شخصيات الرواية
ــــــــــــــ
1 ـ سندباد
2 ـ قوت القلوب
3 ـ الطبيب صالح
4 ـ الأمير مانو
5 ـ جايا زوجة الأمير
6 ـ الربان
7 ـ الكاهنة العجوز
8 ـ الكاهنة الأم
9 ـ الملك
10 ـ الملكة
11 ـ سارلا
12 ـ الطبيب
” 1 “
ـــــــ
منذ أيام ، والجارية دنيا زاد ، تتابع سيدها سندباد ، داخل القصر وخارجه ، وفي الحديقة ، وحتى أثناء سهرات اللهو والغناء والسمر .وبدا لها ، أنه أخذ يتغير ، فقد زايله الفرح شيئاً فشيئاً ، وبات أكثر شروداً ، وكآبة ، وميلاً إلى الصمت والهدوء والعزلة ، حتى خشيت أن يكون قد أصابه مرض ما ، أو أن الحنين إلى السفر قد عاوده من جديد ، ولعل هذا أشدّ خطورة عليه من المرض نفسه .
وهذه أمور لا تريحها ، وتثير قلقها ، فهي جديدة عليه ، وحين عاد من رحلته الأخيرة ، التي واجه فيها العملاق ، في جزيرة القرود ، قرر أن لا يسافر ثانية ، وأن يبقى في قصره ببغداد ، ويتمتع بما ربحه في التجارة ، وحصل عليه من أموال طائلة ، ما كان ليحلم بها ، في يوم من الأيام .
واليوم ، بعد الظهر ، رأته يخرج من غرفته ، صامتاً مقطباً بادي الشرود ، ومضى إلى الحديقة ، وراح يذرعها بخطوات شاردة ، ذهاباً وإياباً .
وانتظرت دنيا زاد فترة ، وهي تراقبه من إحدى النوافذ ، ثم خرجت هي الأخرى إلى الحديقة ، وأقبلت عليه ، وهي في كامل زينتها ، وقالت مبتسمة : آه يا سيدي العزيز ، الجو رائع اليوم هنا في الحديقة .
وتمنت أن يردّ عليها ، منفرج الأسارير ، كما يفعل غالباً ، وخاصة عندما يكون رائق المزاج : رائع بحضوركِ أنتِ ، يا دنيا زاد .
لكن بدل ذلك ، قال متذمراً ، دون أن ينظر إليها : لقد هربت إلى الحديقة ، فالجو كئيب خانق داخل القصر .
ومشت دنيا زاد إلى جانبه ، وقالت مبتسمة : لن يكون خانقاً ، إذا أقمنا حفلة رقص وغناء وسمر ، هذه الليلة ، بحضور محبيك ، يا سيدي .
ولاذ سندباد بالصمت ، فاقتربت دنيا زاد منه ، حتى لامسته بكتفها ، وقالت بما يشبه الهمس : سأكون أنا .. دنيا زاد .. بطلة السهرة .
وتوقف سندباد ، ورمقها بنظرة خاطفة ، وقال : إنني متعب ، يا دنيا زاد .
وتطلعت دنيا زاد إليه متأثرة ، وقالت : ليتني أعرف ، يا سيدي ، ما الذي يتعبك ، وبين يديك كلّ ما تتمنى وتشتهي وتأمر .
وابتعد سندباد بعينيه الحائرتين عنها ، وتطلع بعيداً ، بعيداً جداً ، ثم قال بصوت يشيع فيه الوهن والحزن : لا أعرف ، يا دنيا زاد ، لا أعرف .
ولاذ بالصمت لحظة ، ثم التفت إليها ، لكنه لم ينبس بكلمة ، فقالت دنيا زاد : أنت متعب ، يا سيدي ، متعب لا أكثر ، فما عانيته في رحلتك الأخيرة ، ليس بالأمر الهين ، ليتك تعود إلى غرفتك ، وترقد قليلا في فراشك الوثير ، لعلك ترتاح .
وابتعد سندباد بعينيه عنها ثانية ، وقال بصوته الواهن الحزين : اذهبي أنت ، يا دنيا زاد ، اذهبي ، سأدخل بعد قليل ، وأمضي إلى غرفتي .
وقفلت دنيا زاد عائدة إلى داخل القصر ، وهي تكتم عواطفها الدامعة ، لكنها ظلت تتابعه من بعيد ، حتى غادر الحديقة ، وعاد إلى غرفته .
ولم تهدأ دنيا زاد ، ولم تستقر في أي مكان ، لا في غرفتها ، ولا في أي مكان داخل القصر أو خارجه ، وكان لا يشغلها إلا أمر سندباد ، ما الذي يغيره ، وساورتها أفكار غيورة ، لابد أنها امرأة ، جارية أخرى ، وهذا ما تخشاه .
وقبيل غروب الشمس ، لاح لها ما رأت أنه ربما يوقفها على الحقيقة ، فقد رأت الطبيب صالح ، يدخل من باب القصر الخارجي ، ويتجه عبر الحديقة ، إلى الباب الداخلي للقصر .
وعلى الفور ، دخلت دنيا زاد على سندباد في غرفته ، وكان متمدداً يرتاح في فراشه الوثير ، وما إن رآها حتى اعتدل قليلاً ، وقال : دنيا زاد ، تعالي .
واقتربت دنيا زاد منه ، وقال بصوت رقيق : سيدي ، جاء صديقك ، الطبيب صالح .
وابتسم سندباد ، وقال : أظن ، يا دنيا زاد ، أنك وراء مجيئه الساعة .
فردت دنيا زاد قائلة : لا تلمني ، يا سيدي ، أريد أن أطمئن وأرتاح .
ونهض سندباد ، ونزل من سريره ، وقال : اطمئني ، يا دنيا زاد ، لستُ مريضاً .
وسكت هنيهة ، ثم قال : دعيه يدخل .
ومضت دنيا زاد إلى الخارج ، وهي تقول : سأدعه يدخل وحده ، إذا أردت .
وقال سندباد : هيا ، لا تدعيه ينتظر .
وخرجت دنيا زاد ، وسرعان ما أقبل الطبيب صالح ، بخطواته الشبابية ، ووجهه المتورد ، رغم تجاوزه الخمسين ، وقال : ليت لي من يدللني ، كما يدللونك ، يا صديقي العزيز ، سندباد .
ونظر سندباد إليه ، وقال : أصدقني ، يا صديقي صالح ، هل أنا حقاً مريض ؟
وهزّ الطبيب صالح رأسه ، وقال : نعم ، أنت مريض ، وسيشتد مرضك إذا لم يُعالج .
وردّ سندباد قائلاً : حسن ، أنتَ صديقي وطبيبي ، عالجه .
وقال الطبيب صالح : سافر .
وتساءل سندباد : ماذا !
فقال الطبيب صالح : هذا علاجك الوحيد ، السفر ، فسافر ، يا صديقي .
واحتج سندباد قائلاً : لكنك أنت نفسك ، قلتَ لي عندما عدتُ من رحلتي الأخيرة ، كفى ، يا سندباد ، لا تسافر .
فقال الطبيب صالح : والآن أقول لك ، أنت مريض ، سافر ، وستشفى .
واستدار سندباد ، وتوقف عند النافذة ، وراح ينظر عبرها إلى البعيد ، ثم قال : كلا ، يا صالح ، لن أسافر .
” 2 “
ـــــــ
هذه ليست المرة الأولى ، التي يقول فيها سندباد ، بعد عودته من إحدى رحلاته الشاقة الخطرة ” لن أسافر ” ، لكن ” لن ” هذه ، سرعان ما تضعف حتى تتلاشى ، تحت وطأة حياة القصر المملة الراكدة ، وإغراءات الرحيل ، وحتى مخاطر المغامرات اللذيذة ، في بحار العالم ، إلى جزر ومدن جديدة ، تدعوه مشيرة .. تعال .
وتلاشت ” لن ” هذه المرة سريعاً ، فالسفر علاج ، هذا ما قاله صديقه الطبيب صالح ، ولكي يشفى سندباد من مرضه ، لابد أن يعمل بنصيحة الطبيب ، ولا يبقى في القصر ببغداد ، ويسافر إلى البحار ، التي لا تحدها حدود ، وإلا فالمرض سيستمر ، ويتفاقم يوماً بعد يوم ، وعندها ستكون النتائج وخيمة ، لا تحمد عقباها .
وعلى هذا ، وككل مرة ، يُقدم فيها سندباد على السفر ، في رحلة من رحلاته الآسرة ، للتجارة ورؤية البلدان المختلفة ، والناس على اختلاف ألوانهم وأشكالهم ، اشترى بضاعة نفيسة ، وحزمها جيداً ، ثم سافر من بغداد ، عاصمة الرشيد ، إلى البصرة ، ليبدأ رحلة جديدة ، من رحلاته البحرية المحببة والخطرة .
واستقل سندباد مركباً ضخماً ، مع بعض التجار ، انحدر بهم من البصرة ، عبر شط العرب ، إلى الخليج العربي ، ومن هناك خرجوا إلى البحار الواسعة ، ، التي لا تحدها حدود ، وراحوا يتنقلون من جزيرة إلى جزيرة ، ومن مدينة إلى مدينة ، يبيعون ويشترون ، ويطلعون على غرائب وعجائب ، لم يعهدوها في مدنهم ، التي جاءوا منها ، من مختلف أنحاء العراق .
ومن إحدى الجزر الصغيرة ، المبثوثة كالنجوم في المحيط ، صعد إلى المركب ، شاب أصغر من سندباد بقليل ، دمث ، طيب ، وسيم ، أحبه الجميع ، ومن بينهم ، وبالأخص ، سندباد .
وقد ارتاح له سندباد على الفور ، لطيبه ودماثته وعفويته ، فحالما التقى به ، وتبادل معه أطراف الحديث ، مدّ يده إليه مبتسماً ، وقال : أنا الأمير مانو .
وتلقى سندباد يده مصافحاً ومرحباً ، وقال مقابلاً ابتسامته بابتسامة طيبة مرحبة : أهلاً بك ، وأنا تاجر من بغداد ، اسمي سندباد .
ومنذ تلك اللحظة ، ارتبطا بعلاقة وطيدة ، لتتحول مع الأيام إلى صداقة نادرة ، أقرب إلى العلاقة الأخوية منها إلى أي علاقة أخرى .
وذات يوم ، قال الأمير مانو لسندباد ، وكانا يتمشيان على ظهر المركب : كم أتمنى أن تأتي معي ، يا سندباد ، وتبقى في ضيافتي فترة من الزمن .
وضحك سندباد ، وقال : وأنا أتمنى لو تأتي معي إلى بغداد ، وترى أنها عاصمة من عواصم العالم ، بدورها وحدائقها ومستشفياتها ومدارسها وأهلها الكرماء الطيبين .
وقال الأمير مانو : حسن ، تعال معي أولاً ، فجزيرتي قريبة ، ومن يدري ، فقد يُقدر لي أن آتي معك يوماً ، وأرى حبيبتك بغداد .
ونظر سندباد إليه ، وقال : هذا ما أتمناه .
وقال الأمير مانو : تعالوا ببضائعكم إلى مدينتنا ، فهي مدينة غنية عامرة ، وملكها قريب لي ، فأنا أمير ، ولي مكانتي ، وأستطيع أن أقدمك أنت بالذات ، يا سندباد ، إلى الملك .
وتوقف سندباد ، وقال : هذه فكرة جيدة ، لكن الأمر لا يعود لي وحدي كما تعرف ، لنعرض الأمر على الربان والتجار ، وأظنهم سيرحبون بالفكرة .
وعرض سندباد الأمر على الربان والتجار ، فوافقوا متحمسين على ذلك ، وسرعان ما وجه الربان المركب صوب جزيرة الأمير مانو ، وبالفعل وصلوا إليها ، بعد أيام قلائل .
وأنزل التجار بضاعتهم من المركب ، في خان وسط المدينة ، قريباً من الأسواق والمتاجر ، ليبيعوا ويشتروا ، ويبقوا فيها أياماً ، ثم يعودوا إلى المركب ، ليشدوا الرحال مجدداً ، إلى جزر ومدن أخرى .
وأراد سندباد أن ينزل في الخان ، مع جماعته التجار ، لكن الأمير مانو اعترضه قائلاً : لن أدعك تنزل في الخان ، بل ستنزل في بيتي .
وقال سندباد : أشكرك ، أيها الأمير ، إنني تاجر ، وأريد أن أبيع وأشتري .
فقال الأمير مانو : ستنزل عندي ، وأكلف من يبيع بضاعتك ، ويشتري لك ما تريد ، وهذه فرصة يا أخي ، سأقدمك للملك .
ونزل سندباد عند رغبة صديقه الجديد الأمير مانو ، ومضى معه إلى قصره ، الذي يقع في طرف المدينة ، وقدم زوجته الأميرة جايا إليه ، وقال مبتسماً : هذه زوجتي .. الأميرة جايا .
وانحنت الأميرة جايا مبتسمة ، فقال الأمير مانو ، وهو يشير مبتسماً إلى سندباد : هذا سندباد ، أخي العزيز ، وهو تاجر من بغداد ، وسيبقى في ضيافتنا ، ما بقي في هذه الجزيرة .
فانحنت الأميرة جايا له ثانية ، وقالت : على الرحب والسعة ، القصر قصرك .
فرد سندباد قائلاً ، وهو ينحني متردداً كما انحنت له ، وقال : أشكركِ ، يا سيدتي .
والتفت الأمير إلى زوجته الأميرة جايا ، وقال : سندباد يمتدح دائماً طعامهم في بغداد ، أريه طعامنا ، ليعرف أن طعامنا فاخر أيضاً .
وابتسم سندباد محرجاً ، فقالت الأميرة جايا : في الحال ، يا عزيزي .
ومضت مسرعة إلى المطبخ ، لتعد مائدة الطعام لزوجها الأمير مانو وضيفه التاجر سندباد ، الذي جاء من بغداد ، عاصمة الدنيا ، كما قال للأمير مانو .
” 3 “
ـــــــ
انهمك التجار ، القادمون من العراق ، بالبيع والشراء ، أما سندباد فقد انشغل مع صديقه الأمير مانو ، والزوجة الشابة جايا ، بينما كان بعض تجار الجزيرة ، الذين كلفهم الأمير مانو ، يبيعون البضاعة ، التي جاء بها سندباد من بغداد ، بأثمان طيبة ، تحقق أرباحاً مجزية .
وتجول سندباد برفقة الأمير مانو ، في أرجاء الجزيرة ، وزار معظم معالمها ، وكانت الزوجة الأميرة جايا ترافقهما أحياناً ، وأحياناً تبقى في القصر ، إذا لم تكن صحتها على ما يرام .
وذات يوم ، قرر الأمير مانو أن يأخذ سندباد إلى المعبد ، ويقدمه للكاهنة الأم ، وطلب من زوجته الأميرة جايا ، أن ترافقهما إلى المعبد ، لكنها اعتذرت قائلة : أشعر بصداع ، اذهبا أنتما ، وبلغا الكاهنة الأم تحياتي .
ومضى الأمير مانو مع سندباد إلى المعبد ، وفي الطريق ، قال الأمير مانو : سندباد ، ليلة البارحة ، التقيت بجلالة الملك .
وقال سندباد : ليتني ألقاه .
فقال الأمير مانو : ستلقى جلالته قريباً ، لقد حدثته عنك مراراً ، وأبدا رغبته في التعرف عليك .
فقال سندباد : أنا متشوق للقاء جلالته .
ودخلا المعبد ، فاستقبلتهما كاهنة عجوز ، تبدو طيبة الملامح ، ورحبت بهما ، فقال الأمير مانو : نحن على موعد مع الكاهنة الأم .
فقالت الكاهنة العجوز : تفضلا ، الكاهنة الأم تنتظركما ، في جناحها .
واستقبلتهما الكاهنة الأم ، دون أن تنهض من مقعدها ، وتقدم الأمير مانو ، وقبل يدها ، وقال : طاب صباحكِ ، يا سيدتي .
وتطلعت الكاهنة الأم إلى سندباد ، وقالت : هذا ضيفك التاجر البغدادي .
فقال الأمير مانو : نعم ، يا سيدتي .
ونظرت الكاهنة الأم إلى الأمير مانو ، وقالت : أرجو أن تكون صحة زوجتك ، الأميرة جايا ، على ما يرام .
فقال الأمير مانو : أشكرك ، يا سيدتي ، الحقيقة إنها لم تستطع مرافقتنا اليوم إلى المعبد ، فهي تشكو من صداع شديد .
وقالت الكاهنة الأم ، وكأنها تريد أن تنهي الزيارة : لتشفها الآلهة الرحيمة .
وحين غادرا المعبد ، قال الأمير مانو لسندباد : يبدو أنك لم ترتح للكاهنة الأم .
فقال سندباد : عفواً ، إنها كاهنة جليلة ، ولكن خيل إليّ أنها حادة وصارمة .
وابتسم الأمير مانو ، وقال : أنت محق ، إن البعض هنا ، يسمونها السيف .
وابتسم سندباد بدوره ، وقال : حقاً إنها سيف ، وأي سيف .
ولم تمض ِ أيام قلائل ، حتى مال الأمير مانو على سندباد ، وقال له : تهيأ ، يا صاحبي ، غداً سنذهب إلى القصر ، ونلتقي بالملك .
وفي الغد ، ويا لمشيئة القدر ، لم يلتق ِ سندباد بجلالة ملك الجزيرة فقط ، وإنما التقى بالفتاة ، التي ستقلب حياته رأساً على عقب .
فحين ذهبا ، صباح الغد ، إلى قصر الملك ، التقيا بالملكة ، وكانت برفقتها الفتاة الموعودة ، وانحنى الأمير مانو للملكة ، وقال : مولاتي ، هذا صديقي التاجر سندباد ، وهو من بغداد .
وابتسمت الملكة ، وهي تنظر إلى سندباد ، وقالت : أهلاً بك ، في جزيرتنا ، لقد سبقتك إلينا عطورك العربية الرائعة .
فانحنى سندباد لها قليلاً ، وقال : أشكركِ ، يا مولاتي ، هذا لطف منكِ .
وحانت منه نظرة سريعة إلى فتاة شابة ، كانت تقف إلى جانبها ، وبدا له أنها نظرت إليه هي الأخرى نظرة خاطفة ، ولا يدري لماذا شعر بأنه يعرف هذه الفتاة ، وأنه ربما قد رآها من قبل ، في مكان ما .
وقالت الملكة : تفضلا ، أظن أن جلالة الملك ينتظركما في قاعة العرش .
وانحنى الأمير مانو ، وقال : نستودعك الآلهة .
فقالت الملكة : رافقتكما السلامة .
ومشى سندباد إلى جانب الأمير مانو ، متجهين إلى داخل القصر ، دون أن ينتبه إلى أن تلك الفتاة الشابة ، التي كانت برفقة الملكة ، تابعته رغم إرادتها بعينيها السوداوين الحييتين .
واستقبلهما الملك مرحباً ، في قاعة العرش ، ثم خاطب سندباد قائلاً : لقد تجولت في مدينتنا ، على ما قاله لي الأمير مانو .
فقال سندباد : نعم ، يا مولاي ، وهي مدينة رائعة .
وقال الملك ، وقد بدا مرتاحاً من رأي سندباد : لو قارنتها بمدينتك بغداد ، وهي مدينة عظيمة ومتقدمة ، ماذا ينقصها في رأيك ؟
فردّ سندباد قائلاً : مدينتكم رائعة ، وستكون أروع لو بنيتم فيها ، كما في بغداد ، مدرسة يتعلم فيها الصغار ، ومستشفى يعالج فيه المرضى .
والتفت الملك إلى الأمير مانو ، وقال : اسمع ما يقوله صديقك البغدادي .
وصمت لحظة ، ثم قال : هذا ما أريد أن تشرف على بنائه في جزيرتنا هذه ، يا سندباد ، وسيعاونك في هذا الأمير مانو .
فقال سندباد : عفواً مولاي ، أنا تاجر ، وقد أسافر من جزيرتكم بعد أيام .
فقال الملك : لن تسافر ، يا سندباد ، وستبني لنا المدرسة والمستشفى ، بعد موافقتك طبعاً .
وعلى الفور ، تراءت له الفتاة الشابة ، التي رآها في حديقة القصر ، برفقة الملكة ، ترى من هي ؟ ولاذ بالصمت ، ولم يعترض بكلمة واحدة .
” 4 “
ـــــــ
خلال أسابيع ، باع التجار الذين جاء سندباد معهم بعض البضائع التي أتوا بها من بغداد ، واشتروا ما يتوفر في تلك الجزيرة من بضائع ، ثم نقلوا تلك البضائع إلى المركب ، لينتقلوا على عادتهم إلى مدينة أو جزيرة أخرى ، ليواصلوا البيع والشراء .
وقبل أن يصعد التجار إلى المركب ، ويرحلوا عن الجزيرة ، إلى جزيرة أخرى ، تشاوروا في ما بينهم حول سندباد .
وقال أكثر من واحد منهم ، إنه لن يأتي ، فقد باع تجار من المدينة بضاعته كلها ، ولم يشتروا له بضاعة ، يمكن أن يتاجر بها .
لكن الربان قال لهم : مهما يكن ، لن نغادر هذه الجزيرة إلا بعد أن يقول لنا ذلك بنفسه.
فقال له أحد التجار : هذه مهمتك ، أنت الربان ، اذهب إليه بنفسك ، واعرف موقفه .
فقال الربان : نعم هذه مهمتي ، فأنا ربان المركب ، سأذهب إليه ، وأعرف موقفه .
وهذا ما حدث بالفعل ، فقبل رحيلهم بيومين أو ثلاثة أيام ، ذهب الربان عصراً ، إلى قصر الأمير مانو ، والتقى بسندباد ، وقال له : نحن سنرحل ، من هذه الجزيرة ، خلال أيام قلائل ، ونريد أن نعرف موقفك أنت .
فردّ سندباد : ارحلوا أنتم ، أما أنا فسأبقى هنا ، ربما بعض الوقت ، فلدي عمل التزمت به أمام الملك ، وعليّ أن أنجزه .
ونهض الربان ، وقال : نتمنى لك التوفيق .
فعانقه سندباد قائلاً : تحياتي إلى جميع الإخوة التجار ، رافقتكم السلامة .
وخلال هذه الفترة ، وبعد رحيل المركب ، انشغل سندباد مع الأمير مانو ، ببناء المستشفى والمدرسة ، اللتين وعد الملك بالإشراف على بنائهما ، وكان كلما ذهب إلى القصر ، بصحبة الأمير مانو طبعاً ، للقاء الملك ، كانت عيناه تبحثان متلهفتين عن الفتاة الشابة السمراء ، التي كانت برفقة الملكة ، حين زار الملك لأول مرة .
ورغم تلهفه لمعرفتها ، أو معرفة اسمها على الأقل ، إلا أنه تردد في أن يسأل الأمير مانو ، والأميرة جايا ، عنها .
وذات يوم ، وهم على الغداء ، في قصر الأمير مانو ، وكانت زوجة الأمير مانو ، الأميرة جايا ، معهم على المائدة ، قال سندباد وكأنما عرضاً : في المرة الأولى ، التي زرت فيها الملك مع أخي الأمير مانو ، رأيت مع الملكة فتاة شابة ..
وسكت سندباد محرجاً ، فابتسمت الأميرة جايا ، وقالت : سارلا .
وتساءل سندباد مندهشاً : سارلا !
فقالت جايا : هذا اسمها .
وغمغم سندباد ، وكأنما يحدث نفسه : سارلا .
ونظرت جايا إليه ، وقالت مبتسمة : سارلا صديقتي الحميمة ، وهي ربيبة الملكة ، تحبها كما لو كانت ابنتها ، أو أختها الصغيرة .
وسكتت برهة ، ثم استطردت قائلة : سارلا فتاة رائعة تمناها الكثيرون ، وأصارحك ، لقد جاءتني قبل أيام ، وسألت عنك ، هي أيضاً ، وعرضاً كما سألت أنت .
وضحك الأمير مانو ، وقال : جرب حظك معها ، يا سندباد ، من يدري ماذا يخبئك لك القدر ، في جزيرتنا هذه .
وتوقف سندباد عن تناول الطعام ، وتساءل قائلاً : ماذا تقول ، يا مانو ؟
وعلقت الأميرة جايا مبتسمة : جرب ، يا سندباد ، من يدري ، قد ستنجح .
وقال الأمير مانو : بل سينجح .
وقبل أن يرد سندباد بشيء ، أضاف الأمير مانو مخاطباً زوجته جايا : هذه أفضل طريقة لإبقائه معنا ، إلى الأبد في هذه الجزيرة .
فقال سندباد بصوت متردد : لكن آه .. هذا يبدو مستحيلاً .
وقالت جايا مبتسمة ، وهي تنظر إلى مانو : مثل هذه العواطف ، لا تعرف المستحيل ، اسألني واسأل مانو .
وضحك مانو ، وقال وهو يغمز لجايا : جرب ، يا سندباد ، وسترى .
لكن ما بدا مستحيلاً لسندباد ، بدأ يصير ممكناً ، وخاصة بعد أن عرفت الأميرة سارلا نفسها بالأمر ، وتأكدت أن سندباد يبادلها نفس العواطف ، التي تكنها له .
وقد أفرح هذا كلّ من عرف سارلا وسندباد ، عدا الكاهنة الأم ، فهي ما إن عرفت بالأمر ، حتى هبت من مقعدها ، وقالت منفعلة : كلا ، أخي يريدها .
ولكن لأن سارلا كانت تريد سندباد ، وليس أخا الكاهنة الأم ، تدخلت الملكة ، وقالت : لن تكون سارلا إلا لمن أرادته هي ، سندباد .
وهذا ما حدث بالفعل ، فخلال أسابيع قليلة ، تزوج سندباد من سارلا ، في حفل بهيج ، حضره الملك والملك ، وقد أهداهما الملك قصراً جميلاً ، يطل على البحر ، فحلا فيه فرحين غاية الفرح .
وبدا لسندباد وسارلا ، ولكل من يعرفهما ، أن السعادة قد حلت عليهما ، وأنها ستقيم بينهما حتى النهاية ، لكن السماء الزرقاء الصافية ، لا تبقى دائماً صافية ، فالرياح السوداء ، إذا هبت ، لا تأتي إلا بالغيوم السوداء ، فآه من .. الغيوم السوداء .
” 5 “
ـــــــ
ظهرت أولى تلك الغيوم ، في سمائهما الصافية الزرقاء ، عندما سقطت الأميرة جايا ، زوجة الأمير مانو مريضة ، وبدا عليها الضعف والوهن ، مما اضطرها إلى ملازمة الفراش .
وزارها الطبيب ، وهي في فراشها ، وحولها زوجها الأمير مانو ، وسندباد وزوجته سارلا ، وفحصها فحصاً دقيقاً ، ثم قال : اطمئنوا ، إنه دلال لا أكثر ، ستتحسن صحتها ، وتنهض من الفراش ، خلال أيام قلائل .
وتناهى الأمر إلى الكاهنة الأم ، وقد أنصتت ملياً إلى الكاهنة العجوز ، التي نقلت لها هذا الأمر ، فنظرت بعيداً عبر النافذة ، وقد ازداد تجهمها ، ولم تنبس بكلمة واحدة .
وعلى العكس مما قاله الطبيب ، لم تتحسن صحة جالا ، رغم مرور الأيام ، والرعاية المستمرة من قبل الأمير مانو وزوجة سندباد سارلا ، بل اشتد عليها المرض يوماً بعد يوم ، حتى باتت لا تقوى على النهوض ، ومغادرة فراشها .
وزارها الطبيب مرات ومرات ، وفي كل مرة ، كان يغير الأدوية ، ويقول حائراً : ماذا يجري ؟ لك اطمئنوا ، ستشفى .
وبدل أن تشفى ، كانت صحة جايا تتدهور يوماً بعد يوم ، وراح الذبول يصيب عينيها ، ودا أن الحية تنطفىء فيهما .
وذات مساء ، عاد سندباد متعباً من موقع العمل ، في المدرسة والمستشفى ، فوجد زوجته سارلا حزينة ، دامعة العينين ، فتساءل متوجساً : ما الأمر ، يا سارلا ؟
فردت سارلا بنبرة باكية : جايا .
وقال سندباد : لا عليك ، يا سارلا ، الطبيب يسهر على علاجها ، وهو يقول دائماً ، إن صحتها ستتحسن ، وستشفى .
وهزت سارلا رأسها ، وهي تكاد تجهش باكية ، فمدّ سندباد يديه إليها ، وأخذها إلى صدره ، وقال : أعرف أنك خائفة عليها ، يا سارلا ، لكن اطمئني ، إنها شابة ، وستجتاز هذه المحنة .
لكن جالا لم تجتز المحنة ، فعند منتصف تلك الليلة ، بلغهم النبأ الصاعق ، لقد صدقت نبوءة الكاهنة الأم ، ورحلت جالا .
وأجهشت سارلا بالبكاء ، فنظر سندباد إليها ، وقال بصوت مفعم بالحزن : مسكينة جالا .
وقالت سارلا ، من بين دموعها : ومسكين مانو أيضاً ، إنه مازال شاباً .
وهز سندباد رأسه ، وقال : نعم ، مسكين ، كان يعبدها ، ولا أدري كيف سيعيش من دونها .
وسكت لحظة ، ثم قال بصوت حزين : الإنسان لا يعرف ما قد يصيبه ، في هذه الحياة ، مهما يكن ، هذا قدره .
وازداد بكاء سارلا ، وهي تقول بنبرات تغرقها الدموع : لكن مانو لن يعيش ، لقد انتهت حياته بانتهاء حياة حايا .
ومدّ سندباد يديه ، وأخذ سارلا إلى صدره ، وراح يربت على ظهرها مفكراً في تقوله زوجته سارلا ، مهما يكن ، إنها في غاية الحزن ، وربما لا تعرف ماذا تقول .
ويبدو أن سندباد ، هو من لم يعرف ما قصدته سارلا ، وعرف ذلك بالتدريج فيما بعد ، فحين أسرع إلى الأمير ، لتعزيته بوفاة زوجته جالا ، وقال له بصوت حزين ، وهو يشد على يده : البقاء في حياتك ، هذه هي الحياة ، علينا أن نتحمل مصائبها ، ونستمر .
تمتم الأمير : نستمر !
فقال سندباد : هذا ما علينا أن نفعله ، الحي أبقى من الميت ، يا أخي مانو .
فقال الأمير مانو ، وعيناه غارقتان بالدموع : لم يعد لي حياة ، بعد موت زوجتي جايا .
ونظر سندباد إليه صامتاً ، فتابع الأمير بصوت متشنج : تلك هي عادتنا في هذه الجزيرة ، يا سندباد ، لابد أن أذهب مع زوجتي إلى القبر ، نعم ، عليّ أن أذهب إلى القبر ، ولو كنت أنا المتوفي ، لذهبت هي معي إلى القبر .
وصعق سندباد أمام ما قاله الأمير ، وتذكر ما قالته له زوجته سارلا ، ولم يفهمه بالضبط وقتها ، وكيف يمكن أن يفهم مثل هذا الأمر ، الذي لم يذكر حدوثه في أي مدينة زارها ، خلال رحلاته الكثيرة ، في طول الأرض وعرضها .
وفي صباح اليوم التالي ، تجمع المشيعون في قصر الأمير مانو ، وقبيل منتصف النهار ، حمل بعض المشيعين التابوت على أكتافهم ، وساروا به إلى خارج المدينة ، وبقية المشيعين يحيطون بالأمير مانو ، ويسيرون ببطء وجلال وراء التابوت .
ووصل الجميع إلى جبل خارج المدينة ، وتوقفوا عند مكان قريب من السفح ، ورفع الدفانون حجراً ضخماً ، عن فوهة جب عميق موحش ، وأنزلوا التابوت فيه ببطء ، بواسطة الحبال ، ثم سحبوها من داخل الجب .
وأحاط المشيعون بالأمير مانو ، وراحوا يعزونه من جديد ، ويقبلونه قبلة الوداع ، وتقدم سندباد منه ، دامع العينين ، وعانقه بحرقة ، وقال بصوت كالبكاء : أخي مانو ..
فعانقه الأمير مانو ، وكأنه يواسيه وقال : هذه عاداتنا ، يا سندباد ، وقد ورثناها عن آبائنا وأجدادنا ، عش أنت حياتك ، وداعاً .
وعند حوالي الغروب ، ربط الدفانون الأمير مانو بالحبال ، وأنزلوه إلى الجب ، وأنزلوا معه كوز ماء ، وسبعة أرغفة من الخبز ، وثلاث شموع ، ثم سحبوا الحبال ، وأعادوا الحجر الضخم إلى فوهة الجب ، ثم قفلوا عائدين ، مع غروب الشمس ، إلى المدينة .