كان من الممكن ان تكون قراءة هذه القصيدة ضمن قراءتنا المعنونة ” حجازي وقلق الموت في المدينة ” . وذلك لاعتبار ان محور القصيدة يدور ايضا حول تجربة الموت او مواجهة او قلق الموت . ولكننا ارتأينا ان نفرد لها قراءة خاصة لاعتقادنا انها تمثل تجربة تنتمي لقطاع زمني ليس له الاعتبار ذاته عندما رأيناه عند الشاعر في قصيدته محور قراءتنا تلك . هذا القطاع الزمني يمثل اولى تجارب الشاعر مع المدينة . الشاعر وهو صبي . انه الشعور بالهجر Abandonment . ويعرفه احد المعاجم النفسية على النحو التالي ” واقع انصراف عن شخص آخر أو اهماله ، إذ لا يظهر له حبا ولا اهتماما . ثمة ، الى جانب الهجر المطلق – هجر ام عازبة تلد سرا في المشفى على سبيل المثال – ، الذي يعبر عن رفض الاضطلاع بعبء طفل ، أشكال شتى من الهجر تتجلى إما بمعاملات سيئة وإما باللامبالاة . فالوالدان اللذان ينبذان طفلهما ، على نحو شعوري قليلا او كثيرا ، يمكنهما ان يشعرا بأنهما يوفيان التزاماتهما تجاهه إذ لا يشبعان سوى حاجاته المادية . ولايتخيلان انهما يسببان له الأذى حين يقصران اتصالاتهما به على الحد الادنى الدقيق ، أو أن وجودهما المتباعد والبارد يكافئ غيابيا . وموقفهما أمثر ايذاءا بمقدار ما يبين تحت غطاء العمل الذي لايقبل اللوم . ويجد ضرب من الهجر الصريح ، على وجه العموم ، علاجا في إقامة دائمة في منزل أو في تبنّ ، ولاسيما عندما يطرأ بصورة مبكرة . وليس له ، لهذا السبب ، نتائج ضارة إلا إذا لم يتحقق هذين الشرطين ، وذلك امر يترك الطفل في حال من عدم الاشباع ، ترفقه رغبة حنينية إلى منزل ، وتلك رغبة تسبب كثيرا من المرارة والضغينة . والهجر المموه أكثر ضررا مع ذلك ، لأنه لا ينطوي على واجهة فحسب ، ولكنه يخلق مناخا دائما من عدم الامن والقسر حول الطفل . والواقع ان على هذا الطفل ان يحرص على ان لا يكظم عدوانيته ، تحت طائلة ان يغضب والديه ويفقدهما فقدانا نهائيا . والخشية من الهجر يمكنها ان تولد ايضا ، لدى طفل من طبيعة حساسة ، بمناسبة حدث من الاحداث يقطع الصلات الاسرية أو يجعلها ان تتراخى ، كالموت ، والخلاف بين الزوجين ، وسفر ، أو وضع في مؤسسة صحية . ولهذا السبب ، يتضح عدد من التصرفات التي تقلق
الوالدين (العدوانية ، الحرد ، الهرب ) عندما ننظر فيها من منظور هذا الحدث . وينطبق الأمر نفسه على بعض السلوكات الطارئة ، في سن المراهقة والرشد عقب ضروف من النسق نفسه : فسخ خطوبة أو خيانة أحد الزوجين ، على سبيل المثال . فهذا الحدث يؤدي دور الكاشف ؛ أنه ، إذ انعش وضعا ظل راكدا ، أظهر البنية النفسية الكامنة التي ستشرح التصرفات المرضية (اكتئابا على سبيل المثال ) أو الاجرامية . ويمكننا ان نساعد الطفل الذي لا يجد في وسطه الدعم الوجداني الذي يحتاجه ، إذ نقيم معه علاقة ثقة يمكنه من خلالها أن يقتنع بالاهتمام الذي نوجهه إليه . ولكن ضربا من العلاج السيكولوجي المستوحي من التحليل النفسي هو وحده الذي يمكنه ، في الحالات الاشد قسوة ولدى المراهقين والراشدين الذين يعانون عصابا ، أن يفضي الى التحسن المنشود ” (1) . وعصاب الهجر استخدم لأول مرة في عام 1950 من قبل ج .غيكس ثم شارل أوديه عام 1974 للدلالة على الذهنية أو الحالة النفسية الوجدانية لشخص يعيش في حالة من تسلط فكرة مفادها انه مهمل . ومثل هذه الخشية ، في بعض الحالات ، يمكن ان تسوّغها حادثة في الطفولة الأولى ، كهجر فعلي أو موت الأبوين . ولكن الجدير بالملاحظة أن كل الاطفال المهجورين أو اليتامى لا يعانون من عصاب الهجر . والسبب ان التكوين يؤدي دورا اساسيا في ظهور هذا الاضطراب. والهجرذو حساسية مفرطة في الواقع ، و’يظهرون على الغالب عطوبة عصبية نباتية (تتجلى على وجه الخصوص باضطرابات هضمية ) . وبوصفهم انفعاليين ، قلقين ونزقين ، فان أمر تربيتهم وإشباع حاجاتهم شديد الصعوبة بحيث ان الرعايات حتى الأكثر انتباها ومحبة عاجزة عن ان تهدّئ حجاتهم إلى الحب . وهذه الشراهة الوجدانية ، التي تولد عدم الأمن ، تستمر ، خلال المراهقة ، بل في سن الرشد ، في أسس شخصيتهم ، ذلك ان المعيش العتيق في الطفولة الأولى يكون ، بوصفه ما امكن له أن يكون مقبولا ولا مكبوتا ، حضورا متأصلا يستقطب أنا الفرد . فهذا الفرد يسلك إذن سلوك من لم يكن قد تجاوز مرحلة معينة من نموه السيكولوجي ، كما لو ان ظل طفلا ، ترافقه الارتكاسات الاولية والذهنية قبل المنطقية . وشخصية الهجرّي (المهجور) ، الغنية على الغالب ، تتميز بالقلق ، والعدوانية ، والشعور بعدم القيمة الشخصية . فهو يتوقع ، بوصفه يجعل أمنه متربطا بالغير ، أن يهتم هذا الغير به دائما : أنه ، على وجه الخصوص ، يتطلع إلى أن ينصهر بالشخص المحبوب على منوال ما يفعل الرضيع الذي يعيش في حال من الاتحاد الوثيق بأمه . وإذ يتوقع أن يكون مفهوما وأن تكون رغباته مشبعة دون أن يكون بحاجة حتى إلى التعبير عن ذلك ، فانه يتعرض إلى خيبا امل مؤلمة ستعزز الشعور بالعزلة . وهو نفسه يسئ الظن غالبا بنوايا محيطه ، ذلك أن لديه ميلا إلى ان يفسر تصرفات أهله ومواقفهم تبعا لمخاوفه ومقتضياته . لماذا يصل أحدا عن موعده معه ؟ السبب انه لا يستحق هو أن يبذل هذا الشخص جهدا للوصول في الوقت المحدد . وماذا لو’نسي أن تقدم له التهاني بعيد ميلاده ؟ السبب أنه غير محبوب ، إلخ . والهجري ، الذي يعيش مع عاطفة مرهقة بانعدام قيمته ، يشعر دائما أنه غير مرغوب فيه ويتوقع باستمرار ان ينبذ . أنه لا يجد مكانه في أي مكان . وبوصفه تابعا للشخص المحبوب ، الذي يخشى دائما أن يفقده ، فهو لا يتحمل أي شريك ، ذلك ان كل ما لا يعود له مختلس منه . أنه غير متشدد فحسب ، ولكنه مطلق التحيز أيضا ، وموقف يترجح من المطالبة المتغطرسة إلى الاكتئاب ومن الحـَرَد إلى الغواية والاخلاص ، الذي يمكنه أن يمضي إلى عبودية الذات .. وعبودية الآخرين . ويصعب فهمه وتصعب عليه الحياة بوصفه متقلبا . وبالنظر الى العلاج النفسي التحليليي يصعب أن يتحمله غالبا الفرد الذي يعاني عصاب الهجر ، فإن من الأفضل له ان يخضع لعلاج نفسي تحليلي يبدأ فيه المعالج بأن يوحي بالأمن إلى مريضه ويعزز اناه إذ يرفع من قيمتها . وهدف هذا العلاج ، الذي يباشره المعالج عندما يطمئن إلى أن الحد الأدنى من الشجاعة باق لدى الفرد ، أن يقوده إلى أن يقبل ماضيه ، ولكن على ألا يعاني بسببه ومن أجله ، وان يتخلى عن مطالباته الراهنة ويقبل وضعا أكثر اتصافا بأنه بناء (2) . ذلك إذن هو الهجر وذلك هو عصابه وتلك هي تجلياته النفسية ومظاهره السلوكية . وبالنسبة للشاعر لا نريد تحديد الدوافع التي جعلت الشاعر يترك ريفه ويتوجه نحو ذلك الحوت الذي لا يشبع . اعني المدينة . المدينة بهذا المعنى ” بالوعة البشر ” ان لم يخنا التعبير . بين مدينة ومدينة فرق في الكم وليس في النوع. من هنا الشعور بالضياع والاغتراب والوحدة وسائر الانفعالات التي ترافق او تقترن بهذه السلوكيات . معنى هذا ان الشعور بالاغتراب لم يك جديدا عند الشاعر . انه ملازم له منذ صباه . هذا الصبي الذي اتى الى المدينة .. ليعمل .. ليكمل تعليمه .. لكي يحقق احلامه .. لكي يبحث عن السيدة او المرأة التي لا يجدها الشاعر في قريته لكي تستطيع ان تحتويه وتستوعبه ومن ثم ان تأخذ بيده نحو شواطئ الامان . إذن الشعور بالهجر او ان الشاعر كان مهجورا لم يأتيه على حين غرة .. لقد نمى معه اذن مثل نمو الذات عنده . وهكذا نمط من النمو قد يكون سببا لظهور تراكمات نفسية وانفعالية قد تتخذ صورا عيادية مختلفة . القصيدة مكونة من ثلاث مقاطع يصف فيها الشاعر مقتل صبي مات في المدينة . والشاعر لا يتكلم عن الحادث الذي مات به الصبي . فالمدينة قائمة اساسا على الموت .. أو هكذا يراها الشاعر على اقل تقدير . لنرى إذن ما علاقة بالمدينة ؟ . يقول حجازي في المقطع الأول منها :-
الموت في الميدان َطـن ّ
الصمت حط كالكفن
وأقبلت ذبابة خضراء
جاءت من المقابر الريفية الحزينة
ولَولَبت جناحها على صبي مات في المدينة
فما بكت عليه عين ْ !
(الديوان ، ص 143)
*********************
المشهد .. مشهد غزو عسكري ، كما يمكن تأويله . هناك علامات على صواب التأويل . الموت والصمت . دالتان على حظور الدمار في المكان . فجاءة تظهر ذبابة خضراء . اللونان الاخضر والرمادي او اللونين ممزوجين معا هما من الالوان التي تميز الرموز العسكرية من معدات والآت وعجلات . والذبابة الخضراء يمكن ان تكون دبابة او مدرعة او طائرة هيلكوبتر عسكرية . وهذه الذبابة عندما لولبت جناحيها . كان الصبي قد فارق الحياة ومات . ترى هل كانت آتية لأنقاذه أم لملاحقاته . في كلتا الحالتين لم تنجز هذه الذبابة المهمة التي جاءت من أجلها . ياللاسف في كلتا الحالتين . الصبي والمعني به هو الشاعر انه لم تبكي عليه عين مات . مات وهو مجهول الهوية لأنه لا احد يعرف من هو . حجازي الحق بالفقرة الأخيرة علامة تعجب . لأن هذا هو المطلوب . الصبي مات ولم تبكيه عين ما من عيون هذه المدينة . سنرى في المقطع التالي ان الشاعر يلح كثيرا على هوية الصبي . فيقول :-
الموت في المدينة َطنّ
العجلات صفرت ، توقفت
قالوا : ابن من ؟
ولم يجب أحد
فليس يعرف اسمه هنا سواه !
(الديوان ، ص 143 – 144)
*************************
حقا ما قاله حجازي حول هوية هذا الصبي المجهول .. كيف ’يترك ، يا ترى ، صبي كهذا وحيدا في هكذا مشهد .. إن لم يك لقيطا .. يتيما .. مهجورا … منبوذا .. معاقا على سبيل المثال … ؟ هنا حقيقة ادركها حجازي جيدا .. كل منا يعرف اسمه فقط .. اسمي هو هويتي .. دالتي .. لفظة اتميز بها عن الآخرين . من لا يعرف اسمي لا يعرف من أكون . جسدي لا يختلف عن اجساد الآخرين الا بالاسم والوجه فقط . قد تكون على جسدي علامات فارقة ؛ طولي .. وزني .. لون بشرتي .. وما الى ذلك من علامات ، لكن كلها لا تعني للآخر شيئا مقابل معرفته باسمي واسم ابائي واجدادي .. مات ومات معه اسمه وهويته والى الابد . على ما يبدو هناك من ابدى عليه اسفا وحزنا ولكنهما كانا عابرين . يقول حجازي :-
يا ولداه !
قيلت ، وغاب القائل الحزين ْ ،
والتقت العيون بالعيون ،
ولم يجب أحد
فالناس في المدائن الكبرى عدد
جاء ولد
مات ولد !
(الديوان ، ص 144)
*******************
حتى عبارة الاسف هذه التي جناها الشاعر لم تدم غير لحظات . الجميع ذهبوا حيث غاياتهم . بقي الصبي جثة هامدة تنتظر مصيرها !! . المدينة ، كما وصفناها قبل قليل ويتفق معنا الشاعر ” بالوعة البشر ” لا ترحم .. لا تعرف احدا .. كل يوم يأتي (ن) من الناس ويرحل (ن) آخر من الناس . ارض المدينة هي بالوعتها إذن . فليمت هذا الصبي إذن . ما الفرق بينه وبين هذه النونات من الاولاد الذين يأتون ويموتون يوميا إذن . هنا تتجلى مظاهر الاسف على الذات . وجود هذا الصبي ، على وجه التحديد ، ليس وجودا كغيره . كان وجوده من اجل يكون ذا شأن ما في هذه المدينة . كان يحلم .. لقد بنى حياته كلها احلاما .. وفجأة يتوقف كل شيئ . وتصير تلك الاحلام كلها محض ذكريات عالقة في جمجمة ميتة لا غير إذا بقيت عالقة حتى .. !! . ويكمل الشاعر وضعية هذا الصبي الذي مات وكيفية موته حيث يقول :-
الصدر كان قد همد ْ
وارتد كف عض في التراب
وحملقت عينان في ارتعاب
وظلتا بغير جفن !
( الديوان ، ص 144)
*********************
هذا الوصف لجسد لم يعد بامكانه ان يكون حيا . معنى هذا ان هذا الجسد اصبح في عداد الاموات . لقد خلد الى السكينة والى الابد . هذا ما نراه في المقطع الأخير من القصيدة والذي يصف لنا مآل هذا الصبي حيث يقول :-
قد آن للساق التي تشردت أن تستكن !
وعندما ألقوه في سيارة بيضاء
حامت على مكانه المخضوب بالدماء
ذبابة خضراء !!
(الديوان ، ص 144)
*********************
الجثة جسد لم يقوى على الحراك بعد . ومن الملاحظات التي تسترعي الانتباه حول صمت الجثة الابدي هو حوم ذباب عليها . لا لشيئ الا لأنها فقدت قدرات الاحساس اللمسي ولم تعد قادرة على الاستجابة لوخزات ارجل الذبابة على ملمس جلدها . عند هذه اللحظة ندرك ان هذا الجسد أو ذاك قد فارق الحياة واصبح مجرد اشلاء مصيرها الفناء والرميم . لقد بدأ الشاعر هذه الصورة السردية لمقتل الصبي بذبابة خضراء وانتهى بذبابة خضراء . وفي تقديرنا ، ان هذا يعني ان قيمة هذا الصبي لا يشكل شيئا لدى الآخر . حتى طريقة الالقاء في السيارة البيضاء دليل على دونية صاحب الجثة . لقد تعبت ساق هذه الجثة من التشرد .. وها هي الان تذوق طعم الراحة الابدية . هذه الراحة تعد بمثابة مكافئة لذلك التشرد الطويل لتلك الساق بين ازقة المدينة وشوارعها .. الذبابة إذن هي الشاهد الوحيد التي رافقت هذه الصبي من موته الى آثاره من الدماء المخضبة في الشارع . الذبابة وحدها من دون أخر من عالم البشر كانت حاضرة معه . في تقديرنا ان هذا إشارة إلى مشاعر عميقة من الاهمال والنبذ والهجر الذي لاقاه صبينا هذا في حياته بل وايضا في مماته .. وهذا ان لم يك رمزا للشاعر فأنه رمز للطفل المعذب في هذا العالم . وقد يكون شاعرنا هو الآخر قد عاش ذات الخبرات التي اسقطها على صبيه موضوع قصيدته .. وفي نص آخر معاكس تماما للنص الذي تناولناه قبل قليل . حيث ان النص ايضا يدور حول صبي مجهول الهوية هو الآخر ومن بلد غير بلد الشاعر . هذا الصبي كان ، والله اعلم ، يسير في شوارع بيروت ، وقلبه مع جموع القاهريين (نسبة الى مدينة القاهرة ) . وقد تابعه الشاعر فقدم لنا انطباعا عنه .. ولا اريد ان اقول اكثر من هذا حتى لا ’اتهم بلوي عنق النص . ولا اريد ان اعلق على خلفية الصبي الاجتماعية ولا انتماءته ولا .. ولا .. إلخ … حجازي يصمت إزاء ذلك كله . وعلى الرغم من الطفل كان في بيروت وعنوان النص ” صبي من بيروت ” ، الا ان هذا الصبي يشبه الشاعر او الشاعر قد تماهى بهذا الصبي . وايا كانت طبيعة العلاقة بين الاثنين او هل كان الطفل متخيلا ام لا ، فان الشاعر قد قدم صوره عن هذا الصبي تنطبق كثيرا ان لم تكن كلية عليه . لنرى كيف يصف لنا حجازي هذا الصبي . ها هو يقول :-
في العاشرة
وقلبه تفاحة خضراء ،
تنفّست على ربى بيروت
لكنها اشتاقت لريح القاهرة
وهي تموت
(الديوان ، ص 213)
**********************
لحد هذه النقطة الصبي مجهول الهوية تماما . لا نعرف شيئا عنه الا كونه في العاشرة من العمر ، وكما يخبرنا عنوان القصيدة انه من بيروت . قلبه تفاحة خضراء .. دلالة على روح الامل والثقة بالمستقبل الذي ينتظره .. ماذا يعد اخضرار التفاحة ؟؟ اليس النضج واكتساب لونه . قد يكون تفاحا اصفر أو أحمر .. المهم هو انه يسير في طريق النضج . في المقابل هناك مدينة تعصرها الرياح وهي في حالة احتضار وانتظار مفارقة الحياة .. يبنما الصبي يتجول .. يتوه .. في مدينة تعج بالنضارة والشباب .. بيروت حلم الشعراء والمثقفين الذين حرمتهم مدنهم من ان ترى نتاجاتهم النور والضياء . اتريد ان تكون شاعرا معروفا فما عليك الا ان تعيش في بيروت ردحا من الزمن وتنشر دوواينك في مطابعها ودور نشرها .. عند ذلك سيكتسب اسمك الشهرة والنجومية في عالم المثقفين ورحاب القلم والورق .. لم يذكر حجازي دواعي واسباب وجود هذا الصبي ذو القلب الاخضر في بيروت . هل هو اقصاء مبكر حتى لا تظهر قدراته ولا كلماته لكي لا تلهب الثوار والمتمردين في مدينته . ام انه اغتراب لسبب أو لآخر . لكن في قلب هذا الصبي شوق نحو القاهرة . هذا يعني ان الصبي مصري يعيش في بيروت في بواكير حياته ولم يتنصل بعد من مصريته ّ!! . لا زالت هويته مصرية .. وسوف نرى في المقطع كيف يصف لنا الشاعر المزيد من خصائص وسمات هذا الصبي . لنصغ اليه حيث يقول :-
من يا تراه شده من مرقده ؟
أي خيال جامح ، قاد الصبي من يده ؟
أعطاه للطريق ثائرا وراء الثائرين
أعطاه عشرا ، فوق عشر ، صار في العشرين ،
يملك قلب شاعر حزين !
يحمل حزن اللاجئين
يملك روح شاعر ثائر ،
يداه في الحاضر
في النار ، في بحر الدم الهادر ْ
عيناه في الآتي
يستشرفان النصر موقوتا بميقات
يرى جموع اللاجئين تسرج الخيول ، كي تعود
يسمع أقدام الجنود . من بعيد
وبينه ، وبين زحفهم سنين
يحلم بالثلج يذوب ، يجرف السدود
يحلم بالصيف العظيم ، حينما تأتي إلى لبنان ،
مواكب العربان من كل مكان
يقبلـّون بعضهم بعضا ، ويدبكون
يحلم ، لم يحلم ، رماه باللظى غادر
يألم ، لم يألم رأى زعيمه ناصر
وجها على موج الرياح
ويغمس الصبي في الدم الطري اصبعا
وينقش اسم ناصر على الجدار راعشا مقطعا
ويسقط التفاح !
(الديوان ، ص 213 – 215)
***************************
ذلك إذن هو الصبي الذي يتوه في شوارع بيروت ومقاهيها .. بينه وبين افراح بيروت جدار سميك . بيروت مصيف العربان . انها عبارة سخرية واضحة الابعاد من قادة العرب عندما يقضون الصيف في بيروت في هرج ومرج . الصبي .. شاعر .. حزين .. بل يحمل روح شاعر ثائر .. كل المواصفات التي اعطاه حجازي لهذا الصبي إنما هي إسقاط لصفاته واحلامه وطموحاته هو لكن تقمص وتماهى بل نكص الى تلك الفئة العمرية التي يعيش بها الصبي .. بل هو قد أظهر الصبي في العشرين وهو ، في الواقع ، في عامه العاشر .. لا اريد ان اضع معادلات التماهي والتقمص والنكوص بين الشاعر وذلك الصبي المتشرد في شوارع بيروت .. ولكن القرائن النفسية جلية بحيث تجبرنا على القول ان الشاعر هو ذاته ذلك الصبي الذي يعيش ويتجول في تلك المدينة . ما يهمنا هنا هو رمزية الاقصاء ومشاعر الهجر التي يعيشها الشاعر وهو ما يزال صبي في العاشرة من عمره . لا يهم اسم المدينة . المهم هو انه خارج مدينته . والمهم ايضا انه يعيش مشاعر الهجر والإقصاء والرفض . الكثير من الصبيان قد هجرّوا لسبب أو لآخر مع ذويهم أم بمفردهم .. هذا امر لا يهمنا كثيرا الدخول في تفاصيله . وقد يكون حجازي بالفعل قد عاش في بيروت وهو صبي . ولكن من اين تأتيه القناعة الفكرية والايديولوجية بان يختار قائدا معاصرا كان له حضور في الحياة السياسية وكان له اسهاماته في تلك الحياة . اعني عبد الناصر . الشاعر معجب به ايما اعجاب وقد وصفه بالبطل . وها هو هنا يرى الصبي حجازي !! صورته على موج الرياح .. امواج البحر كلها تلهج وتصيح .. عبد الناصر .. عـــبد النــــــــــاصر … وتظهر صورة هذا البطل على تقلبات تلك الامواج .. كان الصبي عندما مات ولم تحوم حوله الا ذبابة خضراء يجري وراء الثوار والشباب الذي كان يريد عبد الناصر .. وها هو في لبنان تائه يرى صورة عبد الناصر تحمله امواج البحر .. المحصلة واحدة إذن في حياة هذين الصبيين . الصبي ليس صبيا عاديا .. انه شاعر . اليس حجازي هو الآخر قد كبر وصار شاعرا … بلى هو الآن الشاعر الذي يصرخ بوجه المدينة ويشعل النيران فيها وليس مجرد فوانيس هنا وهناك .. في المقطع الآخير سيكشف حجازي لعبة هذا الصبي وان كل تلك الخواطر والامنيات التي مرت بذاكرته لم تك غير حلم لا غير وسيكتشف نفسه بانه هو ذلك الصبي الذي رأوه وقد بلغ العشرين . العشرة المضافة هي حلم إذن وهو حلم يقظة ولا شك . لنرى كيف يكتشف امر الصبي كما يراه حجازي ، حيث يقول :-
وعندما تأخذه الصدور
وتمسح العيون وجهه المقرور
يرونه لم يبلغ العشرين
يرونه في العاشرة
(الديوان ، ص 215)
*********************
لا يزال الصبي اعتماديا على الثدي . اليس مهجورا .. اليس مقصيا .. بلى . إذن فالصدر عموما والثدي خصوصا يمثلان ينبوع الامان لدى طفل كهذا الذي تاه في شوارع بيروت .. الشطر الآخر تعزيز لتصورنا . العين لها دلالات عديدة . عن هذه الدلالات يخبرنا الباحث اللبناني صاحب معجم الرموز عنها ما يلي :-
” عضو النظر ، الإدراك الحسي ؛ رمز إتصال الرائي بالمرئي . رمز الإدراك العقلي (العين الدماغية ، مقابل العين الطبيعية ، عضو استقبال الضوء ) . والإدراك الحدسي (عين القلب) ” .
1- ترمز عين القلب ، في الاسلام ، إلى الوعي الروحاني الثابت . فالعين ، بالعربية ، كائن خاص ، كيان جوهري ، جوهر أو نبع (عين / سبيل / ماء ) . الكليات موجودة عينا في روح الله . هي عين العين (أصل الأصل) .
2- في منظار الصوفيين ، ليس عالمنا سوى حلم ، منام . أما العالم الحقيقي فهو كائن في عين الحق . العين’ ، بمعناها الحقيقي والمجازي ، هي النظر والمصدر ؛ وهي آخر المعرفة التأملية عند أبن سينا مثلا .
3- عين اليقين (علم اليقين) يرمز إلى التأمل اليقيني ، اختبار اليقين ، في بحث عما هو أيقن من اليقين : اليقين هو اختبار الحقيقة ؛ هو حدسها .
4- في الشعر العربي والفارسي ، ربط َّ بين العين والسحر والخطر والثمل . العين الساهرة هي العين الساحرة . عين الحسناء نصف ثملة ، ولكن من غير خمرة . فهي التي تأسر الوحوش الكاسرة وتقتلها ؛ وهي كأس ، نرجسة ، ظبية أو غزالة ، َصدفة ، حاوية .
5- العين الشريرة ، رمز للنفوذ والاستقواء على الآخر في العالم الاسلامي . لذا ، يكون التعوذ من شرّها بتحجب المرأة بلباسها ودينها ، وتحجب الرجل بالتقوى . العين الشريرة ’تفرغ البيوت وتملأ القبور (عين الحاسد تبلى بالعمى) .
6- الخوف هو من عيون العجائز والشابات المتزوجات . وضحايا العيون : الأطفال ، النفساء ؛ الصبايا الجميلات ؛ القمح اللبن ، الشعر ؛ الجياد والكلاب . هناك معيان ومعيون ؛ وهناك عينة ’تصاب بشر العين ، والعلاج : العياذ بالله ، الحجاب ؛ التعاويذ (رسوم هندسية وحروفية) وأغراض ساطعة وروائح عطرة ؛ وحديد احمر (نضوة الحصان) ، وملح وشبة وخرزة زرقاء وهلال ، ويد فاطمة (3) .
****************
وعلى الرغم من كل الدلالات التي تتوافر في رمزية العين الا ان حجازي يركز عيها باعتبارها رمزا للتعاطف والمشاركة الوجدانية بين الانا والانت . فالصبي لم يغادر العاشرة الا في المخيلة .. على الاقل في مخيلة نفسه ومنها انطلق في تصوره انه سوق يبلغ العشرين في نظر الاخرين لما يحمله من احلام ورؤى وتصورات . وها هو قد تعافى من تلك المخيلة وراح يبحث عن الصدر والعين فهما ينبوعا الحب والتقبل ورمز من رموز الاحتواء النفسي . وهذا يعزز من تصورنا في ان مشاعر الهجر لم تغادر شاعرنا في صباه أو شبابه وقد تكون معه ابد الدهر ما لم يسطع نوره في مدينته الحالكة الظلام . ترى هل افلح الشاعر في ذلك ؟ هذا ما لاشأن لنا به وهو امر متروك له ….
الهوامش :-
1- سيلامي ، نوربير ، 2001 ، المعجم الموسوعي لعلم النفس ، ترجمة : وجيه اسعد ، منشورات وزارة الثقافة ، دمشق ، سورية ، ج6 ، ص 2656 – 2657 .
2- سيلامي ، نوربير ، المصدر السابق ، ج4 ، ص 1640 – 1641 .
3- د. خليل ، أحمد خليل ، 1995 ، معجم الرموز ، دار الفكر اللبناني ، بيروت ، لبنان ، ط1 ، ص 123 – 124 .