدائرة كبيرة ، بتضحياته الجمة ، غير ان يرى الاحترام والتشجيع ، في عيون الناس والمرؤوسين ؟ . ويقول اخر انهضوا له حين يمر بكم وقفوا احتراما له ، وان شئتم فصفقوا له ، فذاك من حقه عليكم ، جزاء تضحيته لاجلكم . فهو سيدكم وسيد الدائرة .
ومع ذلك فقد مات . وبما ان الكل يموتون لافرق بين مسؤول ومسؤول وبين طبيب ومريض ، وصالح وطالح ، ورئيس ومرؤوس ، فقد مات الرجل وسوف يدس دسا في تابوت خشبي ، لم يفصّل على قياسه ، حاله حال الاخرين . وسوف يقف الناس لتشييعه ليس كسيد وكاتباع ، بل كميت مسكين لاحول له ولاقوة . يسعون لتوديعه والتخلص منه كقذارة يجب دفنها . ولن يكون سيدا بعد اليوم ولن يقف له احد . بل سوف ينُسى ولن يمر بدهليز دائرتهم ولا بغرفهم ، ولا حتى ببال احدهم بعد مرور قليل من الوقت .
نعم سوف يحشر في تابوت شاركه به العشرات بل المئات استعمل كعبّارة لنقل الجثث من هذا الصوب الى عالمها الاخر . ان الاحياء يستكثرون على امواتهم ، ومديرنا بالطبع واحدا منهم ، مجرد الواح خشبية لاتساوي شيئا يلقون بها في المزابل فيتناولها الفقراء بثواب ميتهم . قبل ذلك كان لكل تابوته . اما بعد الحروب الكثيرة ، ولكثرة الموتى ، فقد صار التابوت يوضع في المغسلة وبعد ان يدفن الميت يعيدونه اليها . انه تابوت عام ليس ملكا لاحد ، بل انه ملك للجميع مثل المدرسة والجامعة والمكتبة العامة . ومسؤولنا واحد من الناس الذين يرون تابوتهم كل يوم عندما يذهب للصلاة في الجامع او يقرا الفاتحة على احد اموات الحي ، ولكن لم يكن يخطر بباله شيء مما سيجري . ولكثرة التوابيت في مغسلة الجامع لم يكن متاكدا في اي منها سينام .
لكم كنت احسده ، هذا المسؤول ، حالي حال الجميع ، مدير دائرتنا وهو يتبختر امامنا في دهاليز دائرتنا . كنت افرح حين يكلمني ا و وهو يامرني ، باسلوبه الفج ، المتعالي ، الذي كنت اعتبره في بداية الامر قلة ادب منه . لكنني وبعد مرور السنين صرت اعتاده ، شيئا فشيئا ، حتى بت اراه الان من ضرورات السلطة والمسؤولية . وحتى انني كنت اتخيل نفسي احيانا وقد صرت مديرا كبيرا ، وانا اكتسح كل المحيطين حولي والراغبين بالصعود على الاكتاف . واولئك الميكافيليين الذين ينتمون لاحزاب لايؤمنون بفكرها ، ان كان لها فكر ما ، وقد صرت بمرور الزمن واحدا منهم ، ورحت ادافع عن اولئك الصاعدين ، ومديرنا العام المسجى الان كم كنت ادافع عنه ، ليس شرفا ، ولكن تملقا للحالة التي هو فيها . كنت اشبه الصرصار الذي يريد ان يصير جوادا . ولقد تكاثرت الصراصير في دائرتنا ولكن يعلم الله من سيصير منها جوادا ليرتقي كرسي الإدارة .
لقد مات مديرنا المرحوم في يوم شديد الحر . وسوف تتفسخ جثته وبسرعة عجيبة . وسوف تفوح منها رائحة الميثان والايثان مثل مستنقع ، ولن تنفعه قوالب الثلج التي تبرد جثته . ورغم ذلك فانا ادافع عنه ، مع اني اعرف عنه الكثير الكثير من افعاله المخزية واستغلاله منصبه اللعين لاستدراج الموظفات ضعيفات النفوس الى الرذيلة . والتخلص من غيرهن الرافضات لاغراءاته . اودفعه الموظفين المحيطين به كما الرائحة الكريهة التي تحيط بجثته في هذا اليوم القائض من شهر تموز الى اخذ الرشوة ليثبت نفسه في منصبه الازلي ليبدو اشرف وانزه الموجودين ، ولا احد ينافسه عليه ، في اعتباره ، ان هذا المنصب انما خلقه الله له وحده . ودون ان يترك ادنى شك في انه سياخذه معه الى القبر . وكنت ارى افعاله تجاه الدائرة والموظفين وتجاه الناس . وكنت ، رغم ذلك ، استحسن افعاله في داخلي اللعين . حتى زوجتي كانت تحسد زوجته لكثرة ما انقل لها ما يحكيه الناس عنها وما تمتلكه من اغراءات مادية وهدايا باشكالها النقدية والعينية والعقارية . لسكوتها عن خيانته لها وكثرة عشيراته .
ولانه مدير دائرتي ، ولكي لاالام فيما بعد ، فقد قطعت اجازتي وعدت سريعا في نفس اليوم . وذلك كي اظهر المودة لمنصب المرحوم ، على الاقل . ولذلك ، وحين حان وقت القاء النظرة الاخيرة على جنازته . احسست بان كل الاخرين يبدون وقد تلطخت ملامحهم بالحزن الكاذب ، والحركات المنافقة والبكاء المهتز على الاكتاف . رغم انهم يودون ، مثل حال الجميع ، لو يلقون بجثة المدير سريعا الى الكلاب لا الى القبر ليدفنوا معه كل نفاقهم وكلماتهم التي كانت تخدش الذوق ولاتدخل الى قلب المدير ، ولكنها كانت تنال استحسانه الظاهري . وكان يعرف تماما انهم انما يكيلون له جمل التملق بسبب منصبه . وكان يتذكر في طفولته حين كان يسمع بقصة ذلك الحاكم الذي حزن الناس على موت بغلته ولم يحزنوا لموته . انه لم يترك بعد موته سوى جثة متعفنة وقبرا سوف لن يزوره احد . ولو كان ذلك القبر قد حفر في حياته ، لكان كل من في الدائرة ، وبضمنهم انا بالتاكيد ، يتبارى لزيارة ذلك القبر وسيتبركون بالتمسح بشاهدته بلمسها وطش الماء المعطر برائحة الورد فوق قبره .
والان ها هو قد مات وماتت معه قدرته على احداث اي ردة فعل تجاه ما يحكى وما يقال . وراحت الامال والتوجهات كلها تدور حول من سيمسك بكرسي ادارته للدائرة وستطوى صفحة لتبدا صفحة جديدة . صفحة لاتنتهي الابموت من سيمسك بها . الكل يتمنى ذلك ، ولا يمر بذهن احد انه سيحيد عن نهج المدير السابق ونهجه العتيد في النهب ، دون ان يفيد احد قبل نفسه وجيبه وعائلته .
ولذلك فان الجميع كانوا حينما رفع غطاء التابوت وجدوا بدلا عن جثة المدير ، جثثهم هم المسجاة في التابوت وقد بدات بالتفسخ ولن ينفعها لا وضع قوالب الثلج ، ولا رائحة الكافور الذاوية . وحتى انا رايت جثتي المتفسخة . وفي تلك اللحظة بالذات راى الجميع وبضمنهم انا الاخر المدير ينهض صامتا ، واقفا وقفته الاخيرة ليتاكد من وضع جثته . ومن ثم ليعود الى نومته الطويلة في تابوت لم يتم تصنيعه ليستوعب جثته الضخمة ، بل حشر حشرا فيه .
مسلم السرداح : نعي ..
تعليقات الفيسبوك